لماذا إغفال مسؤولية المنظرين والسياسيين؟
علي الشهابي
نشرت «السفير»، في 12 و13 أيار 2009، دراسة للسيد دريد درغام، المدير العام للمصرف التجاري السوري، بعنوان «الاقتصاد العالمي في مرحلة الاكتئاب»، لا غنىً عن العودة إليها ما دام تكثيفها غير ممكن دون الإساءة إليها. ولا شك في أهميتها، على الأقل لكونها تحاول أن تتلمس فضاء «ضرورة عقد اجتماعي جديد» بين البشر. وإن كنت سأناقشها، لأعمّق موضوعها على ما أدّعي، فمن منطلق قول عبد الله العلايلي «من ينقد عليّ، كمن يؤلف معي».
سأبدأ من نقطة الصفر، من البداهة التي يؤكد فيها السيد دريد اعتقاده أن هذه الأزمة هي «الأشنع، وأنها ستستمر سنوات طويلة».
لا شك في أنها ستستمر سنوات. ولكن لماذا تكون شنيعة أصلاً ما دامت، كما يراها، تتضمن إمكانية قيام عقد اجتماعي جديد بين كل أرجاء المعمورة؟ أراها فظيعة كآلام الولادة، لكنها ليست شنيعة. وهذا الفرق ليس اختلافاً في التعبير، بل خلافٌ في صلب أسباب الأزمة الاقتصادية. فهو لم يخرج في رؤيته لأسبابها عمّا درجت عليه كتابات أكاديميي الاقتصاد من شرح لكيفية حدوث أزمة الرهن العقاري والأزمة المالية وكيف أن القطاع المالي ليس منتجاً حتى يحقق ربحاً، هذا الذي يعبّر عنه بالقول إن «سبب الأزمة هو منافسة الاستثمار المالي للاستثمار الحقيقي».
لا أعتقد أن هذه الأزمة تُفسر بلغة الاقتصاد الصرف، بل بترابط مع علم الاجتماع. صحيح أنها حدثت في المراكز الرأسمالية المتطورة، لكنّ أسبابها ليست ناجمة عن خلل تقني في آلية الفعل الاقتصادي داخل المراكز، كالمضاربة المالية والرهن العقاري، أو تلاعباً نقدياً لسرقة أموال الخليج بعد الفورة النفطية؛ ناهيك عن سياسة بوش. فهذه وتلك أشكال لتجلي الأزمة أكثر من كونها سبباً لها، والأدق أنها أسباب لتجلي قانون الصدفة والضرورة في حدوث الأزمة.
في مرحلة الحرب الباردة، كانت سيطرة ـ تبعية هي الناظم للعلاقة بين المراكز والأطراف. أما مع انتهائها، الذي بيّن أن الرأسمالية هي حقيقة الحياة المعاصرة، فانداح التنافس بين المراكز الرأسمالية لأن هذا التنافس ضرورة حيوية لرأس المال ما دام كالنهر، لا يجري إلا من مناطق مرتفعة إلى مناطق منخفضة. فأخذت رؤوس الأموال تتدفق على البلدان القليلة التطور التي تؤمن لها فرصاً مناسبة للاستثمار؛ وكانت الصين أبرزها. لا داعي للتفصيل في ما حصل بها منذ انتهاء الحرب الباردة، لعلم الجميع به، لكنها بعد ست سنوات من قرارها بالتطور رأسمالياً، أي في العام 1998، بلغ حجم مستورداتها وصادراتها حوالى 48% من مجمل الناتج القومي. وبعد سبع سنوات صارت هذه النسبة حوالى 64%، وبديهي أن يسلّس انضمامها لمنظمة التجارة العالمية عام 2001 هذه العملية.
لا شك في أن هذا الناتج على الأقل قد تضاعف خلال هذه السنوات السبع، وبالتالي فإن حجم استيرادها وتصديرها يصير بلغة النسب حوالى 76% من مجمل إنتاج مليار وأربعمئة ألف صيني عام 1998. وإذا افترضنا أن حصة المستوردات من هذه النسبة هي الثلث، تكون النتيجة أنها صدّرت في 2005 نصف إنتاجهم عام 1998، فكيف في السنوات الثلاث التالية؟
إن السلع المصدرة من الصين تذهب إلى الأسواق العالمية، وخصوصاً أسواق المراكز حتى أنّ الصين انتزعت مؤخراً من الولايات المتحدة موقع الشريك التجاري الأول مع اليابان. (الصين وأميركا: الندية المؤجلة، سمير التنير ـ «السفير» 14 أيار 2009). وهذا يعني أن رأس المال المنتج في المراكز ما عاد قادراً على منافسة رأس المال المنتج في الصين؛ لذا كانت الأزمة الاقتصادية محتمة جرّاء الاختلال في ميزان الاستثمار المنتج لرأس المال العالمي بين استثماره في المراكز واستثماره في البلدان الأقل تطوراً.
فمنذ فجر الرأسمالية، ورأس المال العالمي ينتج في المراكز ويسوّق في العالم. وإذا تذكرنا أن عدد سكان الصين يكاد يبلغ ضعف عدد سكان المراكز، تكون النتيجة أن العالم صار يعاني من مشكلة فيض إنتاج في الوقت الذي ما عادت هناك مصلحة لرأس المال المنتج بالاستثمار في المراكز. وعندما لا يستثمر فيها تكربج كل بنيتها الاقتصادية؛ ولهذا حدثت الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى انخفاض النمو وزيادة البطالة. وتكفي ملاحظة هذا الأمر في الولايات المتحدة كعيّنة: من المتوقع أن يكون النمو فيها ناقص 3,3 هذا العام، أما نسبة البطالة فتجاوزت إلى الآن عتبة الـ10%، علماً بأنها كانت مستقرة منذ نهاية الحرب الباردة بحدود 4,5%.
هنا لب المشكلة؛ ولهذا سبق أن قلت «إن عبارتي «أزمة مالية» و«نقص السيولة» ضعيفتان في علم الاقتصاد، ما دامت الأوراق النقدية دون قيمة حقيقية لها، بل تكتسب قيمتها من كونها معادلاً للسلع. فما دامت السلع متوافرة، لا مشكلة قط في الأوراق المالية؛ وإن صدف وقلّت هذه الأوراق، ترتفع قيمتها بحيث تبدو السلع في السوق أرخص. وهذا نادر الحدوث هذه الأيام، فالمشكلة التي بات يعاني منها البشر عكس هذه الآلية، يعانون من التضخم.
لا أزمة مالية من هذا القبيل في الولايات المتحدة أو باقي المراكز، بل فيها إنتاج تفوق كلفته سعره في السوق لدى مقارنته بأسعار المواد المنتجة في الصين. وبالتالي ما عاد لرأس المال مصلحة بالإنتاج في المراكز بدليل أنه ما إن أُعلن عن «الأزمة المالية» حتى سارعت الشركات إلى طلب المساعدات من الدولة لتواصل عملها، أي كي لا تسرّح العمال والموظفين… وبعدما ساعدتها سرحتهم».
السفير