في السّجال حول قانون الأحـوال الشخصيّة السوري
أُبيّ حسن *
بتاريخ 7/6/2007، صدر القرار رقم 2437 الذي بموجبه أعدّت لجنة «سريّة» شكلها رئيس مجلس الوزراء السوري قانوناً جديداً للأحوال الشخصية السوريّة. ومنذ أكثر من شهر، تسرّب القانون الجديد إلى بعض الناشطين السوريين المستقلين، ليثير زوبعة من الانتقادات الحادة ضده، وهي انتقادات أتت حصراً (في بدايتها على الأقل) من مثقفين ونشطاء مستقلين (لا هم من الموالاة ولا هم في صفوف المعارضة).
أجمع كل من تناول القانون الجديد على أنه ينسف جلّ ما حققته المرأة السورية من مكاسب حضارية سطّرتها بكفاحها ونشاطها وانخراطها في الشأن العام منذ مطلع القرن العشرين، وربما منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إلا أنه والحق يقال، أتى قانوناً مفصّلاً على مقاس مسلسل «باب الحارة»، وكأن المطلوب من السوريين بمختلف انتماءاتهم وخلفياتهم أن يعيشوا خلف أسوار تلك الحارة التي لم تعرف المدنيّة بعد!
لقد أتى في طيات القانون الجديد تعابير اعتقد السوريون أنهم تجاوزوها منذ ما يزيد على القرن؛ فكيف ستغدو الحال، إذا كان من شأن بعض ما انطوى عليه تفتيت بنية المجتمع السوري، الذي من حقه أن يتطلّع إلى عيش حياة عصرية حديثة؟ فعلى سبيل المثال، استعاد القانون الجديد في المادة 38 منه مصطلح أهل الذمة، كما اعتبر مشروعه أن زواج الرجل والمرأة باطل في أكثر من حالة، كما أتى في نصّ المادة 63 منه، وهي زواج المسلمة بغير مسلم حال لم تكن كتابية (يلاحظ هنا استعادة مصطلح كتابية)، زواج المرتدّ أو المرتدّة عن الإسلام ولو كان الطرف الآخر غير مسلم. ناهيك عن أنه أتى في متن المادة 93 فإن عقد الزواج الباطل، وفق فقه المشرّع، لا يترتب عليه مهر ولا نسب ولا وراثة ولا حقوق!
بهذا المعنى، فإن زواج السورية من لا أدري أو ملحد أو بوذي (والعكس صحيح)، يعتبر زواجاً باطلاً حتماً! وفي أحد بنوده، ثمة إحياء بطريقة غير مباشرة لمصطلح الردّة وجواز محاكمة المرتد عن دينه (الإسلام). هذا ما تؤكده المادة 233 التي تنطوي على «إذا ارتدّ الزوج قبل الدخول، فسخ القاضي الزواج، وإذا وقعت الردّة بعد الدخول وعاد إلى الإسلام خلال العدّة عادت الزوجية ولها الفسخ». فيما تنصّ المادة 234 على أن ردّة الزوجة بمفردها لا توجب فسخ العقد.
ناهيك عن احتفائه بتعابير منفرة، أبعد ما تكون عن روح المساواة والمواطنة، ناهيك عن أن الأذن تخجل من سماعها، من قبيل: الموطوءة، والنكاح، وأجرة إرضاع الولد، وخفض سن زواج الفتاة إلى سن الثالثة عشرة، وتحويل المرأة إلى مجرد آلة إنجاب ووسيلة متعة للرجل لا أكثر، والكثير من هذا القبيل، وهو ما يتناقض مع الكثير من نصوص الدستور السوري الذي يؤكد على المواطنة بين الناس بمعزل عن دينهم ولونهم وعرقهم وجنسهم.
اللافت في السجال الذي جرى (وما يزال) في سوريا، بل المفجع، هو صمت المعارضة السورية (بشقيها الداخلي والخارجي). في وقت علت فيه أصوات بعض الإسلاميين المعتدلين رافضة المشروع جملة وتفصيلاً، وهذا ما عبر عنه أكثر من مقال للناشطة الإسلامية السيدة أسماء كفتارو (حرم الدكتور محمد حبش)؛ ففي أحد مقالاتها، في موقع «نساء سورية» بتاريخ 9/6/2009 اعترضت بشدة على القانون المذكور. نورد هنا بعض ما جاء فيه نظراً لأهميته :«ومع أنني أرفض اعتماد القانون المذكور أصلاً للحوار كونه بني على أساس من تجاهل الروح القانونية وتجاهل المرأة السورية العاملة (نائب رئيس الجمهورية، المستشارة في شؤون القصر والأمور الفكرية، الوزيرات، وأعضاء مجلس الشعب، والناشطات في حقوق المرأة) والتأكيد على ظلمها واستنكارها كإنسان كامل الأهلية وتغييب الروح التجديدية التنويرية في الفقه الإسلامي والمنهج الوسطي للإسلام والاعتماد على الفكر التقليدي التعصبي الذي يحاول أن يبعد المرأة عن مجالات الحياة العامة وقد فتحت لهم نافذة مشروعة من خلال رئاسة الوزراء ليحكموا فيها على النساء والمجتمع بما تهوى أنفسهم بقوانين مشروعة من الدولة، ولكن أذكر على سبيل الاستطراد النقاط الآتية:
1ـــــ إن إقحام اللجنة نفسها نائباً عن الطوائف المسيحية والدرزية والموسوية في البلد مع غياب أي أحد من أفراد هذه الطوائف عن مسودة القانون يعتبر خللاً فاضحاً، وهو تجاهل مؤسف لعدة قوانين صدرت في الماضي وصادق عليها مجلس الشعب، وصدرت فيها مراسيم جمهورية تقرّ ما ارتضته الطوائف الدينية لنفسها وما عبرت عنه مرجعياتها الدينية المختلفة.
