دفء إقليمي لولادة الحكومة
سليمان تقي الدين
تتشكّل الحكومة وفق «الأحكام السلطانية» التي ترعى شؤوننا اليوم. لسنا بحاجة إلى تفسير الدستور والاجتهاد فيه، بل نحن بحاجة إلى معرفة «خطط الشام» و«شعاب مكة». يقال إنه ستقوم حكومة تجمع كل الطيف السياسي اللبناني بجميع تناقضاته ويتعايش فيها دعاة «لبنان أولاً» و«العروبة أولاً» وأولوياتهم الفعلية أدنى من هذا وتلك.
لن يستطيع اللبنانيون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم طالما أن قياداتهم السياسية يجري إنتاجها كما تنتج نجوم «هوليود». كانت الانتخابات مبايعة لزعماء الطوائف الذين يملكون وكالات حصرية على طوائفهم بواسطة هذه اللعبة الدولية التي جعلت من هذا البلد الصغير مسرحاً لها. الانتخابات وحدها ليست الديموقراطية، والديموقراطية السياسية المجبولة بالطائفية ليست الحل. لقد حوّلنا هذا النظام السياسي إلى جمهور من الضفادع في بحيرة من التماسيح. غداً يتلاشى وهج الانتخابات ونصحو على المشكلات المعلقة على حبال الطوائف التي خرجت جميعها منتصرة «بوحدتها»، لكنها تركت البلاد أكثر ضعفاً ووهناً. فلا الزعيم الأوحد ولا الحزب الواحد يصنعان بيئة وطنية توفر أمناً واستقراراً وتقدماً اجتماعياً وعدالة. ولا السلطة المتناقضة قادرة على إدارة مجتمع فاقد هويته الوطنية الجامعة.
لم نتعلّم بعد أن الزعماء يستثمرون المشاعر الطائفية ويتلاعبون بها خدمة لأغراض سياسية سلطوية. حين يصعدون إلى منابر التحريض يظهرون وكأنهم يصنعون القرارات ويحرّكون السياسات الإقليمية، وفي نهاية المطاف ينصاعون إلى توجيهات القوى الخارجية الراعية لهم.
لكن المسألة بين لبنان وسوريا هي أبعد من تلقّي النفوذ السياسي والحاجة إلى إدراجه في المعادلات الداخلية. كل التيارات السياسية التي ناصبت سوريا العداء انكسرت في الداخل اللبناني وليس في المواجهة معها. ورغم تناوب التحالفات والخصومات مع سوريا، فإن الحاجة إلى علاقة قائمة على مصلحة الشعبين والدولتين كانت هي التي تنتصر.
أياً يكن تيار الشوفينية اللبنانية، مسيحياً أم مسلماً، متغرّباً أم مرتبطاً بمعسكر عربي، تبقى الجغرافيا بكل أبعادها العنصر المرجّح لكل نفوذ ولكل علاقات. لم يضعف تيار الانعزال اللبناني المسيحي فقط في تجربة المواجهة مع سوريا، بل كذلك حصل للحركة الوطنية اللبنانية، وحليفتها منظمة التحرير الفلسطينية في عز وهج القضية الفلسطينية عربياً.
ولن ينقذ مشروع الانعزال اللبناني أن يتوطن في طائفة العروبة إذا هي توهّمت أن تاريخها وموقعها يعفيانها من عبور بوابة سوريا إلى الداخل العربي. في واقع الأمر إن الذي قاد حركة الكيانية خلال السنوات الأربع الماضية إنما توهّم أو راهن على التغيير في سوريا بفعل الهجوم الغربي على المنطقة. هو أراد أن يلاقي حركة التغيير أو يستعجلها، لكنه يعرف أن لبنان لا يحكم ضد سوريا، ولو أن المطلوب أيضاً أن لا يحكم منها.
صُدم بعض القوى وهو يتابع حركة رئيس الحكومة المكلّف، والسعي السعودي لفتح طريق دمشق له. هذه القوى نفسها هي التي أطالت أمد الحرب الأهلية وهي تراهن على إنتاج وضع لبناني انفصالي تصادمي، ولأنها فشلت آنذاك أخذت المسيحيين رهينة لهذا المشروع وأخرجتهم من الإطار الوطني وجعلتهم في مواجهة مع جزء كبير من باقي اللبنانيين. ولقد سمعنا خلال السنوات الأربع الماضية كيف أن هذا الفريق كان جازماً أن «العروبيين» هم الذين جاؤوا إلى أحضان مشروعه القديم وليس العكس، وفي هذا التشخيص الكثير من الحقيقة. لكن هؤلاء العروبيين، الذين انجرفوا في موجة العصبية الطائفية فصاروا انعزالية جديدة، لا يمكن لهم أن يظلوا في هذا الموقع الشاذ وأن يكونوا في صدارة تمثيل لبنان وقيادته وإدارة شؤونه بالعداء مع سوريا.
لكن الدرس الأهم الذي يجب أن نستخلصه هو أن الانقسام اللبناني يجعل لبنان ساحة للتلاعب بمصيره، وأن وحدة اللبنانيين هي التي تعزز إمكانات بناء علاقات متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل لإرادة الفريقين. فهل كان على اللبنانيين أن يهدروا هذه السنوات الأربع من استقرار بلدهم لكي يدخلوا دمشق في ركاب العلاقات الأميركية المتجددة أو التفاهم السعودي السوري؟! وإذا كان ما حصل قد حصل فهل بقيت من اللبنانيين جماعة من أهل السياسة تعتقد أن لديها ما تضيفه من شروط على علاقة تطلبها أكثرية اللبنانيين وبات يطلبها «المجتمع الدولي» الذي تستظل قوته وشرعيته الفاسدتين!؟
ستتشكّل الحكومة من زعيم له شرعيته الشعبية، لكنه يحتاج إلى التعاون مع دمشق لكي يأخذ شرعية تمثيله لكل لبنان، ولو عرف كيف يكسب شرعية وطنية شاملة لكانت دمشق جاءت إليه قبل أن يذهب إليها.