صفحات ثقافية

“هراء” مقبول للنشر!

null
عمار سليمان علي
يقول المثل المعروف: ليس كلّ ما يلمع ذهباً. وعلى نفس المنوال يمكن القول: ليس كل ما ينشر صحيحا. والنشر هنا يشمل كافة أنواع النشر، المطبوع والرقمي والمرئي والمسموع. ومن نافل القول ـ رغم كلّ التنظير عن قدسية الكلمة ـ إنّ جزءاً لا بأس به مما ينشر هنا وهناك ليس سوى “هراء”. ومن الطبيعي أن حجم هذا الجزء “الهراء” يختلف ويتفاوت من منبر لآخر، ولكنه ـ شئنا أم أبينا ـ يظل موجوداً، ونادرة هي المنابر التي لا يستطيع أحد أن يتهمها بنشر الهراء.
وإذا كان الأمر في غالب الأحيان يأخذ شكل اتهامات لا يمكن إثباتها، ويدخل في باب حرية الرأي والتعبير التي تجعل البعض يرى “هراء” الآخرين ولا يرى هراءه هو، فإننا اليوم أمام حكاية واقعية حدثت خلال الشهور الماضية وأثبتت بالوقائع أن ما يسمى “الهراء” يمكن أن يقبل للنشر.
وقد بدأت الحكاية عندما قرر شخص اسمه فيليب ديڤيس أن يختبر مجلات المصدر المفتوح open access التي تنشر الأبحاث مقابل بدل مالي يدفعه المؤلف (على عكس العادة حيث تدفع المجلات للمؤلف)، وذلك لكي يتأكد مما إذا كانت تلك المجلات تستخدم مراجعين ومدققين من الطراز الأول، أم إنها ـ مقابل المال الذي يدفعه المؤلفون ـ ربما تجبر على قبول مخطوطات دون المستوى المطلوب، ولا ترقى كلها إلى مستوى ممتاز.
لهذه الغاية، وبغرض التجريب من جهة والدعابة من جهة أخرى، قام ديڤيس، وهو طالب على أبواب التخرج في كلية كورنيل cornell ، بالاشتراك مع صديق له يعمل في مجلة انكلترا الطبية الجديدة New England Journal of Medicine، باستخدام برنامج كمبيوتري بغية كتابة مقالة مزيفة كلياً (ولو أنها صحيحة قواعدياً)، وفي 29 يناير ( كانون الثاني ) قدماها إلى مجلة The Open Information Science Journal، التي تختصر إلى TOISCIJ .
بعد عدة أشهر، وتحديداً في بداية شهر يونيو (حزيران)، تلقى ديڤيس رسالة تقول حرفياً: ” بعد إجراء مراجعة مدققة، قبلت مقالتك المقدمة للنشر في المجلة “. وتنص الرسالة كذلك على أن المقالة سوف تنشر ماأن يرسل مؤلفاها شيكاً بقيمة ثمانمائة دولار إلى صندوق بريد في الإمارات العربية المتحدة. وقد كان واضحاً من اللغة المتكلفة للرسالة أنها قد كتبت بواسطة برنامج كمبيوتري منخفض الذكاء من الناحية القواعدية.
لا يحتاج المرء إلا لتصفح المخطوطة المعنونة ” نقاط الاتصال المحللة للنصوص في الشبكة العنكبوتية ” لكي يتأكّد من أنها عبارة عن “هراء” محض. فعلى سبيل المثال ورد في الفقرة الثانية من مقدمة المقالة ما يلي:” نحن نصف كشافاً جديداً من أجل التوحيد الشامل لمستعرضات الشبكة العنكبوتية / الويب وترقيم الصور rasterization ، ونسميه TriflingThamyn . لكن هذه الطريقة لقيت عموماً معارضة قاسية. ولسوء الحظ، فإن هذه الطريقة هامة إلى أقصى حد”.
يشار هنا إلى أن كلمة “Trifling ” الواردة ضمن اسم الكشاف تترجم بـ “التافه” أما الاسم ككل فلم نعثر له على ترجمة مناسبة ولعله كلام بدون معنى.
طبعاً تتضمن المقالة المؤلفة من خمس صفحات، كلمات مثل:”بحثنا… استكشف… طريقة للمناهج الواقعية”، وجملاً من نوع:” لقد أنشأنا لوغاريتمات متحولة جديدة لإنجاز هذا الطموح من أجل النماذج غير المستقرة”.
لاحقاً قام ديڤيس بتاريخ 10 يونيو / حزيران، بتقديم وصف لعملية الاحتيال ـ إذا صح التعبير ـ التي نفذها مع شريكه، وذلك على صفحات مدونة Scholarly Kitchen (مطبخ موهوب)، وهي منشورة في موقعSociety for Scholarly Publishing ( مجتمع نشر جدير بالعلماء)، حيث قال بشأن المؤلفين الافتراضيين للمقالة الزائفة ـ ديفيد فيليبس وأندرو كينت – بصيغة لا تخلو من المزاح:”أي تشابه مع أكاديميين حقيقيين أو خياليين، أحياء أو أموات، هو مصادفة محضة”. أما مؤسستهما المفترضة فقد كانت كذلك وهمية، حيث سمياها: مركز أبحاث علم فراسة الدماغ التطبيقي The Center for Research in Applied Phrenology ، أو باختصار أوائل الكلمات CRAP وهذه الأخيرة تعني “هراء أو تغوط”!.
وقد رأى ديڤيس أنه حتى إذا لم يتعرف المراجعون والمدققون في المجلة المعنية على تلك اللفظة المركبة من أوائل الكلمات ، فإن مجرد الإشارة إلى علم فراسة الدماغ يجب أن يثير الشك ويرفع راية حمراء كبيرة، لأن علم فراسة الدماغ ـ بالنتيجة ـ هو علم التكهن والتنبؤ بالصفات الشخصية للفرد على قاعدة إجراء ضربات على الجمجمة، وقد كان في الواقع متداولاً بشكل بارز في الأيام الأولى من القرن الماضي. لكنه صار الآن من التاريخ، وتعرض الأدوات الخاصة به في المتاحف، ويروي لنا ديڤيس كيف أنه رأى أمثلة عن أدوات الدجل والشعوذة الخاصة بذلك “العلم” منذ سنوات عديدة عندما كان يزور متحف الأدوات الطبية المشكوك فيها في مينابوليس، حتى أنه ترك واحدة منها تقيم شخصيته.
في الختام يخبرنا ديڤيس أنه لعدم رغبته في صرف مبلغ لا يستهان به من نقوده على هذه المزحة، فقد سحب المقالة، ولكنه كسب بالطبع زوادة ممتازة لمدونته.
ولاحقاً ذكرت جانيت رالوف في مقالة نشرتها عن الموضوع في موقع أخبار العلم Science News أن رئيس تحرير مجلة TOISCJ ، وهو عالم في جامعة بترسبورغ، كان غاضباً بشدة لدى إعلامه حول موضوع قبول المقالة الخدعة، وهدد بأن يستقيل احتجاجاً على الأمر.
وإذا كنا لا نعلم حتى الآن إن كان نفذ تهديده بالاستقالة أم لا، فإنها مناسبة لطرح سؤال غير بريء عن مسؤولي المنابر الإعلامية العربية، المطبوعة والرقمية والمرئية والمسموعة، الذين ـ رغم كل الهراء الذي يسمحون بنشره ـ لا يفكرون مطلقاً في الاستقالة أو حتى في التهديد بالاستقالة؟
تعليقات حول الموضوع
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى