الأزمة الإيرانية.. لماذا، وكيف، وإلى أين؟
بشير نافع
نجحت إيران إلى حد كبير في احتواء موجة الاحتجاجات التي انطلقت بعد الإعلان عن فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بولاية رئاسية ثانية، مستخدمة وسائل أمنية وسياسية على السواء.
وبعودة الهدوء إلى الشارع، وتراجع حدة الجدل الإعلامي داخل البلاد وخارجها، ربما أصبح من الممكن تعهد قراءة أكثر موضوعية وتوازناً للأزمة التي خدشت صورة الجمهورية الإسلامية وأطلقت توقعات جامحة حول مصير نظامها، ومن ثم محاولة استشراف البدائل المتاحة أمام مؤسسة الحكم داخلياً، وما يمكن أن تتركه الأزمة من آثار على سياسة إيران الخارجية.
الانقسام السياسي الداخلي
تفاقم الانقسام
فشل المعارضة واحتواء الأزمة
آثار الأزمة وخيارات المستقبل
الانقسام السياسي الداخلي
انتصرت الثورة الإسلامية في 1979 بفعل التفاف جماهيري هائل حول قيادة الإمام الخميني في الخارج وعدد من العلماء الذين تتلمذوا عليه أو قبلوا بقيادته في الداخل. ولكن ذلك لا يعني أن إيران كانت تخلو من القوى السياسية المنظمة، التي بدا أن دورها هامشي في ظل الحراك الشعبي المليوني.
بعض هذه القوى السياسية، مثل مجاهدي خلق وفدائيي خلق، سرعان ما عارضت نظام الجمهورية الإسلامية بالسلاح، مطلقة حملة دموية ضد رموز وقيادات الجمهورية؛ وبهزيمة هذه القوى، خرجت كلية من الخارطة السياسية للجمهورية.
قوى أخرى، انخرطت في جسم الدولة، بالرغم من تحفظها على بعض بنود الدستور وبعض السياسات الداخلية والخارجية، أو تحولت إلى معارضة غير جذرية، وأمكن لها بالتالي الحفاظ على وجود قلق ومحدود. وما أن انتهت الحرب العراقية – الإيرانية، التي تطلبت خفض وتيرة الخلافات الداخلية، حتى بدأت التشققات في الظهور في صفوف الطبقة السياسية الحاكمة. انعكست أولى هذه التشققات في إطاحة آية الله منتظري من موقعه كخليفة للإمام الخميني في منصب الولي الفقيه، أو القائد الأعلى للجمهورية. خلال السنوات القليلة التالية، اتسع نطاق هذه التشققات في كافة الاتجاهات.
بعض من القضايا التي دار حولها الجدل، تتعلق بمسألة ولاية الفقيه المطلقة، التي تعتبر إحدى الأسس الدستورية للجمهورية، وركيزة الحكم الكبرى. وقد جاءت المعارضة لولاية الفقيه من ناحيتين، واحدة محافظة، وأخرى ليبرالية.
بعض المحافظين المتدينين رأوا أن لا ولاية مطلقة في غيبة الإمام المهدي، وأن شرعية النظام الإسلامي لا تقوم إلا بظهوره، وأن التسليم لنظام الجمهورية الإسلامية بالشرعية الإسلامية انتقاص من الشرع نفسه.
أما المعارضة الليبرالية فقالت أن مسودة الدستور التي وقع عليها الإمام الخميني لم تحتوِ المادة الخاصة بولاية الفقيه، وأن هذه المادة أضيفت بعد ذلك بضغط من مجموعة بهشتي النافذة في المجلس الذي انتخب لصياغة دستور الجمهورية؛ ويسعى هؤلاء إلى تخليص الجمهورية من سلطة ولاية الفقيه، وإقامة نظام ديمقراطي، يحترم الإسلام ومؤسسة العلماء؛ وهو تصور أقرب إلى حركة المشروطية في مطلع القرن العشرين.
ولكن الجدل لم يقتصر على ولاية الفقيه، بل اتسع ليطال مسألة الحريات الشخصية والحريات العامة، مثل حرية الصحافة وحرية المعارضة السياسية؛ سلطة الدولة ودورها في مجالات الاقتصاد والتنمية ومجالات الاجتماع الرئيسة، مثل التعليم والفنون والإعلام؛ والسياسة الخارجية، سيما العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة، وتقدير الأولويات الإسلامية والقومية – الإيرانية في علاقات إيران الخارجية ودورها الإقليمي.
ولكن إحدى وجوه الانقسام السياسي تعلق أيضاً بالصراع المباشر على القوة والنفوذ في صفوف الطبقة التي قادت الجمهورية خلال سنوات الحرب العراقية – الإيرانية، وبعد غياب الشخصيات الكبرى مثل مطهري وبهشتي، وعزل منتظري.
ظهر التكتل السياسي الأول خلال الحملة الانتخابية لمحمد خاتمي في أيار/ مايو 1997، عندما اجتمع عدد من القوى في إطار ما سمي بجبهة الثاني من خرداد، التي أصبحت تعرف بمعسكر الإصلاحيين الداعمين لخاتمي. ضم هذا المعسكر قوى وتيارات مختلفة الجذور والتوجهات، مثل جماعة العلماء المناضلين، التي يرأسها حجة الإسلام كروبي، رئيس البرلمان الأسبق، وتضم في صفوفها كلاً من محمد خاتمي وموسوي خوئيني ها (الذي كان مرشد الطلاب الذين احتلوا السفارة الأميركية في مطلع الثورة).
كما ضم معسكر الإصلاحيين حزب مجاهدين الثورة الإسلامية، الذي يقوده بهزاد نبوي ومحمد سلامتي؛ والمجموعة التي شكلت فيما بعد حزب المشاركة الإسلامي، وطالبت بنظام ديمقراطي كامل؛ وحركة حرية إيران، الوطنية الليبرالية، التي تعود في جذورها إلى جبهة مصدق الوطنية؛ ومكتب تعزيز الوحدة، النشط في صفوف الطلاب؛ وحزب كارغوزاران، الذي مثلته مجموعة من الشخصيات التكنوقراطية ذات النفوذ في رئاسة هاشمي رفسنجاني، مثل مهاجراني وكرباستشي وزنغنة؛ وحزب العدالة والتنمية برئاسة حسن روحاني، أمين مجلس الأمن القومي الأسبق؛ وعدد من التكنوقراط والمثثقفين ذوي التوجهات المختلفة، من النزعة الديمقراطية إلى الليبرالية إلى العدالة الاجتماعية، مثل عبد الكريم سروش، ومير حسين موسوي، ومحسن كديفر، ومجتهد سبشتري، وعزت¬ الله سحابي.
في مواجهة هذا المعسكر، اجتمعت القوى المحافظة حول المرشح المنافس حجة الإسلام ناطق نوري، وضمت هي الأخرى طيفاً واسعاً من المجموعات والشخصيات، من جمعية العلماء المناضلين (المحافظة)، إلى عدد من كبار ضباط الحرس الثوري السابقين، الذين باتوا يمسكون بقياد قطاع كبير من المؤسسات العامة ويرأسون بلديات ومحافظات هامة، إلى عدد من أبرز مثقفي الجمهورية، مثل حداد عادل ولاريجاني.
أدت الخلافات الكبيرة حول الأولويات في معسكر الإصلاحيين إلى اضطراب كبير خلال فترتي خاتمي الرئاسية، مما ولد شعوراً واسعاً بخيبة الأمل في الشارع الإيراني، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نجح المحافظون في تصوير الإصلاحيين باعتبارهم معادين لقيم الإسلام ومفرطين في سيادة البلاد ومقدراتها في سعيهم للتفاهم مع القوى الغربية.
في عام 2002، أنجز المحافظون عودة مظفرة في الانتخابات المحلية، وفي العام التالي، حققوا أكثرية حاسمة في الانتخابات البرلمانية. وفي انتخابات 2005 الرئاسية، أوصلوا محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية.