2ـــــ المادة 44 أعادت مسوّدة القانون سن الزواج إلى ما دون السابعة عشرة للنساء والثامنة عشرة للرجال وهو ما كان محسوماً بالقانون السابق، وذلك حين منح القاضي سلطة تقديرية يمكنه أن يأذن بموجبها بإجراء عقد الزواج للأطفال إذا طلب الأطفال الزواج وقدر القاضي أنهما قادران على الزواج جسدياً فيطلب من الأب أن يأذن لهما بالزواج، وهذا يتنافى مع منطق الاتفاقات الدولية التي صادقت عليها سوريا ويتنافى مع واقع الحياة وما ثبت علمياً وطبياً واجتماعياً من عدم قدرة الأطفال على بناء حياة أسرية جيدة وتحمل الأعباء التي ستوكل إليهم.
3ـــــ إعادة ترسيخ تعدد الزوجات من دون وضع ضوابط حقيقية ترفع عن المرأة الظلم، وذلك عن طريق ذكر الشرطين التقليديين النفقة والعدل، مع العلم بأن هذه الشروط لم تتمكن على الإطلاق من رفع الظلم عن المرأة المتزوج عليها. وقد عجز القانون عن أن يجعل التعدد وضعاً استثنائياً بل عمد إلى اعتباره حقاً مطلقاً للزوج لا علاقة للمرأة فيه».
فيما انتقد الدكتور محمود عكام، أخيراً، القانون من خلال موقعه الإلكتروني، مسجّلاً شهادة لله والتاريخ، بحسب قوله، أهم ما أتى بها: «أنا أحمَدُ في الدستور السوري أنه قدم المادة /45/ التي تقول: تكفل الدولة للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الكاملة والفعالة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية». نريد أن يكون الدستور هو الراعي للقانون، أو أن يكون أماً للقانون، ونريد من قانون الأحوال الشخصية أن يكون تحت ظلال الدستور، وأن يتماشى مع الدستور، لأن الدستور استراتيجية، والقانون تكتيك، ونريد من التكتيك أن يماشي الاستراتيجية، وأن لا يختلف عنه، أو يعاكسه، وأن يكون هذا القانون ـــــ الأحوال الشخصية باعتباره مُستمَداً من الشريعة الإسلامية ـــــ مماشياً للدستور، وفي ظلال الملامح الدستورية العامة في ما يخص المرأة.
أخيراً: وبعد دراسة مستفيضة وجدت أن ملامح الدستور الإسلامي للأسرة عموماً، وللمرأة خصوصاً، هي ما يأتي:
ـــــ الرجل والمرأة من أصل واحد ولا خلاف. ـــــ المرأة شخصية مستقلة فلا اندراج ولا اندماج. ـــــ المرأة تشارك وتساهم في الحياة الاجتماعية. ـــــ المرأة تشارك في الحياة السياسية. ـــــ المرأة ذات أهليّة كاملة ولا خلاف، و«إنما النساء شقائق الرجال».
في ظل صمت المعارضة المزمن إزاء القانون، بادر بعض النظام السوري إلى رعاية السجال، هذا ما نتلمسه من خلال أول مقال سطرته صحيفة «الثورة» الحكومية بتاريخ 12/6/2009 من خلال مقال بعنوان «حول مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد»، أتى فيه:«المشروع مليء بالمواد التي تكرس مفاهيم وأوضاع أنفقت الحكومة الكثير على تغييرها للنهوض بواقع المرأة والأسرة». وكان ذلك إشارة إلى تناوله ضمن الإعلام الرسمي وغير الرسمي داخل سوريا، بمباركة سياسية رسمية على ما يبدو، فلم يلبث الأمر طويلاً حتى خصصت ندوات لمناقشته عبر محطة فضائية «المشرق» المستقلة بتاريخ 16/6/2009، وكذلك فعلت إذاعة «سوريا الغد» في التاريخ ذاته؛ إلى أن وصلت الحملة ضده إلى الفضائية السورية وهي رسمية، لكنها (أي الحملة)، حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر ـــــ بحسب حدود معرفتنا ـــــ لم تصل إلى موقع «النداء» أو «الرأي» المعارضين.
فقطعاً لم تكن تحتاج سوريا إلى قانون كهذا، يشرّع زواج الطفلات (يكنّيها البعض تهكّماً: اغتصاب الطفلات) ويسلّع المرأة ويفرّق بين مكوّنات الشعب السوري، قدر ما هي بحاجة إلى قانون أحوال شخصية مدني. فبحسب زعمنا أن المخرج المناسب لسوريا، بغية الخروج من قوقعات الطوائف والمذاهب واختلاف الأديان وتعددها فيها، وصولاً إلى المواطنة الحقة، هو ذلك القانون الذي يقف على مسافة واحدة من جميع السوريين. ناهيك عن أن قانون الزواج المدني لا سواه هو المدخل الأول لاحترام الإنسان ككائن قائم بذاته، ولحريته الشخصية. ولا نعتقد أن قانوناً كهذا يتناقض مع حالات التديّن لدى الناس من أي دين أو مذهب كانوا، إذ بمقدور العازمين على الزواج حال كانوا متدينين الذهاب إلى الكنيسة أو إلى الشيخ بغية نيل بركته، قبل الزواج مدنياً أو بعده.
* كاتب سوري