مشروع أسلمة سوريا
سليمان يوسف يوسف
لا جدال على أن من حق كل حكومة، وكل سلطة تشريعية،أن تعيد النظر بالقوانين والتشريعات المعمول بها،لتعديلها أو تبديلها بقوانين أكثر تطوراً وملائمة لروح العصر.في سوريا، التي كان عدد سكانها في خمسينات القرن الماضي اقل من ثلاثة ملايين تجاوز اليوم العشرين مليون،شهدت تحولات(فكرية واجتماعية وثقافية واقتصادية) هامة، باتت تتطلب سن قوانين وطنية جديدة متطورة تواكب هذه التحولات وتتوافق مع درجة الرقي الحضاري التي وصل اليها الشعب السوري. لكن للأسف، وخلافاً لمنطق العصر والحداثة،أن مشروع القانون الجديد للأحوال الشخصية الذي أنجزته مؤخراً اللجنة المشكلة بقرار رئيس مجلس الوزراء،جاء بصيغة أكثر سوءاً وتخلفاً من القوانين المعمول بها،رغم حساسيته العالية، اجتماعياً ودينياً.الأمر الذي ترك الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام. كما أثار سجالاً حامياً لدى مختلف الأوساط،الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية، السورية.فحيال انتشار مظاهر التدين الاسلامي المصاحب لتنامي “الأصولية الاسلامية” فكراً وثقافة في المجتمع السوري، كان من المفترض بالحكومة السورية وضع برامج ثقافية وطنية وسن قوانين من شانها تحصين المجتمع في وجه مخاطر مد الأصولية الاسلامية،وتعزز الجوانب العلمانية ومن دور العناصر المدنية في الدولة”النصف اسلامية – النصف علمانية”،التي اقامها حزب البعث العربي الاشتراكي “النصف علماني”.
مع اقرارنا بوجود بعض الصعوبات والمعوقات الدينية والاجتماعية والثقافية.لكن ليس صعباً،على “نظام شمولي” يهيمن عليه حزب- البعث- ينفرد بالحكم ويتحكم بكل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في البلاد،وضع قانون وطني متطور وديمقراطي للأحوال الشخصية والمدنية، يقوم على أساس مدني لا ديني، يجيز الزواج المختلط بين السوريين، تحترم فيه شرعة حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية التي وقعت عليها الدولة السورية.لأن القوانين المدنية وحدها كفيلة باختراق الحواجز الطائفية والمذهبية والقبلية القائمة في المجتمع السوري وتحقيق الاندماج الوطني المنشود بين الأقوام السورية. طبعاً، مع ترك خيار الزواج الكنسي أو الديني( وفقاً لتشريعات كل دين وطائفة ومذهب)، قائماً لمن يرغب به من السوريين.
لكن يبدو أن الحكومة السورية، فضلت العزف على وتر” الأصولية الاسلامية”في هذه المرحلة التاريخية الحساسة.وسارعت الى وضع مشروع “قانون اسلامي” بامتياز للأحول الشخصية،تضيق به ومن خلاله التيار التنويري وتحاصر الأفكار الليبرالية والعلمانية،وتقوض الحياة المدنية في سوريا. يذكر أن اللجنة التي أنجزت مشروع القانون بهذه الصيغة الطائفية المقيتة – بحسب نشرة كلنا شركاء السورية- كانت برئاسة وزير العدل السابق وجميع أعضائها هم قضاة شرعيون وأكاديميون مختصون في الشريعة الاسلامية.لهذا،فاللجنة المكلفة،هي لم تأت من بطون التاريخ ومن العصور الوسطى، كما ذهب البعض في هجومه عليها وفي نقده لمسودة القانون الذي وضعته،وانما هي تشكلت بموجب قرار حكومة سورية قائمة,وغالباً بعد استشارات سياسية.فاللجنة واعية ومدركة تماماً لأبعاد كل كلمة وفقرة وردت في مشروع القانون المنجز.من هذا المنظور،أختلف كلياً مع كل من تسلح، في نقده لمشروع القانون، ببعض المواد والفقرات الخجولة من الدستور السوري والمتعلقة بالحقوق والحريات والمساواة.لأن، حقيقة مشروع القانون لم يخرج عن روحية”الدستور”السوري الذي ينص، في(المادة الثالثة- فقرة 2)منه،على أن “الفقه الاسلامي مصدر اساسي للتشريع”.
