الروايـــــة ذلك الفن السهل الممتنع
رفيق شامي
هذه الملاحظات هي ثمرة السنين حاولت جمعها تحت سقف واحد لتكون بمتناول كل من يرغب. كتبت بعضها لصديق حميم وشاعر كبير تخطف أبياته القلب وكتبت الملاحظات الأخرى للحوار مع الطلبة في صيف عام 2001 في جامعة سويسرية عندما كنت ولمدة نصف سنة ضيفا أحاضر في فن الحديث.
قد تكون بمجملها بديهية أوجديدة، مخطأة في نواح ومصيبة في أخرى لكنها على أي حال ليست ملزمة لأحد.
وسيسرني أيما سرور إذا إستفادت منها على الأقل كاتب واحد أو كاتبة واحدة.
مقدمة لا بد منها
الرواية كما نعرفها اليوم حديثة العهد نسبياً مقارنة بفنون الكلام والكتابة الأخرى وهذا التذكار ضروري لأنه يعطينا مباشرة معلومات عن صفتين أساسيتين لهذا الفن.
أولاً الرواية لم ( ولن) ينتهي قالبها بعد فهي ولدت في عصر صفته الأساسية التغييـر. لذلك ليس هناك إطلاقا شكلا صحيحا وآخر خاطئ للرواية وقد أجاب أحد النقاد الألمان الشهيرين عن ماهية الرواية ضاحكا: “كل قصة أطول من 200 صفحة”. لكن حتى جوابه الساخر هذا يدل على رحابة فضاء الرواية وإمكانياتها الهائلة.
ثانياً الرواية إبنة ( شرعية أو غير شرعية) للثقافة البورجوازيــة الأوروبية ومع كون أساليب كثيرة من فن الحديث الشرقي تداخلت وتماهت ( وإنصهرت) معها إلا أن الرواية أنتجته حرية الفرد بزخم بدءاً من القرن السابع عشر ثم الثامن عشر وإنفجرت في القرن التاسع عشر والعشرين لتتجاوز في شعبيتها وتأثيرها كل الفنون الكتابية الأخرى. هذه الظروف التاريخية أعطت للرواية ينبوعاً جديدا لم تعرفه ألآداب القديمة: الحرية المطلقة في التعبير وهي كالحرية التي حلم بها ثوريي الجمهورية.
وأحد تعابير هذه الحرية هو: الرواية لا تعني ولا تأخذ بعين الإعتبار حتى رأي الجمهور ومذاقه… وهنا تختلف الرواية عن الشعر، فالشعر – حتى الثوري منه في أدائه – فن إحتفالي للجمهور سواء طرباً، حزناً، مدحاً، رثاءً أو قذحاً بينما الرواية لا تعني إطلاقاً برأي الجمهور أو الحاكم أو من مات ومن على قيد الحياة ولا تستطيع على الأغلب تحريض أحد بل على العكس كما سنرى تنهار عندما تحرض أما الشعر فلا. الرواية تنشأ وتنمو(أحيانا لسنين) في ذهن الكاتب (وليس وجدانه) إنها تعني بالدرجة الأولى بصيرورة أبطالها ومصداقيتهم وحيويتهم. الشعر لا يعني بذلك إطلاقاً ( سوى في الملاحم وهي أصلاً أحد أسلاف الرواية القديمة) بالحياة النفسية وبما يدور في أذهان أبطاله إلا بسرعة خاطفة. وهذه السرعة هي من إحدى صفات الشعر المشرفة له لإنه ومضة الضمير والشعور مسكوبة بحروف بينما الرواية هي حصيلة تفكير طويل وبطيء لذلك لا يستطيع الروائي الرد مباشرة على إنفعال أو حدث كما يفعل الشعراء يومياً.
أشبه الشعر بلحظة العشق والرواية بالحياة الزوجية وأنا لا أبالغ بذلك.
هذا ليس تقييم أدبي ضد أو مع فن من الفنون لكن علينا من البدء التفريق الواضح لنعرف سر الرواية وأين تلامس الشعر وأين تبتعد عنه.
مسار الرواية حتى يومنا
شيء من تطور الروايــة تاريخياً سيكون له تأثير على مفهومنا للرواية وعلى تحرير قلمنا من أوهام بثقل الرصاص.
الرواية كما نعرفها اليوم فن أبتدع كتابــة وليستعمل أيضاً قراءة عن أوراق مكتوبة وليس إلقاءً ( حكاية) أو ممثلة (مسرحية) أو مغناة ( قصيدة). لهذا السبب تقدم فن الرواية ( رغم وجود عدة أسلاف لها في العصور الغابرة ومن أطرف الصدف أن أحد أعظم الرواة كان لوكيانوس أو لقيان السوري الذي كتب قصصه الرائعة باليونانية وهو أول من كتب قصة عن رحلة فضائية) مع تقدم فن الطباعة وإنتشار قدرة فك الحرف من العلماء ورجال الدين في المعابد والقصور إلى النبلاء فالأغنياء من البورجوازيين وشيئاً فشيئاً إنتشرت القراءة (والرواية تحت إبطها) بين أوسع الطبقات واليوم تعد المرأة القارئة في ألمانيا الأكثر حباً للرواية من الرجل الذي يميل على الغالب للمجلة والكتب العلمية والسياسية. ( جمهور مستمعي الأمسيات الأدبية 70% نساء و30% رجال) تقدمت صناعة الكتب وأصبح إنتشار الرواية ممكناً عندما تطور سوق الكتب تطوراً ديناميكياً مفجراً طاقات الشعوب العلمية والأدبية ويبلغ حجم سوق الكتاب سنوياً في ألمانيا 10 مليارات يورو.
وللتذكار فقط فإن الرواية لم تُحتَرم في بداية طريقها إذ ظلت لغة العلوم في أوروبا اللاتينية (العالية المقام) بينما إنتشرت الرواية في اللغات المحلية ( الحقيرة بنظر المثقفين آنذاك) وأصبحت في متناول الجميع وحتى أن الكتب آنذاك كانت جميلة ومتقنة الصنع للكتب اللاهوتية والعلمية ورديئة الصنع للرواية….لكن إنتشار الرواية وتحولها لموضوع إقتصاد وتنافس أجبرالعاملين في الإنتاج بتحسين صورتها الفنية…. حتى أصبحت تدعى في الألمانية كما في الفرنسية الأدب الجميل
(belles lettres)
وكان لكتاب عباقرة مثل سرفانتيس ( مبتكر دون كيشوت التي نشرت عام 1613 وهي الرواية الأفضل عالمياً حتى اليوم) الدور الكبير في توسيع دائرة إنتشار الرواية ونجاحها.
