صفحات سورية

اقتصاد السوق الاجتماعي

null
الياس نجمة
اتخذ المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي في حزيران 2005 قرارا تاريخيا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، يقضي بتبني نظام اقتصاد السوق الاجتماعي. وقد أثار هذا القرار منذ صدوره وحتى الآن، الكثير من التساؤلات، كما خضع للكثير من التفسيرات المتفاوتة، التي تأثر أغلبها بصيغ عقائدية تقليدية او برؤى فكرية جديدة ذات طبيعة ليبرالية مبسّطة، حتى جاءت الندوة الأخيرة، التي عقدتها القيادة القطرية في 25 و26 نيسان الماضي فحاولت في مقاربة علمية وسياسية جريئة وصريحة، تجاوز هذين النمطين من التفكير، وذلك بطرح أفكار مؤسسة هامة في هذا الشأن، ليس من خلال الورقة التي قدمت فحسب، وإنما أيضا من خلال المداخلات التي تميز بعضها بمستوى علمي ووعي سياسي جدي وناضج، حيث بيّنت ان المسألة ليست مسألة رؤى وخيارات اقتصادية بحتة، بل تتصل وتتعامل مع كافة جوانب وأجزاء النظام السياسي والاجتماعي القائم، والقوى المحركة للنمو والتغيير، وخصوصا مع ما أعلنته القيادة من توجهات، تسعى إلى نزع القيود التي تمنع الشعب من الانتاج والابداع، وإلى إشراك الشعب كله أفرادا وجماعات في عملية النمو والتحديث والتطوير والتقدم.
إذا عدنا إلى الوراء قليلا وعاينا السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اعتمدت في أوروبا الغربية والشمالية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وخصوصا في ألمانيا الغربية آنذاك، والعديد من الدول الأوروبية الأخرى التي أخذت بأنماط اقتصادية واجتماعية مشابهة، لوجدنا ان تسمية اقتصاد السوق الاجتماعي لم تكن غريبة عما قام في هذه الدول من أنظمة اقتصادية اجتماعية، وأن هذه التسمية لم تكن وليدة فلسفة اقتصادية جديدة بقدر ما كانت نتيجة للتطور الموضوعي لمعطيات العصر، ونتيجة تسوية تاريخية ـ كما أطلق عليها آنذاك ـ قامت بين أهل اليمين وأهل اليسار في بلدان أوروبا الغربية، بين أنصار ومؤيدي مذاهب الحرية الاقتصادية من جهة ودعاة المذاهب والسياسات الاشتراكية من جهة أخرى، وذلك بعد ان اشتد الصراع الداخلي حول هذه القضايا، والذي كان ينذر باضطرابات كبيرة زاد من خطورتها تزامنها وتصاحبها مع اشتداد الصراع الدولي الذي كان قائما بين الاتحاد السوفياتي وما يمثله من عقائد وسياسات، والولايات المتحدة الاميركية وما لها من مصالح وتطلعات.
في الوقت نفسه تكون الدولة مظلة حامية لحقوق المجتمع عبر صيانة الحريات الجماعية، وإقامة توازن وعدالة في التوزيع بين حقوق أصحاب قوة العمل المتمثلة بالأجور، وحقوق أصحاب رأس المال المتمثلة بالأرباح والريوع، وعبر توفير ضمانات حقوقية واقتصادية واجتماعية للطبقات والفئات الضعيفة في المجتمع، وخصوصا التي تعمل بأجر. وذلك عبر تشريعات تؤطر وتنظم شروط العمل، كما توفر الحماية لحقوق العمال، الفردية والجماعية عبر عقود العمل الجماعي وإقامة التنظيمات النقابية بالإضافة الى السياسات الاجتماعية العامة التي تسعى لتغطية الحاجات المعيشية الأساسية المادية والمعنوية لكافة المواطنين بصورة مجانية او شبه مجانية في الصحة والتعليم، بالإضافة لشبكات الضمان الاجتماعي التي تمول من خلال اشتراك المستفيدين ومساهمات أرباب العمل والدولة التي تغطي مساهماتها من خلال اقتطاعات ضريبية كبيرة، تفرض على أصحاب الثروات والدخول الكبيرة، ولكن دائما بشكل عادل ووفقا لمقدرتهم التكليفية.
[[[
وهكذا ظهر مفهوم الاقتصاد العام الذي يسعى لإشباع الحاجات دون ان يخضع بالضرورة للمنطق المحاسبي في الربح والخسارة، بل لقواعد وفلسفة النفقة العامة، التي تسعى لخلق المنافع العامة وتهدف الى صيانة المصالح العليا الآنية والمستقبلية للدولة والمجتمع، لأنه إذا كان هدف النشاط الاقتصادي الخاص هو تحقيق الربح وهذا أمر مشروع، فإن الهدف الأساسي للاقتصاد العام هو إشباع الحاجات من خلال آليات اقتصاد السوق إذا أمكن، او خارج آليات اقتصاد السوق… لأنه إذا كان من الخطأ ان لا نعترف بآليات السوق خصوصا في تحديد الأسعار، فانه من الخطأ الفادح إخضاع كل شيء لآليات السوق وخصوصا عندما يتعلق الأمر بحياة الشعب ومستقبل الأمة.