تفاقم الانقسام
أظهر نجاد في حملته الانتخابية الأولى ضد رفسنجاني توجهاً نحو إطاحة الطبقة الحاكمة القديمة، عندما ألمح ومناصروه في قيادة الحرس الثوري إلى الفساد واستغلال النفوذ الذي تفشى في أوساط كبار هذه الطبقة. ولكن نزعة نجاد الراديكالية أصبحت أكثر وضوحاً في فترة رئاسته الأولى. بنمط حياة متقشف ونزاهة عالية، وانحياز واضح للطبقات الفقيرة، والتزام ديني محافظ، وصلابة لا تخفى أمام الضغوط الخارجية، استطاع نجاد أن يجعل رئاسته الأولى مرحلة تحول في تاريخ الجمهورية القصير.
وربما يمكن القول أن رئاسة نجاد، الذي أعلن ولاءه المطلق للولي الفقيه، كانت المرة الأولى التي استطاع فيها المرشد الأعلى أية الله خامنئي قيادة البلاد بلا منازع، بعد أن اتسمت السنوات الثماني الأولى من عهده بشراكة بينه وبين الرئيس رفسنجاني، والثماني التالية بتوتر متفاوت بينه وبين الرئيس خاتمي. التفاهمات الواضحة بين المرشد ورئيس الجمهورية، وسياسات نجاد الراديكالية، داخلياً وخارجياً، أدت إلى تهميش متزايد للحرس القديم، وعلى رأسه رفسنجاني؛ بل ودفعت عدداً من الشخصيات المحافظة، مثل رئيس بلدية طهران قاليباف ورئيس البرلمان الأسبق ناطق نوري، ورئيس البرلمان الحالي لاريجاني، إلى معارضة نجاد.
كان ترشيح الإصلاحيين مير حسين موسوي لخوض الانتخابات ضد أحمدي نجاد خطوة ذكية ومحسوبة، ومؤشراً على إدراك الإصلاحيين صعوبة إطاحة نجاد بمرشح إصلاحي واضح. بصورته المستقلة، وتوجهاته الوسطية بين الإصلاحيين والمحافظين، راهن موسوي على انتزاع أصوات قطاع ملموس في المناطق والدوائر المحافظة. وقد كان خوض المرشح الإصلاحي كروبي جزءاً من استراتيجية الإصلاحيين المستهدفة دفع الانتخابات إلى دورة ثانية. ولكن نجاد صعد من لغته الراديكالية المناهضة للإصلاحيين وللحرس القديم معاً، وعزز من مواقعه الشعبية.
ثمة مؤشرات على أن تزييفاً وقع بالفعل في بعض الدوائر الانتخابية، ولكن لم تقع عملية تزييف مركزية. وقد كان نجاد قادراً على تحقيق الفوز، بغض النظر عن بعض التجاوزات الهامشية. وتفيد تقارير موثوقة أن استطلاعات الرأي التي قامت بها مجموعة موسوي الانتخابية أثناء الحملة أشارت إلى فوز نجاد، وأن أفضل نتيجة كان يمكن أن يحققها موسوي هي دفع الانتخابات إلى دورة ثانية بين المرشحين الأعلى أصواتاً.
ولكن فوز نجاد بفارق هائل في الأصوات أربك معسكر موسوي، ودفعه ومناصريه إلى الاستعانة بالشارع، وسط بروز مؤشرات على أن القوى الغربية تأمل وتريد إيقاع الهزيمة بنجاد.
تضمنت الأجندة التي خاض الإصلاحيون على أساسها الانتخابات وعوداً بالتغيير، بعضها صريح وبعضها مستبطن، من تحسين الوضع الاقتصادي والتصالح مع الغرب والتخلي عن تحالفات إيران الإسلامية الإقليمية، إلى تحجيم سلطات الولي الفقيه. ولكن المرشح الذي بدا وكأنه أكثر اندفاعاً في اتجاه التغيير كان نجاد وليس موسوي. وقد أوحى نجاد في حملته الانتخابية بأن رئاسته الثانية ستكون فترة الإطاحة النهائية بالحرس القديم.
ولذا، وبالنظر إلى جذور الانقسام السابقة، فإن الأزمة التي عاشتها إيران خلال الأسبوعين التاليين ليوم الانتخابات الرئاسية كانت أولاً، وفي شكل كبير، انعكاساً لانقسام الطبقة الحاكمة، قبل أن تكون انعكاساً لتمرد شريحة من الشعب على النظام. القوى التي عرفت بالإصلاحية وحاولت التشكيك في شرعية إعادة انتخاب نجاد ليست جديدة على المسرح السياسي، ولا جديد في أجندتها. الجديد كان انحياز رفسنجاني والكتلة التي استشعرت التهميش خلال السنوات الأربعة الماضية، وخافت تقويض نفوذها كلية في السنوات الأربعة القادمة، إلى المعسكر المناهض لنجاد.
ولأن هؤلاء جميعاً يدركون درجة التفاهم بين الرئيس والمرشد الأعلى، سرعان ما بدت المعركة مع نجاد وكأنها معركة مع خامنئي أيضاً، معركة استهدفت تطويع خامنئي وإسقاط نجاد والسيطرة على النظام.
فشل المعارضة واحتواء الأزمة
تصدر قيادة حركة الاحتجاج مير حسين موسوي، ثم انضم إليه المرشح الإصلاحي الثاني كروبي. وشهدت حركة الاحتجاج في الأيام الأولى خروج عشرات الألوف من المحتجين إلى الشارع في العاصمة طهران. التظاهرات الأولى كانت بلا شك تظاهرات ضخمة، ولكنها بالمقارنة لحجم الشعب الإيراني وتعداد سكان العاصمة طهران ليست كذلك.
المهم أن هذه الحركة مثلت التقاء عديد من القوى والتيارات والشرائح، وجدت في الاختلاف حول نتائج الانتخابات والانقسام في صفوف الطبقة الحاكمة فرصة للتعبير عن نفسها:
1.
قطاع بين المتظاهرين ضم أولئك الذين صوتوا لموسوي واعتقدوا أن النتائج قد زيفت لصالح نجاد؛
2. قطاع ثان ضم أبناء الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، التي عارضت الجمهورية الإسلامية من البداية؛
3. قطاع ثالث ضم عدداً من الجامعيين الشبان الذين تحركوا بدوافع التغيير السياسي والحريات، بدون أن تكون لديهم أجندة محددة؛ قطاع رابع ضم نشطين سياسيين من أنصار القوى الإصلاحية المعروفة، التي اعتبرت موسوي مرشحها؛
4. قطاع خامس ضم نشطين من الإيرانيين السنة أو العرب المقيمين في طهران، والذين وعدهم موسوي بسياسات أكثر عدالة تجاه الأقليات؛
5. أما القطاع الأخير فضم بلا شك عناصر تحريضية، ارتبطت بمخططات خارجية.
بمرور أيام قليلة على اندلاع الأزمة، تدخل المرشد في شكل واضح وصريح، وأخذت أعداد المتظاهرين في التضاؤل، ليس بفعل القمع الأمني وحسب، ولكن أيضاً لأن القطاع الأكبر من متظاهري الأيام الأولى رأى في تفاقم الأزمة خطراً على النظام والجمهورية. في الوقت نفسه، ازداد تمترس موسوي وكروبي، واستمر صمت رفسنجاني المريب.
صورت وسائل الإعلام الغربية حركة الاحتجاج بأنها ثورة على الثورة والنظام الإسلاميين؛ ولكن الحقيقة أن النظام لم يكن مهدداً في أي لحظة من لحظات الأزمة.
أولاً، لأن حركة الاحتجاج لم تفشل في جذب شرائح وقوى اجتماعية جديدة وحسب، بل أنها سرعان ما انكمشت، لتقتصر على عدة آلاف من أبناء الشرائح الاجتماعية التي لم تتعايش مع النظام منذ نشأته، والعناصر الليبرالية الراديكالية.
