حول مسألة التوافق بين الديموقراطيين السوريين
موفق نيربية
لا يوجد في سورية خلاف بين المعارضين الديموقراطيين على ما يريدونه لمستقبلهم، ولكن هنالك من يُريد التوافق مسبقاً على «الثوابت» القومية والاجتماعية شرطاً على البرنامج الديموقراطي الذي يوجد إجماع قديم ومتجدّد على أنه وطني أيضاً.
طائفة «الكويكرز» جماعة دينية محافظة كبرى تأسست في القرن السابع عشر في إنكلترا. في اجتماعات هذه الطائفة الخاصة، يُعتمد «التوافق»، ويستمرّ النقاش مفتوحاً ومستمراً حتى يتعب المعارضون وتتحول معارضتهم إلى قبول.
وهذا مثال تعتمده دراسات العلوم السياسية لبيان ماهية التوافق، وليس الانتقاص منه، فالتوافق هو «اتفاق أو انسجام عام»، مطروح في السياق السياسي دائماً، خصوصاً في الأزمنة الانتقالية. لكن أكثر ما يُلاحظ وجوده في حقل الديموقراطية، سواء عند تجسيدها كهدف قي حالة الاستبداد أو التسلّط أو الشمولية وتآكل دعائمها وشرعيّتها، أو حين تسود ويبدأ بناؤها وتحتاج إلى ضوابط تضمن مصالح جميع الشرائح والفئات التي يرغب أضعفها بضمانات لحقوقه.
فالتوافق إذن مسألة تتعلّق غالباً ببرنامج تأسيس الدولة الوطنية الديموقراطية، أو بطريقة إدارة الاختلافات في هذه الدولة بعد ذلك، وهو نادراً ما يرتبط بمسألة أخرى في السياسة أوالعلوم السياسية. تجري مناقشة صياغة الدستور خصوصاً من خلال التوافق، ثم يُراعى في موادّه. وقد جرى التوافق على الدستور الأميركي مثلاً بحيث أصبح تعديله يحتاج إلى موافقة ثلاثة أرباع الولايات. أي أن التوافق قد انتهى إلى نصوص قانونية تحمي الدولة والمجتمع.
هنالك بلدان عربيان يجري الحديث فيهما عن التوافق: في لبنان وفي أوساط المعارضة الديموقراطية السورية، وفي كلٍ من الحالتين يجري الحديث عن التوافق كأنه الإجماع بعينه، أو كأن لدى كلّ طرف حقّ الفيتو على كلّ ما لا يُوافق برنامجه المعلن من حيث العصبية «بأنواعها!»، أو المضمر من حيث الحق بالفوز من دون جهد إيجابي «أعرف قيادياً شيوعياً عجوزاً انزعج حين نقصته خمسة أصوات عن الإجماع في مؤتمر حزبي، ورأى في ذلك احتمال نهايته.. منذ قرون!».
فلنا مع الإجماع ذاكرة وطنية وأممية حسّاسة، منذ كان الإصرار عليه في الأحزاب الدائرة في الفلك السوفييتي. ولنا أيضاً مع حقّ الفيتو مثل ذلك، حيث يوجد من يرى في حزبه أو ذاته عموداً لا يُمكن الاستغناء عنه لأسباب مختلفة يتعلّق بعضها به وبعضها الآخر بمصلحة عامة، فيمارس سياسة الفَرض من خلال ذلك مهدّداً ضمناً أو علناً بالانسحاب، ويُقاوم السياق الديموقراطي بكلّ قواه.
ما حدث في المعارضة السورية أخيراً فيه محاولة للخروج من إسار هذين القيدين كخطوة باتّجاه ممارسة أرقى، جرى الانقلاب عليها من جهة، والاحتفاء بذلك من جهة مقابلة. ورغم التعارض في السياسات ما بين الجهتين، فإنهما يعجزان معاً عن تجاوز عقلية الماضي.
رغم ذلك، لا يوجد في سورية خلاف بين المعارضين الديموقراطيين على ما يريدونه لمستقبلهم، ولكن هنالك من يُريد التوافق مسبقاً على «الثوابت» القومية والاجتماعية شرطاً على البرنامج الديموقراطي الذي يوجد إجماع قديم ومتجدّد على أنه وطني أيضاً، وحين يكون القاسم المشترك من مضامين هذه الثوابت مؤمّناً، ينزاح اشتراط التوافق عندئذٍ إلى مجال توزيع القيادة، والاحتجاج على نتائج الانتخاب الذي يُفتَرض في ما يبدو أن يحقق رغبات من يدعو إلى التوافق من دون بذل جهد، أي من دون الاتّصال مسبقاً بالأحزاب والقوى والكتل والتيارات والأفراد المستقلين، وهو فعل عادي يقوم به الجميع «والأحزاب المنظمة قبل غيرها» لو توافرت الإرادة.
لم يكن نموّ أحزاب سياسية ممتدّة وكبيرة ممكناً في دولة تجمع مواصفات الشمولية من تغييب طويل للسياسة والحريات والاستيعاب في منظمات «شعبية»، وتجربة البلدان الشمولية السابقة تؤكّد ذلك. لو كانت هنالك أحزاب من هذا النوع، لما احتاج الأمر إلى جدل، ولكان كلّ شيء أسهل وأوضح. لذلك، فالممكن في الشروط المعنية خلْق بؤرة معارضة تعرف ماذا تريد، وتتألّف مما بقي من أحزاب قديمة مع ممثلين لتيارات تتبلور وشخصيات عامة ومثقفين. وحين يتحقق هذا فهو شيء كبير وشجاع وخطوة مهمة في طريق طويل يتفق الجميع أيضاً على أنه ينبغي أن يكون سلمياً ومتدرّجاً وآمناً، منعاً لأيّ التباس وفوضى، وإحساساً بالمسؤولية التاريخية، بل حرصاً على الإجماع الوطني وقناعة به.
لكثرة ما أثار مفهوم التوافق من إشكالات وعوائق، اقترح بعض الباحثين استبداله بمفهوم «التراضي» الجديد.
فلماذا الخلاف إذن؟ هنالك في سورية أخطار بنيوية داخلية وخارجية، يشكّل الموقف الموحّد للتيارات السياسية الديموقراطية سدّاً أمامها، تزداد ضرورته مادام خيار السلطة ثابتاً على مواجهة حرية التعبير والاجتماع والمعارضة بالكبت والسجن والحصار، عكس اتّجاه الريح والغيوم والعصر.
نعيد تحديد الإشكالية: لا يُمكن قيام ديموقراطية من دون تربية ديموقراطية، ولا يمكن نضوج التربية الديموقراطية من دون الديموقراطية. لذلك لابدّ من قبول مبدأ «المؤسساتية» أولاً… وهذا حديث آخر!
* كاتب سوري