يوسف شاهين: رائد قضي ستين عاما في صناعة الفيلم والمشاكسة
ابراهيم درويش
في مرضه ووفاته لم يثر يوسف شاهين (1926 2008)، الصخب الكبير حوله، ولكنه في حياته التي استمرت ستين عاما في السينما ملأ العالم بالصخب، الموسيقي والرقص والجدل. فقد كان شاهين مخرجا شجاعا وانجز مشروعا سينمائيا، قدم افكارا جديدة وخيالا، وواقعية ساحرة ومثيرة كما اشار جين رينوار مرة. وشاهين نقل السينما المصرية للعالم، ووضع معايير للسينما المصرية والعربية وقدم عددا من كلاسيكيات السينما العربية. ومع انه كان في قلب السينما وعبر عن هموم الطبقة المسحوقة واحلام الطبقة البرجوازية، ونقل عالم مصر ما قبل الثورة وبعدها، فقد كان واعياً بدور الفنان ومسؤوليته. وأكد ان حرب عام 1967 كانت حافزا مهما له بوعي دور الفنان ومسؤوليته، مشيرا الي ان هذا الوعي تشكل لديه بعد ثورة الضباط الاحرار 1952. قدم شاهين سينما وثقت لجيل التحرر من الاستعمار وجيل هزيمة حزيران (يونيو) وسجل هموم العولمة وشروط الزمن الامريكي، وارهاصات وتداعيات ما بعد التفجيرات علي امريكا. وهو وان لقي الحفاوة في المهرجانات الدولية بسبب جدلية ما يطرح وخاض معارك داخل مصر مع من عارضوا افلامه الا ان افلامه ظلت لصيقة بالهموم الوطنية والعروبية والقومية. وتمثل افلامه الاولي “الارض”، (1969) الذي يعتبر ملحميا عن كفاح الفلاحين من اجل ارضهم في دلتا النيل ” صراع في الوادي” و “جميلة الجزائرية” و “الناصر صلاح الدين” تعبيرا عن همومه القومية والوطنية وفيها شاعرية الانتصار والمرارة. وجاءت افلام مثل “العصفور” و “الاختيار” و “عودة الابن الضال” لتثير هموم مرحلة ما بعد الهزيمة. ثم جاءت مرحلة السيرة الذاتية في رباعية الاسكندرية وخلالها جاءت هموم التسامح والتعددية والتصدي للتشدد في افلام مثل “المهاجر” و “المصير” واخيرا مرحلة ما بعد هجمات ايلول (سبتمبر) وقضية العولمة في افلام مثل “هي فوضي” الذي لم يكمله وغيرها. وقد تميزت سينما شاهين بالجرأة وميلها نحو المشاكسة وان كانت افلامه الاولي اعمق واكثر واقعية وساخرة الا انها اتجهت في مرحلة لاحقة نحو الفانتازيا والاستعراض وتميزت بحس سيريالي. قال شاهين مرة ان الحظ كان وراء تقدير النقاد في الخارج له فقد
اخذ فيلمه “ابن النيل”الي مهرجان البندقية، ولم يكن يتوقع ان يثير اهتمام النقاد خاصة انه جاء من مخرج شاب، لكن الحظ كان سببا في معرفة النقاد باعماله وبقيمته كمخرج، حيث هبت عاصفة اثناء عرضه الفيلم قرب الشاطئ مما اضطر المصطافين للبحث عن غطاء من المطر ووجدوه في قاعة العرض، وعلق شاهين ضاحكا ان مشاهدي فيلمه الاول جاؤوا اليه بملابس السباحة. لكن حظ شاهين في الخروج للعالم لا يغطي علي عبقريته السينمائية ولا علي انجازه فهو اكثر المخرجين العرب والمصريين خاصة تماسكا من ناحية التجربة السينمائية واستمرارية، فقد كانت السينما تعني له كل شيء علي الرغم من دراسته في كلية النخبة في مصر في عهدها، كلية فيكتوريا الا انه اختار في وقت مبكر الاخراج والعمل السينمائي حيث سافر الي امريكا وتدرب في معهد باسادينا في كاليفورنيا للتمثيل قبل ان يعود ويبدأ مشواره السينمائي. كان شاهين ابن الاسكندرية ويجسد المدينة في تعددها وتنوعها، وقد قال مرة ان خمس لغات كانت تستخدم في بيته لكنه كان “خائبا” ولم يتقن ايا منها، وقال مفتخرا انه نتاج لكل التنوعات في مدينته فهو عربي واغريقي ومسيحي ومسلم ودرزي في اشارة الي الاصول التي شكلت عائلته. وقد عكست هذه الاصول عددا من القضايا التي عالجها في افلامه التي وصلت الي اربعين فيلما، وحاولت استكشاف فكرة الهوية، معني ان تكون مصريا، وفكرة التصالح والتسامح ، وهو ان اثار حوله عواصف في انتقاده لما اسماه الظلامية الاصولية، وتجرؤه علي طرح موضوعات اشكالية بدأت من باب الحديد وفي رباعيته الا انه ظل متجذرا في مدينته الاسكندرية، وثلاثيته او رباعيته تأخذ الكثير من مدينته، تنوعها وتسامحها وانفتاحها، وتأخذ كثيرا من سيرته، “اسكندرية ليه” (1978) و”حدوتة مصرية” (1982) و”اسكندرية كمان وكمان” (1989). وفي الفيلم الاول من الثلاثية قدم اشرطة حرب من المتحف الحربي البريطاني، واغاني من الافلام الاستعراضية الامريكية ذلك ان الشاب كان مهووسا بأفلام هوليوود. وتمثل افلام شاهين صورة من تحولات شاهين ومستويات الفهم التي تم تلقيها، فقد حسبت بعض افلام الثلاثية علي معسكر التطبيع كما شجبت الجماعات الاسلامية افلامه اللاحقة، واعادت الحجارة التي رماها علي الجنود الاسرائيليين عند بوابة فاطمة اعتباره كما ان مواقفه من السياسة المصرية وضعته علي طرف النقيض مع المؤسسة المصرية واعتبرت افلامه الاخيرة معادية لامريكا. لكن ما يهم في صنعة شاهين السينمائية انها تحتفل بالانفتاح وتتجرأ علي فتح جبهات جديدة تعتبر جدلية.
ولد يوسف شاهين في مدينة الاسكندرية اثناء الاحتلال البريطاني، في عائلة مسيحية، الاب محام اصوله لبنانية/ سورية والام اصولها يونانية. وتلقي تعليمه الاولي في المدارس المسيحية (الفريرز) وانتقل بعدها الي كلية فيكتوريا. بدأ عشقه للسينما عندما شاهد وهو طفل مسرح خيال الظل.ذهب شاهين لجامعة الاسكندرية بعد ان رفض والده تلبية رغبته بان يدرس التمثيل ولكنه نجح باقناع والده اخيرا وسافر الي امريكا وانضم الي معهد باسادينا في كاليفورنيا وقضي فيه 3 اعوام. بعد عودته الي مصر قرر الدخول في مجال الاخراج السينمائي حيث قدم اول اعماله “بابا امين” (1950) وكان عمره 24 عاما. وبعده اخرج فيلم “ابن النيل” (1951). ولكن فيلمه “باب الحديد” (1958) يمثل انطلاقته الحقيقية، حيث وقف فيه شاهين لأول مرة امام الكاميرا ولعب دور قناوي بائع الصحف المقعد والمعتوه الذي كان يعشق سرا هنومة بائعة الشراب ويعتبر الفيلم البداية الحقيقية لشاهين كمخرج جاد وصاحب رؤية. في عام 1963 اخرج شاهين فيلم “الناصر صلاح الدين” الذي قدم فيه صورة عن البطل المسلم،وقدمت له السلطة المصرية كل ما يريد ووضعت تحت امرته 600 جندي و 120 فارسا، وقد فهم من الفيلم انه محاولة للمزاوجة بين شخصية البطل التاريخي وجمال عبدالناصر. ومع ان شاهين دعم ناصر الا ان خلافه مع وزير الثقافة حول فيلم اخر عني ان الفيلم تم تجاهله. في عام 1965 قام شاهين باخراج فيلم “بياع الخواتم” والذي مثلت فيه فيروز، واخرج في عام 1958 فيلما عن البطلة الجزائرية جميلة بوحريد “جميلة الجزائرية” الفيلم المناهض للاستعمار وتم قبل استقلال الجزائر . في عام 1972 انشأ شركة مصر وفي هذه الفترة بدأت مصاعبه الصحية حيث تعرض لجلطة في القلب واجريت له عملية اثناء تصويره فيلم “العصفور” الذي