إيران … هل انقلب السحر على الساحر؟!
ميشيل كيلو
بتوافقهم على الملف النووي وعلى دور بلادهم الإقليمي، استطاع المرشحون لانتخابات الرئاسة الإيرانية خوض معركة اتسمت بالتنافس الشديد، ضمن أجواء حرية نسبية ندر أن نعم بمثلها بلد عربي، ربما باستثناء لبنان، الذي أجرى في السابع من حزيران (يونيو) الماضي انتخابات نيابية شهدت بدورها صراعا حادا، انتهى إلى قبول جميع أطرافه بنتائجه، وإلى بروز رغبة وطنية عامة في الأمن والهدوء، أقله إلى أن تقرر القوى الإقليمية، وبالأخص منها إسرائيل، أو طوائفه المتنازعة، زعزعة أوضاعه وردها إلى مربعات الانفلات والعنف.
تواجه إيران أمريكا والغرب كما لا يواجهه بلد عربي، وتتبنى سياسات خارجية وداخلية محكومة بتوازنات جد دقيقة، وتعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية اكبر من تلك التي يعاني منها معظم أقطار العرب، رغم ما بلغته أوضاع بلداننا العربية من بؤس وتهافت. ويوجد في إيران انقسام عمودي كبير على مستوى النخب السياسية والشارع الشعبي، بدت مظاهره الفاقعة خلال الأيام الأخيرة من الحملات الانتخابية، حيث لم يبق حلال أو حرام في حرب المرشحين ونزاع المحافظين والإصلاحيين. زد على ما سبق إن نظام إيران السياسي معقد ويعمل وفق آليات متناقضة تجعل استخدامه أمرا غير سهل، فهو نظام مغلق من فوق مفتوح من تحت، تمتزج وتتضارب فيه إرادة المرشد بخيارات ومواقف القاع الشعبي.
لم تخجل إيران من واقعها أو من مشكلاتها، ولم تتذرع بأولية رد الأخطار الخارجية أو الحفاظ على الوحدة الوطنية، لتحول دون إجراء انتخابات رئاسية تنافسية بكل معنى الكلمة، أو لتمنع شعبها من النزول إلى الشارع والتعبير عن مواقفه وآرائه، المتعارضة، التي تؤيد برامج على قدر عظيم من الاختلاف، يقول بعضها ـ نجاد ومن يدعمه من قوى منظمة ـ بضرورة إنتاج المجتمع انطلاقا من سلطة رجال الدين الحاكمة، ويقول بعضها الآخر، بأولية الإرادة الشعبية، السيدة والحرة، التي يجب على الجميع الانصياع لها.
والحق أن إيران عرفت كيف تلعب في الوقت العربي الضائع، وكيف تفيد من غياب العرب ونقاط ضعفهم، ومن إرباكات الأمريكيين والإسرائيليين، دون أن تمكن خصومها من استغلال نقاط ضعفها . كما عرفت النخبة الإيرانية الحاكمة كيف تتبنى قضايا محيطها العادلة، وخاصة منها قضايا العرب، وكيف تضع يدها عليها، مع إثارة الانطباع بأنها صارت قضاياها، وبأنها تدافع عن حق هجره أصحابه، وتفعل ذلك لوجه الله ومن أجل نصرة المستضعفين، وليس لمصالح أو لحسابات سيطرة ونفوذ. بذلك، حولت قضايا جيرانها من منابع خطر محتمل إلى مصادر كسب سياسي مؤكد، حتى غدت هذه أوراق في يدها، وخاصة منها قضية فلسطين، التي لم يقلع النظام العربي يوما عن الزعم بأنها قضيته المقدسة والمركزية، وصار بوسعها تمثيلنا، أي تغييبنا، كي لا نشاركها منافع تجنيها بفضل خبرة قادتها في اقتناص الفرص وكسب تعاطف شعوب لم تر في سياساتها تدخلا في شؤونها، وإنما شعرت بالامتنان حيال ‘تضحياتها ‘ من أجلها، بل وطفقت قطاعات منها ترى في طهران البديل المعافى لحكوماتها المريضة الضعيفة، وجهة ذات شرعية واجبة.
إلى ما سبق، تقدم إيران نفسها اليوم – عبر انتخابات الرئاسة – كبلد يمتع شعبه بحرية تقرير شؤونه بنفسه، هو الصورة النقيض لعالم عربي تتقوقع نظمه على ذاتها، وتتخذ موقف عداء لا تهاون فيه حيال مواطنيها ومجتمعاتها، متذرعة بالسلامة الداخلية العامة تارة ورد الأخطار الخارجية طورا، مع أنها تنفي دوما وجود معارضة داخلية لديها، وتؤكد سيطرتها على الأخطار الخارجية وقدرتها على مواجهتها وحماية بلدانها منها، وتزعم أنها حققت انتصارات متعاقبة على من يهددون بلدانها، وبالأخص منهم أمريكا وإسرائيل. تبدو إيران بحق كحالة نقيض للحال العربية، فهي قوية في الخارج، لكنها لا تكف، مع ذلك، عن تجميع أوراق تزيدها قوة. وهي تمسك أوراقها بقوة، لكنها لا تغلق باب الحوار مع أحد، وخاصة أمريكا. وهي تسعى بإصرار إلى تحقيق مصالحها، دون أن تمتنع عن الاعتراف بمصالح الآخرين، أو عن مساعدتهم على تحقيقها، كما فعلت خلال مراحل الغزو الأميركي الأولى للعراق وأفغانستان. كما تبدو منفتحة جدا، بل وديموقراطية عند قاعدة نظامها السياسي، رغم انغلاقه السلطوي الشديد عند قمته. وتتجلى ‘ديمقراطيتها’ أحسن ما تتجلى في كثافة التظاهرات والأنشطة الانتخابية، التي انخرط شعبها فيها بملء إرادته، وخاصة منه عنصري النساء والشباب، ليختار بحرية تكاد تكون غربية رئيسه، أقله حسب ما تقول ظواهر الأمور، ويؤكد المراقبون!.
قال الإصلاحيون العرب بضرورة الحرية والديمقراطية من أجل تقوية العالم العربي، نظما ومجتمعات، حيال الخطر الأمريكي – الإسرائيلي، فرفضت النظم العربية الاستماع إليهم بحجة أنه لا يجوز تبديل عجلات العربة وهي تسير، فانتهى الأمر إلى غرق العربة في وحول الضعف وفقدان عجلاتها. بالمقابل، تقدم إيران نموذجا نقيضا، يكمل أوراقه الخارجية القوية بأوراق داخلية تزيد مناعته، رغم ـ أو بفضل – الانقسام بين المرشحين وأنصارهم ؛ الذي يراد له أن يبقى في حدود مضبوطة، يعبر الجميع من خلالها عن آرائهم في إطار النظام، فيصير حراكهم مصدر عافية اضافيا له، كيف لا وهو يعرف كيف يجاري عصره، ويحجب تقوقع قيادته على نفسها عبر السماح بقدر كبير من الانفتاح في الشارع.
بمناسبة انتخابات الرئاسة التي أتت بخاتمي إلى رئاسته الأولى، قال قائد الحرس الثوري آنذاك: إن النظام يريد خاتمي رئيسا لهدفين: مصالحة الأجيال الشابة مع النظام وإيجاد مكان لها فيه يمكنه من احتوائها، ومصالحة العالم مع النظام . يبدو أن خاتمي صالح الشباب مع الفكرة الإصلاحية، التي تقول بضرورة إجراء تغييرات في إيران، تبدل ولو جزئيا طابعها الراهن . ويبدو أن أحمدي نجاد بمحافظته الشديدة كان رد النظام على هذه الواقعة الداخلية المهمة، وعلى فشل مصالحة إيران مع العالم . ربما كان هذا يفسر حدة المعركة الانتخابية، وميل قيادة النظام، وخاصة منها الولي الفقيه، زعيم ورمز المحافظين، إلى نجاد، ويبرر اتهامه بالانحياز إلى طرف، ويجعل التزوير أمرا محتملا. لقد انقلب السحر على الساحر، حين ظن أن تجربته مع خاتمي ورفسنجاني ستتكرر هذه المرة أيضا، وفاته أن يرى ما في مجتمع إيران من احتقان وانقسام، فتصرف وكأن ما شهده الواقع من تغيرات خلال السنوات الثلاثين الماضية ليست له أهمية، وركن إلى أن قوة الطابع السلطوي للنظام ستخيف خصومه وستمنعهم من التعبير عن اختلافهم معه وعنه، أو ستتكفل بجعل هذا التعبير مقيدا وعابرا.
خربطت مجريات الانتخابات حسابات النظام، في علاقاته بالمجتمع، وخاصة منه الشباب والنساء، وأثرت بقوة على علاقاته بالعالم، وعلى طابعه كنظام مستقر وقوي، لطالما قدم نفسه كنظام إجماع داخلي كاسح . وبينت أن إيران لم تعد ما يقوله نظامها عنها، وأن قطاعات مدينية مهمة نمت سياسيا خارجه، وضده في جوانب متعددة، يرجح أن يدفعها رد المرشد وأجهزة القمع إلى الخروج أكثر فأكثر عليه، إذا ما شكل الإصلاحيون قيادة دائمة لهم، وأفادوا من انقسامات رجال الدين الواضحة، وجمعوا طاقات الشعب وبلوروها في اتجاه واحد موجه نحو فعل إصلاحي دائم يتخطى وقتية المناسبات الانتخابية.
إن ما أبداه شعب إيران المديني من حضور سياسي يؤكد أنه تجاوز القيادات المحافظة وربما بعض الإصلاحيين أيضا، وأن كسبه في إطار النظام صار صعبا، وأن علاقاته مع السلطة وولي الفقيه ستخضع من الآن فصاعدا لذلك النمط من ‘العنف الثوري ‘، الذي هدد به قادة الحرس الثوري والباسيج، مما سيضع بدوره مزيدا من الأجيال الشابة خارج النظام، مع ما سيحمله ذلك من خطورة بالنسبة إليه، ومن غربة عن العالم، ستجعل مصالحته معه مكلفة جدا، في طرف تدهور شرعيته الإقليمية، ومكانته الدولية.
‘ كاتب من سورية
القدس العربي