ثانياً، لأن هدف العدد الأكبر من العلماء والشخصيات السياسية المعارضة لنجاد (أو حتى المعارضة لخامنئي)، لم يكن إطاحة النظام، بل تطويعه لصالحها. وعندما أصر خامنئي على عدم الخضوع للضغوط، والالتزام بالوسائل القانونية والدستورية لحسم الخلاف حول الانتخابات (الذي ظل طوال الأزمة العنوان المعلن للمعارضة)، لم يكن بإمكان هؤلاء إلا التراجع، أو الذهاب بعيداً نحو مواجهة شاملة مع النظام والدولة، وهو الخيار الذي لم يكن في واردهم أصلاً، والذي كان سينتهي بهزيمتهم على أية حال. صلابة موقف خامنئي، باختصار، أربكت قادة المعارضة.
ثالثاً، أحد الشروط التي تطلبها تطويع النظام لصالح المعارضة، أو إشعال ثورة شعبية لإطاحته، كان انقسام الحرس الثوري والمؤسسة الأمنية، أو وقوفهما على الحياد. ما حدث كان في الحقيقة العكس تماماً، إذ اندفع الحرس وقوات الباسيج التابعة له إلى الالتفاف حول النظام والقيادة.
رابعاً، ليس ثمة مقارنة بين حجم الشارع المؤيد للنظام وقيادته وحجم الشارع المعارض؛ إذ حتى إن أخذت المظاهرات الاحتجاجية المبكرة في الاعتبار، فإن الشارع المعارض لا يمثل سوى أقلية صغيرة من الإيرانيين؛ وهو ما يستدعي التفريق بين عدد الذين صوتوا لموسوي، وعدد الذين كان لديهم الاستعداد والدافع للمشاركة في حركة الاحتجاج.
خامساً، أثارت مواقف بعض الدول الغربية شكوك قطاع واسع من الإيرانيين بأن بلادهم مستهدفة من الخارج.
بيد أن الأزمة في صورتها الحادة لم يتم احتواؤها إلا بعد أن تصدت قوات الأمن بحسم للمجموعات الصغيرة التي استمرت في الخروج إلى الشارع، بدون ترخيص، وبعد أن أبدى مجلس حراسة الدستور مرونة نسبية تجاه الأطروحات الداعية إلى إعادة فرز نسبة من الأصوات بإشراف لجنة مستقلة.
وبالرغم من أن موسوي وكروبي لم يقبلا الحل الذي تقدم به مجلس صيانة الدستور، فإن الحل عزز الانطباع لدى القطاع الأوسع في الشارع بأن موقفي موسوي وكروبي يفتقدان المسوغ الشرعي.
وقد لعب لاريجاني، رئيس البرلمان المحافظ، الموالي بقوة للمرشد، والمعارض لنجاد، دوراً هاماً في الاتصالات مع الرئيس رفسنجاني.
وليس من الواضح ما إن كانت تطمينات ما قد قدمت لرفسنجاني، ولكن تصريحات خامنئي المبكرة في الجمعة الأولى بعد الانتخابات، التي دافعت عن رفسنجاني وميراثه (بدون التطرق لأولاده)، أوحت بأن المرشد لا يتفق ونهج نجاد الراديكالي كلية، وأنه لا يرغب في القطيعة مع رفسنجاني.
وبخروج رفسنجاني في تصريحاته الموالية للمرشد، وإشارته إلى المؤامرات على الثورة والجمهورية، لم يعد بإمكان موسوي وكروبي المضي في التصعيد بغطاء المجموعات الإصلاحية والليبرالية التقليدية فقط. هذا لا يعني، بالطبع، أن الأزمة قد تم احتواؤها نهائياً.
آثار الأزمة وخيارات المستقبل
بالرغم من أن الانقسام الداخلي ليس جديداً، فإن من الواضح أن الانقسام قد تكرس بشكل لم يسبق أن تكرس من قبل. وربما ستتضح خلال المرحلة المقبلة ملامح برنامج متماسك ومحدد لمعسكري الانقسام، ويصبح بإمكان الإيرانيين الاختيار بين الطرفين.
تطال مشكلة الانقسام الشرائح الاجتماعية المناهضة لنظام الجمهورية الإسلامية. وبالرغم من أن هؤلاء سيبقون أقلية، فإن أعدادهم ستتزايد بفعل الرخاء الاقتصادي والآثار العميقة لوسائل الإعلام العالمية والاتساع الهائل في مجال التعليم الجامعي (الذي هو في جوهره تعليم غربي).
وتطال المشكلة التدافع بين رجالات الحرس القديم، مثل رفسنجاني، والقيادات الراديكالية الجديدة، مثل نجاد.
كما تطال القوى الإسلامية التي تطالب بتحديد سلطة الولي الفقيه، والتخلي عن السياسة الخارجية الحالية.
بإمكان النظام إيجاد صيغ توافقية، أو التوصل لصفقات ما، لاسترضاء هذا الطرف أو ذاك، ولكن هذه ستبقى حلولاً مؤقتة، لن تكون كافية لتحصين البلاد من اندلاع الأزمة من جديد في المستقبل. ثمة قوى لن يستطيع النظام كسبها مطلقاً. لاستيعاب القوى السياسية والاجتماعية الأخرى، التي لا ترغب في انهيار النظام وتسعى إلى تغيير جزئي، لابد من العمل على تجديد بنية الدولة والحكم، ربما بإطلاق حوار واسع النطاق، يحاول أن يؤسس لإجماع قومي جديد حول بنية الدستور ومؤسسات الحكم والسياسات الكبرى للدولة.
البديل الآخر، بالطبع، هو تعزيز السلطة الأمنية والعسكرية للنظام، وهي سلطة قادرة بالتأكيد على تأمين النظام وحمايته، ليس فقط لارتباطها المصلحي، بل أيضاً لإيمانها العقائدي به.
في الدائرة الخارجية، أصيبت هيبة إيران وصورتها بخدش لا يمكن تجاهله؛ إذ ليس هناك نظام حكم لا يخسر من رصيده وهو يواجه ولو قطاعاً صغيراً من شعبه في الشارع بقوة السلاح، وطبقته الحاكمة منقسمة على نفسها. وقد تعرضت إيران إلى حملة تشكيك واسعة النطاق في وسائل الإعلام الغربية وبعض العربية.
وربما ستصبح قدرة طهران على التأثير في بعض حلفائها في المنطقة أقل مما كانت قبل الأزمة، ورغبة بعض هؤلاء الحلفاء في التحرر من الضغوط الإيرانية أكبر مما كانت. ولكن النظام الإيراني قوي، ومن المستبعد أن تدفعه الأزمة إلى تقديم تنازلات ملموسة للقوى الغربية أو الولايات المتحدة.
الأرجح أن تتبنى طهران موقفاً أكثر صلابة، في محاولة طبيعية للدفاع عن الذات، وتأخير الانفتاح على الغرب ما أمكن، إلى أن يتم الاطمئنان إلى صلابة الداخل أو التوصل إلى إجماع جديد حول إصلاح النظام. وينسحب هذا الموقف على سياسة إيران الخارجية تجاه ملفات الخلاف الرئيسية مع واشنطن، بما في ذلك الملف النووي.
على مستوى أوسع، يصب الخدش الذي أصاب الصورة الإيرانية في صالح القوى المناهضة للتيارات الإسلامية السياسية في العالم الإسلامي، سواء تلك المتحالفة مع إيران أو المعارضة لها.
لم يكن من الممكن يوماً وصف نظام الجمهورية الإسلامية بالديمقراطي، ولكن التميز الدستوري للجمهورية الإسلامية سمح بالتوكيد على أن النظام يتمتع بدعم القطاع الأوسع من الشعب، وأن سياساته تعبر عن إرادة شعبه. مثل هذه المقولة ستتعرض منذ اليوم للتشكيك، ومعها سيتصاعد الخطاب النقدي لكل التيار الإسلامي السياسي.
مركز الجزيرة للدراسات
الجزيرة نت