عكس فيه آثار هزيمة عام 1967 . في التسعينات من القرن الماضي قدم فيلمه “المهاجر” الذي اثار احتجاجات لتصويره النبي يوسف ومع ان شاهين ربح معركة قضائية الا ان الفيلم لم يعرض في اي دار للسينما خوفا من المتشددين. وفي عام 1997 ثارت ضجة اخري حول فيلمه “المصير” الذي اعاد فيه حياة الفيلسوف المسلم ابن رشد. وقد رفض شاهين كل الاتهامات الموجهة له قائلا انه لا يوجد شيء اسمه ارهاب اسلامي بل ارهاب. اثار شاهين العديد من المعارك مع المؤسسة فقد انتقد ما ينتجه التلفزيون الرسمي واعتبره تافها. ومع انه احب هوليوود ودرس في امريكا الا ان علاقته مع امريكا ظلت غامضة ففي فيلمه ” اسكندرية ليه” (1978) يضحك تمثال الحرية ساخرا علي المهاجرين القادمين لامريكا. فقد قال شاهين مرة “عندي مشكلة مع امريكا.. كنت احبها كثيرا، درست فيها، وحبي الاول كان فيها.. لا اكره امريكا كما يظن البعض ولكن من الصعوبة التعاطف معها” وبعد هجمات ايلول (سبتمبر) قال شاهين ان علي امريكا ان تشاهد فيلمه “المصير” لكي تفهم سبب التفجيرات. وعلي الرغم من الاحتفالية التي اقيمت له في مركز لينكولن في نيويورك وعدد من المدن الامريكية عام 1998 وعرضت فيها 15 من افلامه الا ان فيلمه القصير عام 2002 في مرحلة ما بعد الهجمات علي امريكا ادي لاعتباره معادياً لامريكا من قبل مجلة “سترايدنت”. وقد اخبر كاتبة نعيه في صحيفة “الغارديان” شيلا ويتكر ان امريكا عوضا عن نشر قيمها تقوم بتدمير الحضارات. كتب شاهين معظم نصوص افلامه بدءاً من “المهرج الكبير” عام 1952 وكان وراء اطلاق عدد من الممثلين والمخرجين من مثل عمر الشريف الذي قدمه في فيلم “صراع في الوادي” (1953) ولعبت المغنية الفرنسية من اصل مصري داليدا دورا في فيلم “اليوم السادس” (1986). ولعب عدد من الممثلين الفرنسيين ادوارا في افلامه وكذا المغنية التونسية لطيفة. في عام 1997 قدم له مهرجان كان جائزة الاستحقاق السينمائي، وفي عام 2004 ختم مهرجان “كان” بعرض فيلمه “اسكندرية … نيويورك”. في عام 2007 بدأ شاهين العمل علي فيلم “هي فوضي” الذي لم يكمله بسبب المرض واكمله تلميذه خالد يوسف وعرض في مهرجان البندقية عام 2007. ويقدم الفيلم صورة عن عنف الدولة ضد دعاة الديمقراطية وفساد الشرطة وتعذيب السجناء.
في نهاية حياته تحول شاهين لناشط سياسي ضد الفساد في مصر وضد العقلية العسكرية الامريكية. وفي عام 1992 طلب منه المخرج جاك لاساب ان يخرج مسرحية للكوميدي فرانسيز واختار مسرحية للكاتب المعروف البير كامو “كاليغولا” وكانت عملا ناجحا وهي عمله المسرحي الوحيد. سينما شاهين، في نخبويتها وتجذرها وواقعيتها وسرياليتها هي صورة عن تحولات فنان ومجتمع راقبه المخرج لأكثر من نصف قرن، وعبر عن صعوده وهبوطه واشواقه وافراحه، بحس فانتازي لم يخل من المرح والمرارة وهو في النهاية يقف في مصاف المخرجين الكبار.
من افلامه الاخري
بابا امين (1950) ابن النيل (1951)، صراع في الوادي (1954) نساء بلا رجال (1953)، شيطان الصحراء (1954) انت حبيبي (1957)، نداء العشاق (1960)، فجر يوم جديد (1964)، الناس والنيل (1968)، الاختيار (1970)، انطلاق (1973)، عودة الابن الضال (1976)، وداعا بونابرت (1985)، القاهرة منورة بأهلها (1991)، سكوت ح نصور (2001).
كاتب من اسرة القدس العربي