كانت الخطوات الأولى للرواية تعنى دوما أن تشابه الحياة ( وكلمة حكاية بالعربية ليست سوى محاولة محاكاة الحياة بالكلمة) فكانت الرواية تدعي دوماً أنها لا تروي سوى الحقيقة وتلبس أحياناً ثوب مذكرات وتقلد أحيانا أخرى السرد التاريخي أو تقلد رسائل تبادلها إثنان لتروي عبر هذه الرسائل رواية… كما لم يبتعد الكتاب عن الوعظ ليتحلى قرائهم بالأخلاق الحميدة أو ليتعظوا عبرهلاك البطل أو البطلة ويبتعدوا عن الشرب ولعب القماروالخيانة الزوجية والكذب إلخ وكانت لاتأنف من إثارة الشفقة والدموع ( وهذا ما نسخه المنفلوطي وأسس به مدرسة تعيسة) لكن هذه كلها كانت من أمراض الطفولة وإن كانت لا تزال تدغدغ أحلام المبتدئين بإستمرار أن روايتهم ستهز المجتمع وتقدمه للأمام…الخ
مرت الرواية بعد هذه البداية بحقبة لاحقة تخلى فيها الكثير من الكتاب عن الإعتناء بجمال اللغة وإدعوا أنهم معنيون فقط بتقديم صورة عن المجتمع كما هو. إتصفت الروايات هذه بصغر الحجم ( مقارنة بحوالي 1000 صفحة لدون كيشوت وغيرها من الأدب الكلاسيكي) ورداءة اللغة وهي بدايات الأدب الواقعي وخليفته التلفزيون الوقائعي.
كثرت في هذه المرحلة روايات المؤامرات والفضائح وراجت مثل هذه الروايات في فرنسا وهولندا وكان أغلب الكتاب يكتب بأسماء مستعارة ودور النشر لا تصرح أين مركزها خوفاً من العقاب ( كانت تنتج الكتب في باريس وتعطي عنواناً وهمياً في فيينا أو موسكو) وأثر بعض هذه الروايات الذكية الذي أحسن فيها مؤلفيها المزج بين فضائح المجتمع السياسية والإجتماعية مع قصص كاذبة في المجتمع حتى أمست الكتب ممنوعة ولا تباع إلا في السوق السوداء.
صارت الرواية الشكل السائد الشعبي للقصص حتى أن قصص ألف ليلة وليلة التي ترجمت للفرنسية أولاً ثم الإنكلزية والألمانية سميت آنذاك “رواية”
وإزدهر القرن الثامن عشر بروايات مغامرة ( مثل روبنسون كروزو (1719) والتي يقال أن كاتبها ديفو سرق فكرتها من ترجمة مختصرة لاتينية لقصة حي بن يقظان للكاتب الأندلسي إبن طفيل….. ويقال أن هذا بدوره أخذها عن مخطوطة لإبن سينا) كانت آنذاك عودة للرواية الخلقية التي تهدف تربية الإنسان ولا يزال بعضها منتشراً حتى يومنا هذا.
في أواسط القرن الثامن عشر تقدمت صناعة الكتاب وإنتاج الرواية خاصة في فرنسا ألمانيا وبريطانيا وبدأ النقاد وعلماء الأدب يميزون بحدة بين الرواية الأدبية (الجادة) وروايات التسلية ( المنحطة أدبيا). هذا التقسيم إختفى تقريباً في أيامنا هذه في أغلب البلدان واللغات إلا أنه لا يزال له تأثير قوي في المجال الجامعي وفي صفحات النقد الأدبي ( خاصة في ألمانيا حيث تبلغ الجدية حدوداً مرضية مضحكة. لكنها في طريق الزوال تحت ضغط الأدب الأمريكي المسلي بسطحية والذي يلهث الأدباء والنقاد الألمان وراءه).
الأدب الرخيص لا ميزة له على الإطلاق. كل ما هو ممكن يكتب بشكل مبتذل لينال رضى قراء يتميزون بثقافة منخفضة ويقرأون بدون تركيز ( في الحافلة على طريق العمل).
الميزة التي طلبها أو تصورها نقاد الأدب من الأدب الجاد تتلخص ب:
1. أن كتاب الرواية لهم باعهم ونشاطهم الأدبي ( مثل صموئيل ريكاردسون وغوته وديدرو وروسو)
2. أن يمتلك عملهم ميزة اللغة المتينة الشعرية الأنيقة.
3. أن يحتوي العمل حقيقة وأخلاقية يمكن الوصول إليها عبر التفكير ( وليصبح موضوع الرواية قابلا للتدريس)
4. أن يأخذ الراوي حالة وهموم مجتمعه بعين الإعتبار وأن تؤثر روايته بها وأن يكون لكل فئة ( أو طبقة) رواتها الذين يعبرون برواياتهم عن مصالح هذه الطبقة.
لكل هذه العوامل مطبات كما سنرى فيما بعد. أذكر هنا بأطنان الأدب الواقعي الإشتراكي التي لم تؤثر ببعوضة وهدرت قوى أدبية رائعة. أنه في حصيلة الأمر لم يبلغ الإتحاد السوفياتي رغم إمكانياته الهائله وفروع خاصة لتدريس الرواية و60 سنة كل ما وصلته روسيا القيصرية بكتابها الفطاحل من دوستويفسكي، تورغينييف، تشيخوف تولستوي وغيرهم….
الأهم من كل ذلك أن القرار أو الإجابة على السؤال ماهي الرواية الجادة الجيدة وما هي السيئة المبتذلة لم يجب عليه بشكل صحيح حتى اليوم فكم من كاتب مدح بإصرار ولعشرات السنين من محافل الأدب ولم يأتي بشيء وكم من رواية أهملت من الجميع ( حتى من القراء) لتظهر فيما بعد كجوهرة أدبية تعامت حقبتها عنها. وكم من رواية أحبها ملايين القراء وإختفت دون أن تترك أثراً بينما يعود الناشرين لينشروا الرواية الكاملة لدون كيشوت ولموبي ديك(من هيرمان ميلفيل) بعد أن إختصرت التجارة بالكتابين لقرون كل منهما لنسخة مبسطة من حوالي 300 صفحة ( أصل كل من الكتابين حوالي 1000 صفحة)… والمفاجأة؟ لم يهتم أحد بالنسخة الكاملة دون كيشوت تظل بصيغتها الطويلة جميلة أما رواية موبي ديك فهي مملة بالصيغة الكاملة ملأها ميلفيل بالنصائح والخطابات الأدبية.. وهنا ما يا يقارب الأعجوبة أن الشكل المشوه التجاري كان في النهاية أجمل من الشكل الأصلي…هذا سيصادفنا مرة ثانية وإن كان بإختلاف ضئيل في رواية كازنتاكيس الشهيرة “زوربا”. رواية زوربا ربحت الكثير بترجمتها للإنكليزية بلغة حديثة مرنة. فلغتها اليونانية قديمة متحجرة تقطر أخلاقاً ووعظا. ثم ربحت الرواية مرة ثانية بتحويلها لفيلم من أروع الأفلام العالمية ببطولة أنطوني كوين وألحان الموسيقي العبقري ثيودوراكيس.
إذن التقسيم بين جاد وسطحي مليء بالتناقض وفشل حتى اليوم برسم الحدود الفاصلة بين ما هو مبتذل وهو جاد لأن هناك روايات أدبية في منتهى الإشراق اللغوي وسخف لا متناهي في المحتوى كما أن العكس موجود أيضا والحدود الفاصلة بين أدب جاد وآخر مبتذل غير واضحة إطلاقاً حتى عند اعمال كاتب(ة) واحد(ة). لا بل أذهب إلى أبعد من ذلك: لو تمحصت كثير من الأعمال الروائية لوجدت كل هذا التداخلات بين صالح وطالح في رواية واحدة.
هذا التقسيم كان له رغم ردائته تأثيراً كبيراً على نفسية الكتاب وعلى إنتاجهم. صار ( ولايزال) البعض منهم يكتب من البداية للنقاد وكأن رأيهم هو الأهم وهؤلاء أنعموا عليه على الغالب بإهتمام فائق حتى غدى الأمر ككرة الطاولة ذهابا وإيابا ولم يعد ما يكتبه بعضهم يهم أحد سوى بعض النقاد.
بينما إنجرف الآخرون من البداية إلى المقولة : النقاد لا يهمني أمرهم إطلاقاً أريد تسلية الجمهور.
هناك في تاريخ الرواية نقاش حامي حول نقاط وأسئلة عديدة ولم يحسم هذا النقاش حتى اليوم ولذلك يعود محتواه بدورية وبحلل جديدة.
النقاش دار ويدور حول النقط التالية:
إلى أي مدى يتحتم على الرواية أخذ المجتمع وتحولاته بعين الإعتبار؟
هل يمكن للكتابة (وللفن بوجه عام) أن ينتج مستقلا عن مجتمعه. أي الفن من أجل الفن؟
هل ترتبط جودة الرواية بجودة كاتبها الأخلاقية؟
من الصعب الإجابة على السؤال الأول والأخير سلباً أو إيجاباً فهناك مثلاً روايات رائعة كتبها كتاب وكاتبات عديمي الأخلاق وهناك آلاف الروايات السخيفة التي كتبها كتاب ذوي أخلاق حميدة إلخ. كما أن هناك روايات جيدة وسيئة أخذت تطور البلد والمجتمع بعين الإعتبار وأخرى لم تأخذ كل المجتمع بعين الإعتباروكانت بنفس السوء او الجودة من حيث النوعية. طبعا لا يخرج كاتب الرواية عن جلده فهو يخفي الكثير مما يعانيه زمنه أو شخصه في أشخاص الرواية..لكن المهم أن هذا ليس ملزما.
رواية سرفانتس “دون كيشوت” أراد بها هذا العبقري السخرية فقط من روايات الفرسان التي كانت آنذاك شعبية وإذ به ينتج رواية هي أفضل صورة عن عصره لا بل عننا نحن البشر حتى اليوم.
وأما جواب السؤال الثاني فهو أوضح نسبياً. طبعاً من السخف أن يكون الفن من أجل الفن فقط. لكنه أيضاً من الغباء والبساطة الفكرية أن نطلب من الرواية ( كما من الفنون الأخرى) أن تحل مشاكل مجتمع هي من واجب السياسيين. هناك قول لغارسيا ماركيس يرفض فيه توظيف الرواية للأعمال السياسية ويقول بعدها: كلما كان الكاتب أكثرثورية كلما كان عليه أن يكتب بشكل أفضل بمعنى أن عليه أن يعتني عناية مشددة بما يكتبه كرواية مبتعدا عن التحريض والوعظ والخطاب كما سأشرح لاحقاً في باب الخطايا المميتة للرواية.
من أين تأتي أهمية الرواية اليوم؟
الرواية تتميز بصفة فريدة فهي تقرأ بشكل فردي شخصي ( على عكس المسرحية والفيلم) لكنها تؤثر أيضاً على المجتمع.
وهي إذ تتكلم مع شخص واحد تصبح جداً قريبة منه تحدثه بهدوء وبثقة صديق وبالتالي تؤثر عليه مباشرة ودون أخذ رأي محيط القارئ بعين الإعتبار. هذا الواقع رفع أهمية الروائيين منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا وجعلهم يتبؤون منصب ضمير الأمة أو الشعب أكثر من أية وظيفة ثانية. خذ مثلا دور غوته، بلزاك، زولا، تولستوي، غوركي، توماس مان، جورج أرويل (1984) جويس، جولسينيتسن، غونتر غراس، غارسيا ماركيس الخ الإجتماعي. فهؤلاء أصبحوا أكثر مصداقية وتأثيرا من كل سياسي بلادهم. بغض النظر إذا إستطاعوا عبر ذلك تغيير شيئاً ما أم لم يستطيعوا فالتأثير درجة أولى من سلم التغيير الذي يتطلب صعوده عوامل ثانية كثيرة…
و الرواية حقل كبير للتجربة ومغامرة بين الواقع والخيال، بين ما نجده ونفكر به ونطوره في خيالنا لنعيده للحياة على شكل رواية.
هل من الضروري لكاتب الرواية أن يلم بالنظريات التي كتبت عبر التاريخ عنها؟ بالتأكيد لا تضر هكذا قراءة لكنها على كل حال لا تدرب الكاتب على كتابة الرواية وأفضل من هكذا دراسات بألف مرة قراءة عدد هائل من الروايات ومحاولة القاء نظرة خلف كواليس كل رواية للتعرف على أسلوب الكاتب ومحاولاته لإجابة على الأسئلة التي طرحتها الرواية بالذات. جورج لوكاش المنظر الماركسي مثلا كتب كتابا رائعا وكاملا عن ” نظرية الرواية” بعد قراءته قد تخرج بمعلومات نظرية قيمة جداً وبوجع رأس ودون فائدة عملية تذكر لكتابة رواية.
عشر فضائل على كاتب الرواية أن يتحلى بها:
1. الصبر
الصبر والجلد وطول النفس. أشبه الشعروالقصة القصيرة بسباق المئة متر بينما الرواية هي بالتأكيد سباق ماراتون. ليس هذا تقييم إنما إيضاح إختلاف ما يتطلبه كل فن. رواياتي أكتبها ست سبع أو حتى عشر مرات وفي كل مرة أفتش عن الشكل المناسب. وأنا أقرأ بنهم وأكتشف في روايات الآخرين بسهولة إن كانوا قد كتبوها بسرعة أم بتأني.
2. البداية
لا تبدأ بالكتابة ما لم يصبح فيلم الرواية جاهزاً في رأسك ببدايته ونهايته. هذا الفيلم سيتغير يإستمرار لكن وجوده في رأسك منذ البداية سيكون محركاً دافعاً للتقدم. وبالتأكيد هناك صرورة أعمل بها دوما وهو كتابة ملخص مسهب للرواية بحوالي 10- 20 صفحة وجدول بأبطال الرواية وأخلاقهم التقريبية. هذا يسهل العمل والعودة دوماً إلى الشيء الثابت متى تضاربت أحداث الرواية. هذا الملخص يمكن بإستمرار تغيره فهو ليس منزلاً لكنه كحبل الأمان ضروري. انا لم أكتب رواية دون مخطط على الورق. هناك من يبالغ ويحول المخطط لورقة حرب إستراتيجية وهناك من يحمل الرواية برأسه جاهزة بدون ورق. أنا مزيج بينهما. فتش عن الأسلوب الذي يجعلك أنت شخصياً أكثر هدوءاً أثناء الكتابة.
3. الشك
تحلى بقدر كبير من الشك بما تجده من أفكار بسرعة. لأن آخرين حضرتهم هذه الأفكار بالتأكيد قبلك من أمريكا لجنوب أفريقيا. ما يميز فكرتك التي حضرتك هو جلخ وصقل مستمر حتى تصبح جوهرة فريدة خاصة بك لم يخترعها إنسان قبلك. هنا تعلمت أنا الكثير من عملي ككيميائي في الأبحاث فمادة جديدة تنتج بسهولة في البوتقة وتقدم لك ناتج نهائي فائق الجمال قد تكون ضربة القدر ( بإمكانية واحد لمليون) لكنك على الأغلب أنتجت دون أن تدري ليس مادة كيميائية جديدة وإنما مادة معروفة منذ سنة 1900.هكذا أيضا الرواية. عد كل يوم إلى ما كتبته البارحة وحاول تركيزه إلى نصف الحجم تقريباً مزيلا بذلك كل شطط وكل شطحات. دقق العلاقات بين أشخاص روايتك التي بنيتها البارحة مع ما سبقه ومنطقيته ومصداقيته مع ما هو قادم لكي لا تتأرجح الرواية بأشخاصها وكأنها في زورق مهترئ في عاصفة بحرية. كثرة الأرجحة تصيب القارئ بالدوار فيترك الكتاب.
4. بناء قاعدة متينة
إقرأ بإستمرار روايات وتوقف عن قراءة الشعر. قراءة الروايات هنا ليس للتسلية إنما لترى قوة وضعف الرواية إغلق الرواية وحاول بصفحة أن تبني مشروعاً لنفس المادة المعالجة بالرواية بإسلوب آخر. تفرج على أفلام كلاسيكية ممتازة فهي معلم قدير. كلما إستوعبت مشاريع روايات كلما إزدادت متانة قاعدتك. لا تصدق فهلويات الكتاب عن وحي أتاهم كرواية كاملة.
5. إبدأ
ليس هناك إمكانية للبحث حتى النهاية عن وفي كل نقطة. ومن الخطأ المحبط للهمة أن تصر على إمتلاك كل المعلومات قبل بدئك بالكتابة. متى إتضحت الرواية في رأسك ( فقرة 2) إبدأ بالكتابة ومتى وصلت إلى نقطة تحتاج تعميق تبحث فقط عنها وتأخذ ما تحتاجه وتعود فورا للكتابة لأن الكتابة هي الهدف وليس البحث. جويس قال جملة جميلة جداً خول هذه النقطة: “نحن كتاب الرواية أخصائيين في كل نواحي الحياة لكن فقط لمدة قصيرة.” فأنا إحتجت لفقرة معرفة كيف تم إنقلاب الحناوي على حسني الزعيم ففتشت ووجدت معلومات جيدة جداً وتصلح كما هي لفيلم سينمائي. كيف أرسل الحناوي أحد الضباط القوميين السوريين وهذا صفع حسني الزعيم الذي خرج ببيجامته يسأل دهشاً عن سبب الضجة ثم ربطه وكأنه طريدة صيد فوق غطاء الموتور لسيارة الجيب وساق بسرعة مذهلة عبر شوارع دمشق النائمة في الفجر ليصل للمزة …الخ وبعد إنهائي الصورة توقفت عن البحث عن الحناوي لأنه لم يعد يهمني….عدت إلى الرواية من جديد…اليوم أصبح البحث بالإنترنت سهلا جداً( لكن إستعماله يتطلب الحذر والتمحيص) فأنا مثلاً وجدت عن الخط العربي أكثر من كل المجلدات التي جمعتها في مكتبتي. البحث والتمحيص يمنح أشخاص روايتك لحما ودما وإلا ظلت هيكل عظمية تهتز عند كل هبة ريح.
6. صوت المحدث
أهم وأصعب خيار عند بداية الرواية هو إختيار صوت (أو شخص) الراوي فبهذا الخيار تنجح وتسقط الرواية. أحيانا كنت أجد الراوي مباشرة وفي روايتي الأكبر “الوجه المظلم للحب” أرهقني التفتيش عن صوت الراوي سنين بكاملها أعدت وأعدت كتابة الفصول الأولى لأجد أن الصوت غير مناسب. مرة كان واعظا مرة أخرى كان خفيف الظل إلى حدود السخافة ومرات كان تراجيدياً مأسويا يخنق نفس القارئ. هل من الأفضل مثلا أن يكون الراوي أحد أبطال الرواية. هل يعيش أحداث الرواية آنيا أم أنه يلقي نظرة للخلف عند حديثه. كيف وأين هو؟ في السجن؟ في خمارة؟ في فراش الموت؟ يجلس بجانبنا أثناء رحلة؟ يدون بصورة جداً شخصية مذكراته؟ يكتب ذلك على شكل رسائل؟ ولمن؟ لحبيبته؟ لصديق يكذب عليه؟ أم أن الراوي شخص حكيم يقف على علو ويحكي الحكاية من أولها لآخرها وهو العالم بكل شيء؟ أم أنه لا يعلم كل شيء والرواية تبين له أيضاً أنه أخطأ التقدير؟ هل يدري بداخلية النفوس ومستورها أم أنه يبقى على السطح والأبطال يظهرون نفسيتهم عبر تصرفاتهم؟ هذه وأسئلة كثيرة عن الرواي تؤثر جداً على الرواية وهنا تستحق الرواية مقدارا كبيرا من العناية.
لكن مهما كان إختيارك تحاشى قدر الإمكان صيغة المبني للمجهول. أسرد بتأني وتحديد. المبني للمجهول هروب إلى العموميات. حمد قتل أحمد تحدد أكثر من قٌتل أحمد.
7. خزعبلات
أنا لاأعتقد بكل خزعبلات وفزلكات ما سمى نفسه بعنهجية (ما بعد الحداثة) ليأتينا بروايات لا أول لها ولا آخر ولا مذاق سوى شيء بدائي من علم النفس وشيء من عجرفة أشباه مثقفين. الرواية تخلد أو لنقول بتواضع تعيش لفترة طويلة في قلوب قرائها إن ماثلت الحياة ببداية وتطورت صعودا إلى ذروة ( أو ذروات متناقضة أو متوازية) لتأتي إلى نهاية. الذروة ليس بالضرورة في منتصف الرواية قد تكون في مطلعها أو حتى في آخر سطر لكن الرواية تتطلب محركاً يدفعها إلى الأمام وهذا المحرك هو الذي تولده الذروة المنتظرة وإلا أصبحت الرواية مسطحة لا تجذب أحد.
8. الفشل
الفشل ( حتى المتكرر منه) أثناء الكتابة لا يعني أنك لست قادراً على كتابة هذه الرواية بل أن الموضوع فيه سر لم تكتشفه بعد أو أن الأسلوب ( جلدة الرواية) لا يناسب لحمها وعظمها بعد فهو فضفاض أو ضيق. إبحث عن أسلوب ثاني. في روايتي الأخيرة ” الوجه المظلم للحب” لم ينجح أي أسلوب من عشرات الأساليب حتى إهتديت عبر التجربة للحل وهو حجارة فسيفساء أبني بها لوحة. 304 قصة كل واحدة منها شبه منفصلة عن الأخرى وقائمة بذاتها لكنها تتصل بوشائح عديدة واضحة ومخفية مع الأحجار الأخرى لتؤلف لوحة عن الحب الممنوع.
9. العزلة
لا تشارك أحد فيما تكتبه حتى شريك(ة) العمر فكلما زاد كلامك عن روايتك كلما غيرت فيها عبرتأثرك بتعليق الآخرين لا عبر ما تمليه أحداث الرواية. الراوي شخص معزول ودون هذه العزلة لا يمكن إنتاج رواية ممتازة. الرواية مشروع سري جداً يمكنك البوح لأصدقاء حميمين ولزوجتك بموضوعه فقط دون تفصيل.
10. القدرة على فهم النقد
متى إنتهيت من الرواية عليك أن تتجرأ وتعطيها لأشخاص يستحقون ثقتك لتسمع رأيهم النقدي. هذه أهم النقط وأكبر مطبات كتاب الرواية خاصة المشهورين منهم. المبتدئين يخشون النقد لكن متى وثقوا بإنسان محب للخير ويحبهم فلا داعي للخوف من نقده أو سرقته. أما الكتاب المشهورين فيصابون بغرور ألاحظه عند قراءة كتبهم. ترى أخطاءً لا يقوم بها طفل وكان من الأحرى أن تختفي لو أن الغرور لم يمتلك قلوب هؤلاء الكتاب. أنا لدي قارئتين وقارئين عديمي الرحمة. أسمع رأيهم بروايتي قبل أن اسلمها للناشر وفي كل مرة يغيظني رأيهم، لكنهم في النهاية أنقذوني دوما من السقوط في هفوات لا مبرر لها. الرواية هي روايتي في النهاية وأنا الوحيد الذي يحمل مسؤوليتها لكن الإلتصاق لسنوات بأبطال الرواية يمنعك من النظر عن بعد وبنقدية ويعيقك عن رؤية لكثيرمن التناقضات الكبيرة والصغيرة التي ترهق في النهاية القارئ. هذا أيضا سبب غيظي. اسأل نفسي كيف ولماذا لم أنتبه أنا لهذه الأخطاء. في إحدى الروايات مات أحد الأبطال ليعود ويظهر قبل نهاية الرواية. كدت أنفجر غيظاً لكني شيئا فشيئا عرفت سبب الخطأ. لضرورات روائية قسمت أحد الفصول. الجزء الأول بقي في مكانه وأبعدت الجزء الثاني إلى نهاية الرواية دون أن أنتبه أن الشخص هذا الذي يأتي زائراً سيموت في فصول قادمة.
عشرة خطايا مميتــة (ليس مسيحياً بل روائياً) على كاتب الرواية تحاشيها
1. الخطابية
بكل أنواعها ومهما كان مبررها سياسي للتوعية أخلاقي للتنبيه إنساني للتعبير عن الغضب مأسوي للتعبيرعن الحزن إلى ما هناك من مبررات تكمن كقطاع الطرق خلف كل منعطف من تلافيف مخنا العربي. صارت الخطابية جزءاً من دمنا لكثرة ما أنزل الله من ديانات خاطبة واعظة. الشعر هو أحد أبناء الخطابية الجميلين ولا يتناقض معها (لهذ كله مثلاً لا يتناقض الشعر مع الخطابية ( أنظر إلى 99% من الشعر القومي أو الفلسطيني) بينما الخطابية والرواية أعداء ألداء. ويمكنني القول الخطابية هي الخطيئة الكبرى المميتة للرواية. ويرتكب غالبية الكتاب العرب هذه الخطيئة. لأننا شعب مولع بالخطابة ولم تحرره ثورة بعد من فذلكة وفهلوية الخطاب. والخطابية هو تضخيم الموضوع الموصوف بكل الوسائل ليصبح المستمع متحيزا للخطابي. ويمكن القول أن المراد من ذلك أن يفهمه أغبى مستمع في زمن الراديو والتلفزيون ( وكثيرا ما يرد لخاطري أن حكامنا عندما يلقون خطابا ما يقومون بذلك وهم على قناعة أن المستمعين أغبياء. وعلى الأغلب لا يحضرون أنفسهم لشدة إحتقارهم لرعيتهم فأي راعي هذا الذي يشذب خطابه لأغنامه؟ يقال أن أحدهم سأل حكيما كم من الوقت يلزمه لإلقاء خطاب مدته خمس دقائق فقال أحتاج لأيام لتحضير هذا الخطاب وماذا لو كان الخطاب بطول ثلاث ساعات ؟ فضحك الفيلسوف وقال لهكذا خطاب لا أحتاج لأي تحضير. هناك نساء ورجال أذكياء جداً ويستطعيون إلقاء خطاب على أي موضوع تسأله بدقة العالم لكن أغلب الخطابيين أغبياء بعنجهة طاووس. لقد قمت بتجربة وأخذت خطابين أحدهما لعبد الناصر والآخر لحواتمة ووجدت وبكل إحترام أن الخطابين يمكن تلخيصهما لخُمس حجمها دون أن يفقدا شيء من محتواهما. إذن ما الذي تحتويه أربعة الأخماس الباقية؟؟ خطابات عرفات – رحمه الله – يمكن الإستغناء وبدون أية خسارة عن تسعة أعشارها. كنا في دمشق نسمي هذا الجزء “أكل هواء” والحكام العرب الآخرون أسوأ بكثير من ناصر وحواتمة. في الرواية يكفي الوصف الدقيق وكلما تخلى الكاتب عن حشر الصفات كلما وضحت الصورة.
إبتعد عن المضاعفة في الوصف فهي متعبة: النسيم عليل قالت فلانة (بفرح) أترك ما يعرفه القارئ سلفاً… إخرس يا ولد، صاح الرجل (بغضب)…وعلى كتفيه رأس كبير (ثقيل) وألقى نظرة قاتلة (ساحقة) مليئة بالحقد (والكراهية).
تحاشى تكرار الصور المهترئة عبر الإستعمال المتكرر( قد مياس) ( شامخ كالجبل) ولتكن لغة الرواية على كامل قوتها وشاعريتها مباشرة.
الرواية تموت بالخطاب وتسقط من يد قارئها. ونصيحتي هنا أن تشطب بكل جرأة كل ما ينساب من قلمك لتوعية الآخرين. الرواية تطور الوعي كلما خلت من الخطاب. لقد قرأت في شبابي مئات الروايات الإشتراكية والعربية الواعظة ولم يبق منها ربع ما بقي من روائع الأدب العالمي البعيد جداً عن الخطابية.
أيضا زيادة الحوار مرهقة كالخطابية. الحوارمفيد في المسرح أكثر منه في الرواية. إقتصد قدر الإمكان في الحوار.
2. مبالغة الفلسفة والشاعرية
هناك طبعاً جمال اخــاذ للغــة. لكن لغة الرواية عليها الإلتصاق بالأرض والإبتعاد قدر الإمكان عن الشاعرية (عدم قتلها أقول فقط الإبتعاد قدر الإمكان) ليس هناك ما يحزنني أكثر من رواية يتحدث فيها أبطالها كلهم كشعراء وفلاسفة مع أنهم فلاحين أو عمال أو رعاع. وكأن الكاتب يريد أن يظهــر لنا أن الرواية لوحدها هكذا “حــاف” لا تشبعه ولاتكفي غروره فيبدأ بوضع فلسفات محقة أو غير محقة على ألسنة أبطاله ويرقعنا كل منهم تحليل ولا هيغل ولا فرويــد. هذه عقدة نقص يقع فيها كثير من كتاب الرواية. الشاعرية رائعة لكنها تصبح خطيئة إذا تمادت على ديناميكية الرواية وشلتها في متاهات لغوية. وهذا المرض منتشر في كل اللغات. اللغة الشعرية فيها إمكانية للضبابية وللتلميح وأما لغة الرواية فإنها تفضح بوضوحها ما إذا كان الكاتب يفهم الموضوع الذي يعالجه…خذ مثلا شاعر الماني أعرفه عن قرب لم يفتح كتاب فيزياء بعمره ويكتب قصيدة عن موضوع نظرية أينشتاين النسبية التي درستها طوال ثلاث سنين..قلت له أشكر ربك أنك لا تكتب قصة. فهكذا تلميح يظهر الشاعر وكأنه سبر غور الرياضيات العالية وفيزياء الذرة بينما ككاتب كان سيضحك القراء لهشاشة معرفته بدقائق القصة..من أجل 10 صفحات حول السيرك رافقت سيركا لمدة شهرين وعشت معهم وعرفت عن قرب مقدار الصعوبات التي يعاني منها هؤلاء الذين يظهرون بحلل بهية وبإبتسامة دائمة. تعرفت على بؤسهم وسعادتهم. على حياة كحياة البدو الرحل من مدينة لمدينة وعلى هشاشة الحياة التي يعيشونها مليئة بالأخطار. كان أجمل مديح لروايتي “رحلة بين الليل والصباح” ليس المديح الأدبي بل مديح مدير للسيرك متقاعد كتب لي رسالة حب أنه فحص كل لعبة في سيرك روايتي فحصاً دقيقاً وكل تصرف للساحر ولمروض الوحوش ولم يجد خطأً واحداً.
3. إثقال الرواية بأهداف قبل كتابتها
التخطيط جيد وضروري لكنه يصبح خطيئة عندما يضع مقدماً هدف على الرواية الوصول إليه فهذا لا يترك مجالا لتطورالرواية تطوراً حيوياً بل يصب محتواها في قالب أعده ويلوي عنقها لتؤدي الهدف الذي رسمه ( مثلا أن ينتصر الخيرعلى الشر وهو ما سبب تساقط أغلب الروايات الإشتراكية). نهاية الرواية وماتقوله يمكن الحكم عليه عند إنتهاء وليس عند مطلع العمل بالرواية. حتى أن النهاية المفتوحة للرواية قد تكون أفضل من النهاية الجيدة أوالسيئة.
وبوجه عام المهم في الرواية هو الإجابة على السؤال كيف حدث شيء وهذا أهم من الإجابة على السؤال ماذا حدث…ماذا لم تتغير من أيام نوح وأما الإبداع فهو في تجدد الكيف يومياً.
4. كتابة الرواية لقراء محددين
الرواية فن كبير لكل البشر ولكن الكتاب السيئين يكتبون لزمرة معينة لينالوا رضاءها أو لينالوا أوسمتها وترى كتبهم لا يفهمها أحد خارج هذه الحلقة المحددة من الأكاديميين أو الحزبيين أو النقاد. ويكثر مثل هذه الروايات في المانيا فترى أحدهم كأنه يكتب لأستاذه ليريه كم وكم قرأ من كتب الفلسفة حتى أنه لا يتخلى عن الملاحظات وكأنك أمام أطروحة. أو أن آخر يكتب لعائلته أو لنفسه أموراً قد يفهما إبنه أو تفهمها زوجته فقط.
5. تقـليــد الآخرين.
مهما نجح كاتب في رواية مقلدة ما فإن تقليده رغم إغراؤه سم مميت للرواية التي نحن بصدد كتابتها. هذا له سببين مهمين إلى جانب أسباب أخرى نفسية لا مجال هنا لتفصيلها. أول الأسباب ان المقلد لا يمكن له أن يبدع. يمكن له أن يتقن التقليد فيزيد من شهرة من قلده أما هو فيظل في الظل. ثانيا كل موضوع يتطلب ثوب روائي خاص به لذلك يشوه التقليد ويقصقص أجنحة الموضوع سلفا لتتناسب مع الثوب المفروض بدل التروي والبحث عن الثوب الملائم والذي يزيد الرواية جمالاً سرياً يشعر القارئ به.
لا تقلد على الإطلاق كل تراث البكائيات. تحاشى إثارة الشفقة حتى يسيل الدمع. هناك مشاهد محقة تثير الحزن تحتاجها كل رواية وأخرى مصطنعة كالتراث المنفلوطي وبكائيات الأفلام المصرية خاصة فريد الأطرش بشعره اللماع. نحن شعب يعشق البكاء أهرب من هذا التراث المريض.
6. التسرع في الكتابة
على عكس الفنون الأخرى التي يمكن فيها لخاطرة ولصياغة واحدة أن تصل إلى نتيجة ثورية فائقة الجمال لا يمكن للرواية أن تزهر وتثمر إلا مع الوقت. لذلك لا تستطيع الرواية كالشعر والمسرح الرد على الأحداث مباشرة. ومرض قلة الصبر منتشر جداً بين كتاب الرواية وهذا لعدة أسباب قد تكون وجيهة أو لا تكون لكنها على كل الأحوال هدامة للرواية. الرواية تحتاج لوقت لتنمو ولتجد قالبها. هناك شواذ للقاعدة تحكى عن بعض الروايات التي أنجزها كتابها العباقرة في وقت قصيــر للغاية. أنا لا أميل إلى تصديقها فهي نوع من الدعاية. أنا مثلا أحتاج لوقت طويل جداً وقد جمعت مرة هكذا للتسلية لأن طلاب المدارس والجامعات أحرجوني بسؤالهم “كم صفحة تكتب في اليوم؟” جمعت كل ما كتبته في عشر سنين من مقال ورواية وكتب علمية فوجدت في النهاية معدل يقارب سنويا100 صفحة (منها 75 رواية و25 متفرقات: قصص قصيروة مسرح وكتب للأطفال، مقالات، تعليقات الخ).
100 صفحة في السنة لا أكثر، طبعاً إلى جانب أعمالي الثانية من محاضرات سفر وحياة عائلية مليئة بالنشاط. هناك كتاب لا يستطيعون العيش إلا للأدب ويرفضون أخذ أي إنسان بجوارهم بعين الإعتبار. أنا أعتبر كل نقاش وفنجان قهوة وحديث مع زوجتي أهم من كل روايات العالم وكل مرح مع إبني يعادل في قلبي أفضل رواياتي…
ماذا تعني هذه الإحصائية؟ تعني أن رواياتي تطورت بسرعة 75 صفحة سنويا (وبمثابرة 40 سنة) أي كل يوم حوالي ربع صفحة. هذا فقط مثال حسابي لأني أحيانا أكتب عشرة صفحات وأعود وأشطب ثم تمر أيام وأنا أبحث عن معلومات. أدرس الآن مثلا دور إبن مقلة وتأثير العثمانيين الرائع على الخط العربي فموضوع روايتي الجديدة “سر الخطاط الدفين” هو الخط العربي. قد أقرأمجلدا كاملا أهداني إياه صديق عراقي ولا أحصل منه على أكثر من 5- 10 أسطر لا غير لكنها متينة في محتواها كحجارة قريتي معلولا. سألت زملاء ألمان فقالوا لي أنهم حسبوا وجمعوا وطرحوا فوصلوا إلى معدل نصف صفحة يومياً.
عندما تنتهي من صفحة أو صفحتين على الأكثر عد إليهم ونقحهم بشدة وعنف وكأنهم ذاهبين إلى المطبعة لا تؤجل التصليح لما بعد ( فهذا من أمراض الطفولة في كتابة الرواية) لأن الحشو يختبأ وسط المهم ويصعب التخلص منه فيما بعد ( هذه “فيما بعد” بكل ألوانها أيضا من الأخطاء المميتة) كما يصعب التخلص من الشحم وزيادة الوزن أكثر من صعوبة الإنتباه عند الأكل. كل كلمة ممكن حزفها دون أن تخسر الجملة شيئاً من معناها هي كلمة حشو يلزمها إختصار.
7. العشوائيــة في التخطيط
لا يضر الشعر ولا القصة القصيرة عشوائية الكاتب. فبر الأمان قريب. في الرواية تقوض العشوائية كل مسعى الكاتب. الرواية يمكن دون مبالغة تشبيها بالبيت الذي لا يبنيه عاقل على شكل جزء من الأساس ثم غرفة في الطابق الثالث وبعد ذلك الطابق الأرضي… والذي يصمم بدقة لكي لا يستهلك مواد بناء زيادة عن اللزوم (وهو المرض الأكثر إنتشاراً بين الكتاب) كما يؤدي التهاون في متانة البنيان الداخلي لإنهيار الرواية. المتانة تأتي بالبحث والتمحيص في كل ما نكتبه.. سواء كان ذلك تاريخياً أو ماركة مسدس أو موديل الباص الذي إستقله ( أحيانا لا يكون الشيء موجوداً بعد (أو لم يخترع بعد) في الزمن الذي تجري فيه الرواية. ليس هذا فحسب بل عندما نغوص في نفس الأبطال علينا معرفة الشخص بدقة لنتحدث بلغته. هنا لا غنى عن الدراسات النفسية التي تتوفر في الأسواق حول كل موضوع. أيضا ليس على الكاتب أن يعيش كل شيء بذاته ليستطيع الكتابة عنه (هذا وهم سائد عند كثير من نقاد الأدب) فمثلاً أنا لم أسجن مرة في حياتي ( أعتقلت مرة واحدة عندما إحتقرت أمر منع التجول في الليل لأزور إبنة خالي في فراش موتها وأنقذني صديق لأخي يعرف بالصدفة الرقيب العسكري الذي إعتقلني مع الدورية تحت بلكونه فهو من بلدته وكان شجاعاً كريماً ركض ببيجامته لإنقاذي ولم يتركني حتى وصلت آمنا إلى حينا القريب) لكنني جمعت مكتبة صغيرة من يوميات سجناء وكاسيتات من مقابلات لسجناء في تدمر وعدرا والمزة وصيدنايا واليونان وتركيا وأمريكا اللاتينية وإستطعت الكتابة عن السجن في روايتي الأخيرة بشكل لا بأس به) كما ليس على الروائي أن يكون إمرأة ليكتب كإمرأة بل عليه دراسة نفسية المرأة ( مثلا عند إنتظارها لحبيبها…. وهنا فائدة مطالعة الرواية من قبل إمرأة قبل تسليمها للطباعة). هذه الدقة هي المنقذ الوحيد من العشوائية. وأما أغلب الروايات العربية فهي مثال للعشوائية في القفز والإدعاءات الخاطئة ( خاصة عندما يكتب رجال عن النساء أو عن الأوروربيين أو عن الأقليات خاصة عن اليهود… تصبح الكتابة مصيبة) الروائي لاعب شطرنج يفكر في خطواته وينقل أحجاره بدقة وحسب الأصول لكي لا يسخر منه اللاعب قبالته فكيف الحال مع رواية يقرأها خبراء. وبنظري كل قارئ خبير. هكذا أكتب وإلا فلا.
هناك عشوائية أخرى في تحديد ابطال الرواية وأشخاصها. قبل البدء بالرواية على الكاتب تحديد عقلية وأخلاق وتطور أشخاص روايته ليعود إليها ولا ينساها وهكذا تنمو كل شخصية بشكل منطقي بحيث تصبح ملموسة حيوية ولا تقفز بين بطولة وسخافة متناهية لتعود وتصبح لا مبالية أو قديسة فجأة.
عشوائية الموقف ترهق أيضا القارئ. القفز من زاوية رؤية (وجهة النظر) لأخرى تشوش بحيث تضيع الطاسة كما يقال في دمشق (والمعني طاسة الحمام). متى بدأت في حدث ما تعبر وتفكر من زاوية الشخص (س) إبق في مكانك حتى ينتهي المشهد ولا تقفز لتتحدث من وجهة نظر(ع) الآخر. يمكن حتى وصف مشهد بكامله حتى النهاية والعودة لوصفه ( أو وصف تأثيره) من وجهة نظر أخرى كما قام ماركيس وغيره لكنه مادام يرى الحدث بعيني الشخص (س) فإنه يلازمه ولا يقفز بعيدا ليقف قبالته.
القارئ قد لا يكون عدوك لكنه على أية حال ليس صديقك فلا تنطلق من فرضية أنه يفهم كل تلميح عشوائي. إفترض أن قارئ روايتك من اليابان ولا يعرف أي شيء عن محيط أبطالك ويتطلب منك دقة متناهية لكن دون إسهاب في الوصف. أنا أعتقد أن قرائي مثلي قليلين الصبر تجاه الملل الناتج عن الإسهاب لأنهم مثلي يعرفون أن هناك آلاف الروايات الجميلة والعمر قصير فلما إضاعته مع الكتاب المملين.
سواء بمخطط أو بدونه بين الحين والآخر أنظر إلى المكتوب وإسأل نفسك هل لا يزال كل شيء منطقياً وجذاباً
8. الإستخفاف بالقارئ
بعض الكتاب (ومخرجي الأفلام) يتعامل مع قرائه مثل تعامل بعض السياسيين مع المواطنين وكأنهم مهابيل…. القارئ يسامح هفوة هفوتين وغلاظة أو غلاظتين لكن متى شعر أن الكاتب لا يحترمه ألقى بالكتاب وكاتبه معه إلى سلة المنسيين. أنا أنطلق من فرضية أن قرائي أذكيــاء ملاعين يحبون اللغة وكل تعقيدات الحياة ومفاجآتها ولا يحتاجون للتبسيطات الغبيــة لرجال الكنيسة حتى تفهم آخر أرملة ما يقصدون. وأعرف أن أعدائي يتربصون لخطأ ولذلك أفحص كل شيء لأكسفهم المرة تلو المرة.
تدربت على ذلك في حينا الدمشقي الشعبي العبارة (منطقة باب شرقي) حيث كان كل طفل مستمع يعرف أكثر من الراوي ويا ويل الراوي إن أبدى ضعفا فإنه سيصبح هدف تهكمات هؤلاء الأطفال الملاعين.
الروائي لا يكتفي بالعموميات وهو الشقيق التوأم للصحفي: جلس الرجل على الكرسي. أي رجل كيف مظهره وأين كان الكرسي وكيف كان ولماذا جلس وإلى أي جهة نظر الرجل؟
لا تمضغ الجملة طويلا فتفقد سحرها ومقدرتها على إثارة خيال القارئ الذكي. هذا الخيال الذي يشارك بالقراءة والذي يضمن لك بقاء روايتك في ذاكرته كلما ساهمت روايتك بتحريكه وليس عبر النية الطيبة والشرح المستفيض الذي يؤدي بالتأكيد لتنويمه. إترك بعض السحر في وصفك مستوراً هذا هو أكبر أسرار نجاح الدعاية الذكية وقدرتها على البقاء في الذاكرة وتفوقها على دعايات غبية لمسحوق الغسيل الذي يبيض الغسيل أكثر بياضا من الأبيض.
9. الإلتصاق بالنص والتماهي مع ابطال الرواية
بالطبع على الكاتب أن يعيش مع أبطاله لكنه من الخطير عليه أن يغرق في النص ويفقد مسافته النقدية الفاصلة عن الأبطال فمن الخطأ أن يتماهى معهم إلى حد يعجز فيه عن الفصل بين ذاته وذاتهم. لا يستطيع الكاتب عبر هذا الإلتصاق أن يكتشف مواطن ضعفهم. في هذه الحالة الخطيرة يغرم الكاتب بروايته وأبطالها ويفقد إمكانيته أن يسحر القراء ليغرموا هم بأبطاله.
لا تكثر الصفات وإستعملها بحذر كالبهارات وليس من الدقيق أن تصف كل إمرأة بالجميلة…كيف جميلة؟ إذا لم يبقى أمامك سوى مقاييس جسم المرأة فإتركها لأن جيوش جرارة من الكتاب الرجعيين ملأوا أطنانا من الورق في هكذا وصف الذي إذا دل على شيء فإنما يدل على عدم نضوج الكاتب لإستيعاب المرأة ككائن جميل بذكائه وإنسانيته. وإسأل نفسك دوما: هل من الضروري أن تكون بطلة روايتك جميلة؟ وهل من الضروري أن تتغنى في روايتك بدون كلل ولكن بملل بفحولة أبطالك (كما فعل المرحوم حنا مينه) وهل من الضروري أن يكون رجل المخابرات بشعاً؟ وكل غني بكرش؟ وكل رفيق بارع القامة كما في الأدب الستاليني؟ ألا تظن أن الرواية تصبح أجمل لو كان كل هؤلاء بمظهر عادي جدا ونفس مخبأة وراء قناع العادية؟ ,انت بإسلوبك الجميل تقود القارئ للتعرف على نفس هذا الرجل الوغد، الشهم، الشجاع أو الجبان؟
10. إنهيار بعد منتصف الطريق.
هذه الخطيئــة لها مبررها لكنها تميت الرواية فأنت تقرأ رواية ممتازة المطلع وتستمر صعودا وتشويقا إلى وسطها لتبدأ بالإنهيار وتنتهي بنهاية مملة أو غبية أو متسرعة فقط لإغلاق الرواية بأي ثمن. لهذه الخطيئة سببين: التخطيط كان سيئاً من البدء والتشويق الذي بدأت به الرواية لم يخطط بعناية ليفي الوعد بالنهاية. قليل الشيء كثيره. أما عندما يبالغ الكاتب بالتشويق بأي ثمن ويصل بالرواية إلى عقدة رهيبة ولا يجد مخرجا لها سوى مخرجا فهلويا لا تصدقه حتى حماته فإنه يقتل الرواية. لا تعلن كالمنادي في السواق أن أحداث جسام ستحدث بل إروي مباشرة هذه الأحداث. الأبطال ليسوأ أنبياء بل أناس عاديين لا يعرفون ماذا سيحدث معهم أم أنك تعلم الغيب؟ القارئ لا يحب الروائيين الأنبياء المزيفين.
بعض الروايات كان من المحتمل أن تصبح رواية عالمية لو تأنى كاتبها بالبحث عن مخرج أو لكان أعاد كتابتها من جديد بصورة متواضعة منذ البدء. لكنه تعب على ما يبدو وأستنفذ كل ذخيرته. هذا الإرهاق هو السبب الثاني. تستهلك الرواية طاقة كبيرة ولا بأس أن يقطع الكاتب العمل لفترة ليعود مليئاً بالأفكار والهمة لا أن يغلق الرواية بسرعة ناسياً أغلب خيطان السجادة التي بدأها دون حبك
وأخيرا ملاحظة قبل الوداع
الرواية تتطلب ليس فقط ذكاء من كاتبها بل أيضا من قارئها فهي على عكس الشعر لا تقيم وزنا كبيرا للتأثير النفسي ولوقع الكلمة بل تتطلب غوص القارئ حتى أعمق التفاصيل وحفظها في ذاكرته من أول كلمة وحتى آخر جملة ولا تصلح قراءة الرواية إلا هكذا فهذا الفن الرفيع لا يسمح بتقليب الصفحات. الرواية عالم كبير وحتى ولو صغرناه لمدينة فإنه لبديهي أن نفترض أن من يدعي أنه زار مدينة ما ان يكون قد زار أغلب الأحياء والحارات الصغيرة بما فيها لأسواق والمعالم التاريخية والحديثة الأخلاقية وغير الأخلاقية وليس كسائح غبي يكتفي بالطريق الرئيسي ويخرج كما دخل فاضي الوفاض إلا من بريق لحظة. وهكذا أيضا قارئ الرواية.
إذا كان كل ما قلته عن قراءة الرواية صحيح فكيف الحال لمن يريد تأليف رواية بعالم أكثر تعقيدا من أية مدينة. ولذلك ولكل ما سقت في هذا المقطع يتحتم على الكاتب ألا ينسى إطلاقا ولا للحظة الخيط الأحمر الذي سيخرج القارئ من المتاهة (كما أنقذ خيط أريادنة (الذي أنقذت حبيبها في متاهة المينوتاور كما تروي الأساطير اليونانية) . أي كاتب لا يعتني بدقة بهذا الخيط سيفشل من إيصال القارئ لنهاية روايته.
… ما أتمناه لك ولكل الكاتبات والكتاب العرب أن تصل الرواية العربية إلى أبعد أصقاع الدنيا كما وصل إليها كتاب أمريكا اللاتينية متجاوزين أصل ثقافتهم الإسباني ومتفوقين على كتاب أمريكا المهيمنة إقتصاديا وسياسيا على بلدانهم…
رفيق شامي
المانيا ربيع 2008
ارجو ارسال الموقع الرسمى للكاتب رفيق شامى الى