بغض النظر عن أهداف الحكومة السورية،أرى أن الصيغة التي خرج بها مشروع القانون تصب في صالح “الاسلام التقليدي”،الذي يشكل الحاضنة الاجتماعية والثقافية ل”الأصولية الاسلامية” ومشروعها الظلامي التكفيري،أكثر مما هو في صالح مشروع تحديث سوريا وتطويرها.وسيبقى أي قانون جديد أو مشروع تحديثي في سوريا أسير “العقدة الدينية”،خاصة المادة الثالثة من الدستور.لأن تمسك حزب البعث الحاكم(قائد الدولة والمجتمع) بهذه “القاعدة الاسلامية” يمنح الاسلام التقليدي ومن خلفه الأصولية الاسلامية والمجموعات التكفيرية حق “الفيتو”للاعتراض وتعطيل أي قانون أو تشريع من شأنه انهاء التميز الديني بين السوريين ومساواة المرأة مع الرجل في الحقوق والواجبات،بذريعة أن هذه الحقوق تتعارض مع أحكام الشريعة الاسلامية.حتى أن،بصمات الأصولية الاسلامية تبدو بارزة في معظم مواد ونصوص مشروع القانون الجديد.حيث وردت فيه أكثر من مرة كلمة “الذمي” للاشارة الى أهل الكتاب، من مسيحيين ويهود،بعد أن ألغي هذا التعبير المستهجن من الخطاب التشريعي السوري واختفاءه من ثقافة السوريين مع انتهاء الاحتلال العثماني لسوريا في عشرينات القرن الماضي.والأخطر في مشروع القانون،انحيازه بشكل كامل وفاضح الى جانب الطرف المسلم في آثار الزواج المختلط بين الأديان، وفي حرية اختيار الشريك من غير دين،كذلك في قضية التحول من دين لآخر وفي مسائل حضانة الأطفال.فهو يبطل “زواج المسلمة بغير المسلم”كذلك باطل “زواج المرتد عن الإسلام أو المرتدة ولو كان الطرف الآخر غير مسلم”. ووصف “كل مسلم أو مسلمة يغير دينه بالمرتد”.هذه تهمة خطيرة عقوبتها القتل وفق أحكام الفقه الاسلامي.هكذا،سيغلق الباب مجدداً في سوريا أمام أي سوري مسلم يريد أن يغير دينه ويعتنق المسيحية أو أي دين آخر غير الاسلام،ولأي سبب كان،بينما سيترك الباب مفتوحاً،مرحباً بكل مسيحي وسوري يريد ترك دينه واعتناق الاسلام.
أكثر ما يقلق المسيحيين السوريين،خاصة أتباع الكنائس الغير عربية( السريانية، الآشورية، الكلدانية)الخائفة على خصوصيتها القومية والثقافية الى جانب هويتها الدينية، هو رفع يد “المؤسسة الكنسية” من الإشراف على عقد الزواج بين مسيحي ومسيحية.فوفق مشروع القانون، ستكون اجراءات عقد الزواج من اختصاص موظف يعينه وزير العدل. المادة 627 ” لا يتم انعقاد الزواج إلا بوثيقة رسمية صادرة عن موثق يعينه وزير العدل…”. كما أن مشروع القانون اخترق بعض المحرمات المسيحية،حين أجاز للمسيحي الزواج بزوجة ثانية وفق المادة 639:” يجوز لكل من الزوجين أن يطلب التطليق بسبب زنى الزوج الأخر، أو زواجه الثاني”. القلق المسيحي، دفع برؤساء الطوائف المسيحية،الى ارسال وفداً التقى وزير العدل،نقل له اعتراضها الشديد على أي تدخل في التشريع الكنسي من شأنه المس بالعقيدة المسيحية. ونقل عن الوفد أنه،تمنى لو أن مشروع القانون قام على أساس مدني لا ديني يساوي في الحقوق والواجبات بين المواطنين السوريين رجالاً ونساء بغض النظر عن انتماءاتهم.و بحسب بعض المصادر،أن رؤساء الطوائف المسيحية أرسلت كتاباً خطياً الى السيد رئيس الجمهورية(بشار الأسد) شرحت فيه موقفها من مشروع القانون،راجية من سيادته التدخل لاعادة النظر فيه، خاصة فيما يتعلق بالأحكام الخاصة بالمسيحيين.
ليس من المبالغة القول،أن اقرار الحكومة السورية،اليوم أو غداً، لأي قانون للأحوال الشخصية، يحط وينال من مكانة المرأة السورية ويقلل من شأنها ودورها في الحياة والمجتمع،وينتقص من حقوق المواطنة للسوريين الغير مسلمين ويلحق بهم غبناً اجتماعياً ودينياً،سيشكل، أولاً:انتكاسة كبيرة لمرتكزات وثوابت العيش المشترك بين مختلف أطياف المجتمع السوري.ثانياً: تراجع كبير لقيم ومفاهيم التسامح الديني الذي عرفت به سوريا منذ أن تشكلت كدولة حديثة في العشرينات من القرن الماضي.ثالثاُ: يقوض من فرص بناء “دولة مدنية” و”دولة مواطنة” حقيقة في سوريا.
رغم هذه المخاطر التي ينطوي عليها مشروع القانون المنجز للأحوال الشخصية وآثاره الهدامة على عملية الاندماج الوطني والتماسك المجتمعي في البلاد وعلى مستقبل الأجيال السورية القادمة،يبدو أن الحكومة السورية حسمت أمرها بتمرير مشروع “أسلمة سوريا”،مع بعض التعديلات الشكلية،مستفيدة من صمت المرجعيات الاسلامية، وسكوت الأحزاب السورية، تلك الموجودة في السلطة والمعارضة معاً.
وما يرجح هذا الخيار،هو تلاقي وتقاطع، في هكذا قانون اسلامي، مصالح الحكومة والبعث مع مصالح “الاسلام التقليدي الوسطي أو الاعتدالي”، وهو التيار الغالب في سوريا، في محاصرة التيارات الليبرالية والعلمانية التي برزت على الساحة السورية في السنوات الأخيرة والتي تدعوا الى اقامة “دولة ديمقراطية مدنية” على أساس حقوق “المواطنة الكاملة”، بديلاً عن الدولة “الآيديولوجية- العقائدية” أو “النصف اسلامية” التي اقامها البعث في سوريا.
آشوري سوري مهتم بقضايا الأقليات
ايلاف