ينتج مما سبق أنه إذا كان نظام اقتصاد السوق الاجتماعي يعطي دورا هاما وأساسيا للقطاع الخاص فهو يعطي دورا مماثلا للقطاع العام، خصوصا ان القطاع العام لا يؤثر في السياسة الاقتصادية للدولة فقط، بل يشارك في صنع نظامها الاقتصادي والاجتماعي، سواء بما يتصل بتقسيم العمل او بما يتعلق بتوزيع الدخل والثروة. بالاضافة إلى ذلك فقد أثبت الواقع العملي ان القطاع العام وفي كل العالم يستجيب بشكل أفضل وبكفاءة وشمولية أكبر للاستثمارات المتصلة بالبنية التحتية، والاستثمارات التي لا يقدر او لا يرغب بها القطاع الخاص «إما بسبب ضخامة الموارد المالية التي تتطلبها او بسبب ضعف ربحيتها»، وللاستثمارات المتجهة لانتاج السلع والخدمات التي لا تقبل التجزئة، وللصناعات الرائدة التي يرتبط بتطورها وتقدمها تطور وتقدم مجموعة من الصناعات الفرعية والجزئية، سواء أكان ذلك في إطار القطاع العام او الخاص. وبصورة عامة كل ما له علاقة بالأمن الوطني والمرافق العامة والتعليم والتدريب والتأهيل والصحة وبناء الإنسان، التي بدورها تساعد على توفير الشروط الضرورية والمحفزة لقيام القطاع الخاص بأنشطته المختلفة.
وإذا عدنا للنشأة التاريخية للقطاع العام لوجدنا أنه لم يقم دائما أو فقط لأسباب ايديولوجية او استجابة لخيارات سياسية، بل قام في أحيان كثيرة لأسباب وضرورات اقتصادية بحته. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية وعندما أصبحت التنمية الاقتصادية الهدف الأعلى الذي تسعى لتحقيقه جميع الحكومات على اختلاف اتجاهاتها العقائدية، ونظرا للضعف التكويني للقطاع الخاص، خصوصا في البلدان النامية، أجمع غالبية اقتصاديي تلك المرحلة «الاشتراكيون والليبراليون على السواء»، على ضرورة قيام الدولة والقطاع العام بالاستثمار في مختلف الأنشطة الاقتصادية وفي كل موقع وقطاع يشكل ضرورة او نقطة ارتكاز لعملية النمو، وهكذا تضافرت الجهود واتحدت الاتجاهات الفكرية للانطلاق في استثمارات شاملة شكّل فيها القطاع العام النواة الصلبة، وأخذ فيها على عاتقه تحقيق مهام تنموية واجتماعية واقتصادية. وقد رأينا في ضوء ذلك كيف ان بلدانا رأسمالية وريعية كالسعودية، وبلدانا أوروبية رأسمالية متطورة، بالاضافة إلى بلدان العالم الثالث أخذت جميعها بهذا الاتجاه بضرورة إقامة قطاع عام فاعل ومتطور.
[[[
إن اقتصاد السوق الاجتماعي فرضية ينطلق منها الاقتصاد المعاصر، وقد جاء ليشكل ضابطا لاقتصاد السوق الحر، الذي إذا ترك لعفويته وللقوى والفئات المسيطرة عليه، والمستفيدة منه، فهو لن يؤدي الى الغزارة في الانتاج وتعميم الرفاه والخير للجميع، بل سيقود إلى التفاوت في الدخول، والاستغلال. لذا فان اقتصاد السوق الاجتماعي ليس خيارا نأخذ به او لا نأخذ، وليس مسألة تكيف اقتصادي فحسب، بل هو خيار اجتماعي وسياسي أيضا، وذلك لتوفير عدالة التوزيع، وتأمين المتطلبات الأساسية للفرد والمجتمع، من غذاء وصحة وتعليم ومرافق عامة متطورة وحديثة بأسعار مدعومة من الدولة، وضمان أمن الحياة الشخصية المادية والمعنوية للمواطن.
والحقيقة إذا استطردنا باستنطاق الواقع، وطرحنا الأسئلة المصيرية والصعبة أحيانا، وتساءلنا ماذا يعني في أي دولة او مجتمع عدم توفير التعليم بكافة مراحله وبكامل مستلزماته، بشكل مجاني لكافة فئات المجتمع؟!
هذا يعني ان لا تضم المدارس والجامعات سوى أبناء الميسورين والأغنياء، ممن تتوافر لديهم القدرة على دفع نفقات التعليم، وإبعاد كافة الأطفال والشباب والشابات، الذين لا يملكون نفقات التعليم مهما كانت مؤهلاتهم واستعداداتهم الفكرية.
ماذا يعني أيضا عدم تحمل الدولة لمسؤولياتها على نطاق واسع في تأمين الطب والعلاج بشكل مجاني أو شبه مجاني لكافة فئات المجتمع؟! هذا يعني بكل بساطة أيضا، انهيار المستوى الطبي العام، وحرمان الفقراء من أي عناية طبية حقيقية.
ان الحصول على الخدمات العامة خصوصا الصحة والتعليم لكافة المواطنين بالصيغ والآليات التي ذكرت آنفا هي أهم ما ينتظر ان يوفره اقتصاد السوق الاجتماعي، وهذه الخدمات هي حق للمواطن وليس مقابل ثمن يدفع وفق قوانين العرض والطلب. فتأمين الخدمات العامة لكافة أفراد المجتمع في مناخات من الحرية والكرامة والمساواة هو أداة لا بد منها، ولا يمكن الاستغناء عنها لبناء شخصية الفرد بناء صحيحا، وتمتين الوحدة الوطنية، والنهوض الاجتماعي الذي لا بد منه لأي سياسة نهوض اقتصادي.
تقاعس او تراجع الدولة عن القيام بمسؤولياتها تجاه هذه القضايا لا يمكن ان يعتبر تحولا باتجاه شعار «دولة أقل» بقدر ما يعبر عن عجزها عن القيام بالواجبات والمهام الأساسية المناطة بها.
في ضوء ذلك فإن تدخل الدولة ودأبها على دفع عجلة النمو والتنمية بأجنحتها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية، وقوفها في وجه الاحتكار والمصالح المنفلته من الاعتبارات الوطنية، لا يندرج إطلاقا في إطار الاجراءات المناهضة للحرية الاقتصادية، بقدر ما هو وسيلة للتحكم بأدوات المستقبل الاقتصادي والاجتماعي، كما أنه إجراء ضروري لإعادة تصويب وتحديد مفهوم العمل، وتوزيع الدخل بشكل أكثر عدالة، وبصورة عامة هو مدخل لإعادة التوازن في المجتمع وبعث ديموقراطية اقتصادية واجتماعية أكثر عمقا وتدفقا وعطاء.
[[[
ان هذه الأمور بالاضافة إلى وجهها الاجتماعي التقدمي تشكل استثمارا يرفع إنتاجية رأس المال البشري، ويساعد على زيادة الانتاجية والانتاج، كما يساعد على المحافظة على القيم الحضارية والأخلاقية للشعب بعد ان أصبح ذلك شرطا مؤسسا لتحقيق التقدم الاقتصادي ذاته.
اقتصاد السوق الاجتماعي حتى ينجح على أرض الواقع ولا يبقى مجرد شعارات وتمنيات أخلاقية ورعة، هو بحاجة إلى تطبيق سياسة إيرادات عامة، فعالة وعادلة ومجزية، لتأمين الموارد المالية اللازمة لتغطية نفقاته، كما هو بحاجة لأن يتحمل القطاع الخاص لمسؤولياته الاجتماعية من خلال مساهماته واشتراكاته، وذلك ليس فقط تجاه العاملين لديه، بل تجاه المجتمع السوري بأكمله، وأعتقد انه مؤهل لذلك اذا أتيحت لرموزه المهنية الوطنية المسؤولة المبادرة في هذا الاتجاه وتعمقت وسادت ثقافة التعاون والثقة بين العام والخاص.
يضاف إلى ذلك مسألة خطيرة لا يمكن تجاوزها رغم أنها تبدو للوهلة الأولى خارج السياق، وهي مسألة الاصلاح الاداري… فماذا ينفع ان نأتي بأفضل الأنظمة والقوانين والقرارات اذا أنيط أمر تطبيقها بإدارات تفتقد الكفاءة او النزاهة؟!
إن معالجة أمر هذه الفئات البيروقراطية المتعايشة والمتعاملة بتوافق مع بعض فئات القطاع الخاص المماثلة لها في القيم والأهداف والأساليب، لم تعد مسألة إدارية خالصة او قضية معزولة في تأثيراتها، بل تمادت لتصبح مسألة مستعصية زاد في تجذرها ما تم ارثه من بعض الأنظمة الادارية الشمولية وما استحدثه الانفلات الاقتصادي الذي رافق الانفتاح. وبدون هذا الاصلاح الاداري لن تنفع كافة التغييرات الجذرية وغير الجذرية التي نقوم بها، في إحداث أي تطور نوعي او حتى كمّي ايجابي وحقيقي، سواء على الصعيد الاقتصادي او الاجتماعي.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى