الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةبرهان غليون

احتجاجات إيران: المضمون والدوافع

null
د. برهان غليون
شكلت أحداث إيران خلال الأسبوعين الأخيرين فرصة جديدة لتأكيد الانقسام داخل الرأي العربي بين معسكرين، جرت العادة على تسمية أحدهما معسكر “الاعتدال” والثاني معسكر “الممانعة”. نظر البعض في المعسكر الأول إلى ما يجري هناك على أنه ثورة ديمقراطية أو بداية ثورة قاعدتها الشباب والطبقات الوسطى المتعلمة، وسكان المدن الراغبون في دخول العصر، تسعى لتحرير إيران من نظام الملالي والعودة بها إلى حكم مدني يتماشى مع القيم العصرية. وفي ظنهم أن مثل هذا التحول يعني أموراً ثلاثة تدفع إلى تخلي إيران عن سياسة الهيمنة الإقليمية، وإلى التعاون مع حكومات المنطقة لإيجاد حلول تحفظ أوضاعها القائمة؛ بما في ذلك وضع حد للمواجهة بين طهران والغرب وما نجم عنها من ضغوط غربية متزايدة على الدول العربية، ووضع حد لجذوة الحماس الديني وما نجم عنه من توترات فاقمها الحديث المتكرر عن التشيُّع، وكذلك إيجاد حل سياسي لمشكلة “النووي” الايراني.
وبالمقابل، عاش فريق “الممانعة” العربي فترة شك عصيبة لم يحسمها إلا مصادقة المرشد خامنئي على فوز الرئيس نجاد ورفضه أي تشكيك في نزاهة الانتخابات الرئاسية. ونظر أصحاب الممانعة إلى ما يجري في إيران على أنه محاولة غربية لزعزعة استقرارها والتشكيك في إمكانية بقاء نظامها، بل ثمرة مباشرة للتدخلات الخارجية.
وبينما لزمت معظم العواصم العربية الصمت، هنأت دمشق الرئيس نجاد على الفوز واعتبرته رداً على هذه التدخلات عينها. أما بغداد فاكتفت بتصريح وزير خارجيتها زيباري الذي أكد أن “العراقيين يحترِمون إرادة الشعب الإيراني ويحترِمون نظامه السياسي، وليْـسوا في موقِـف لإصْدار حُـكم على خياراتهم”.
ما هو المضمون العميق لهذه الحركة التي دفعت إلى شوارع المدن الإيرانية ملايين المتظاهرين، وأكرهت مرشد الجمهورية على إعلان ما يشبه الأحكام العرفية؟ هل نحن أمام ثورة تحررية تهدف إلى نزع الوصاية الدينية وإقامة نظام ديمقراطي يحترم إرادة الشعب الإيراني ويعيد تركيز الجهد السياسي على تحسين شروط معيشة الأفراد وإصلاح الإدارة والسلطة، بدل البحث عن تأكيد القوة والعظمة الخارجية، أم نحن أمام محاولة أجنبية لزعزعة الجمهورية الإسلامية التي أصبحت تمثل قطباً من أقطاب الممانعة الإقليمية والدولية؟ هل نحن أمام نزاع داخلي بين مشروع إصلاحي لا يهدف إلى نزع الطابع الديني عن السلطة ولا يعترض على ولاية الفقيه، ولكن يسعى إلى وضع حد للفساد وسوء الإدارة والمبالغة في استعداء الغرب، أم أمام صراع طبقي يضع في المواجهة قوى المستضعفين من فقراء الريف والأحياء الشعبية وقوى الأغنياء والميسورين والطامحين إلى مسايرة أنماط الاستهلاك الغربية؟
إن ما يحدث في إيران، هو حسب اعتقادي مزيج من ذلك كله. فهو حركة سياسية واجتماعية وفكرية معاً. ومن هذه الناحية نراها تعيد، لكن في الاتجاه المعاكس، نموذج الثورة الإسلامية نفسها التي ولدت عام 1979 في سياق ثورة شاملة ضد النظام الشاهنشاهي الذي جمع بين سلطة قمعية كان “السافاك” (المخابرات) أهم رموزها وأدواتها، وتراتبية طبقية غليظة وفجة أفضل من جسدها هو الارستقراطية الفاسدة الملتفة حول القصر والجامعةُ بين نمط الحياة الاستهلاكي الغربي والخنوع للسلطة المطلقة الفردية، وأخيراً التبعية للغرب والعمل في سياق استراتيجية سيطرته الإقليمية، بما في ذلك التحالف مع إسرائيل والتعاون معها لكسر إرادة الشعوب العربية. هكذا جاءت ثورة الخميني كأيديولوجية بديلة لأسطورة الامبراطورية الساسانية التي أطلقها الشاه والهوية الآرية التي أراد فرضها على الشعب لتحقيق التماهي بين الارستقراطية السائدة وبين الغرب، وتكريس نظام الإقصاء والاستبعاد والإخضاع الشامل. وجمعها بين هذه الأبعاد الثلاثة، هو ما شكل مصدر قوتها الاستثنائية، وما اتسمت به من إجماع شعبي في حينه.
تجمع حركة الاحتجاج الحالية في إيران بين آمال التحرر السياسي الذي يتجسد في نزع نير الوصاية الدينية التي تعيق المشاركة الطبيعية والمتساوية لجميع الأفراد في تقرير مصيرهم، ومقاومة صعود الارستقراطية الجديدة النامية في حجر هذه الوصاية الدينية وفي حمايتها، وأخيراً كسر جدار العزلة التي يسعى النظام إلى فرضها على المجتمع والشعب، باسم الإسلام والوطنية معاً، لقطعه عن مسار التحولات العالمية وإحكام القبضة عليه، والحد من مقدرته على تمييز وجوده المستقل، وتلمس حقيقة أوضاعه بمقارنتها مع ما يحصل في العالم، وإضعاف ملكة التفكير النقدي والاحتجاجي لديه.
ليس هناك بعد يطغى على آخر، ولا يمكن الفصل في ما بينها من دون تحطيم ديناميكية الحركة بعمومها وإضعافها أو تحويلها إلى حركات متباينة ومتنافسة ومتصارعة. فالتحرر السياسي لا يتحقق هنا من دون التحرر الفكري، كما لا يمكن كسر إرادة الارستقراطية الجديدة وإخضاعها أو إعادة تشغيل مبدأ تكافؤ الفرص بين الأفراد من دون نزع الوصاية الدينية. وبالمثل، لا يمكن كسر العزلة الفكرية والأخلاقية والنفسية المفروضة على المجتمع من دون التواصل مع العالم، ومركزه الغرب، واستلهام القيم الإنسانية الكونية أو شبه الكونية السائدة، ومسايرة العصر في قيمه الزمنية والاستهلاكية والمادية معاً.
لكن ليس هناك ميثاق جامع يوحد القوى المشاركة في حركة الاحتجاج ويصهرها في قوة واحدة. فمنها من يتحرك أساساً بدافع عدم القبول بالنظام الشمولي الراهن المرتبط بإرادة الولي الفقيه، سعياً إلى نظام تعددي مفتوح وديمقراطية دستورية لا وصاية عليها، ومنها من يحركه رفض الفساد الذي يميز سيرورة تكوين ارستقراطية جديدة محمية بميليشيات النظام. ومنها أيضاً من تشده أنماط الحياة الاستهلاكية الغربية ويشعر بأن النظام الراهن، السياسي والقانوني والفكري، هو مجموعة من القيود التي تحرمه من الحياة. وهناك أخيراً من يريد الصعود على موجة الاحتجاج هذه لإعادة موقعة نفسه على خريطة القوة لتحسين شروط صراعه على السلطة.
وهذا ما يُبقي حركة الاحتجاج هشة وضعيفة الهيكلة مفتقرة لقيادة واحدة. في مثل هذه الحالات، وفي غياب شخصية ملهمة قوية، وحده الإمساك بالسلطة يؤمن لحم القوى غير المتجانسة. فهو يشكل حافزاً للجميع وأرضية لتوزيع المصالح وتقاسم النفوذ. ولا يختلف وضع التحالف الحاكم في ذلك عن حركة الاحتجاج. فهو أيضاً يستمر بفضل إمساكه بالسلطة وما تقدمه له من إمكانيات وموارد استثنائية لتأليف القلوب وصوغ تسويات وحلول عملية لتناقضات لا حل سياسي لها. ولأن الإمساك بالسلطة يشكل الرهان الوحيد القادر على تأمين تحالفات لا يمكن المعارضة ولا الحكم من دونها، فمن الطبيعي أن يكون الصراع عليها، سواء للاحتفاظ بها أو لانتزاعها من أصحابها، صراعاً حاداً وعنيفاً، لا يوفر عند الضرورة أي سلاح. فإذا نجحت حركة الاحتجاج في الخروج من امتحان القوة الراهن، من دون أن ينفرط عقدها، ومع الاحتفاظ بقدر من التماسك والحيوية، سنكون في بداية حقبة تغيير حقيقية، مما يعني أننا سنسير على طريق صراع طويل سيشغل إيران لسنوات طويلة قادمة، وهذا موضوع مقال مستقل.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى