إعلان دمشق – قصة موت معلن
فائق حويجة
كانت قيمة إعلان دمشق قد أتت من كونه قد جمع للمرة الأولى أطيافاً متباينة، وأحياناً متنافرة يجمعها معارضة الاستبداد، في إطار واحدٍ يعمل من أجل التغيير الديمقراطي، لكن هذه القيمة “التجميعية” كانت مشوبةً بخطر الانفراط نتيجة تنوع هذه الأطياف وتوزعها على مذاهب فكرية وسياسية وقومية مختلفة، لا تتحدد إلا بمعارضتها للنظام السائد، وليس برؤاها المتوافقة للبديل/البدائل، المتوخاة. أي أنه ـ الإعلان ـ تحدد، منذ البدء، بالسلب، لا بالإيجاب.
هذه “النقيصة” لم تقلل إطلاقاً من أهمية الإعلان، كونها ليست نتاج القصور الذاتي لدى الأطراف المكونة ـ حتى وإن وجد ـ بقدر ما هي نتاج القمع المعمم الذي طال البلاد والعباد بمن فيهم أحزاب المعارضة على مدى عقود، الأمر الذي أدى، من جملة أمورٍ أخرى، إلى نزع السياسة من المجتمع، كأحد تمظهرات نزع السياسة من الدولة ككل.
إذا كانت قيمة الإعلان تأتي من تجميعه هذه “الجبهة العريضة” فإن جدارته تكمن في كيفية حفاظه على نفسه كقيمة رمزية دالة على أن ثمة تمثيل ما، وفي الحدود الدنيا، لمجتمع مفتت، مازالت فيه بقية روح و مازال يحافظ عبر هذا التمثيل على ما هو مقدورٌ عليه، بمواجهة سلطة نازعة ومنزوعة السياسة (كما يحب أن يقول الصديق ياسين الحاج صالح).
هذا الفهم لضرورة الإعلان كقيمة رمزية مؤشرة ودالة في المرحلة الراهنة ـ غاب عن الكثير من أطرافه، الذين أرادوه حزباً بديلاً عن أحزابهم، أو مجرَّد معبّرٍ عنها، أو حزباً جديداً بالنسبة للمستقلين المستقيلين من أحزابهم السابقة لأسبابهم الخاصة… .
ولأنهم أرادوه كذلك ـ حزباً ينطق بلسانهم ـ فقد ساهموا بتحطيمه، كلٌّ بقدر استطاعته، بغض النظر عن نواياهم المخلصة والنبيلة… والبعيدة عن الواقع في ذات الوقت…. .
لقد تمنينا نحن ـ عباد الله البسطاء ـ من الإعلان أن يكون إطاراً جامعاً للتعارف والتعلم والوجود.
التعارف: بين قوى وأفراد طموحهم أن يكونوا مواطنين في وطنهم. دون خوفٍ أو حساباتٍ قائمة على أرضية الجهل بالآخر شريكك في الوطن.
وتعلم الحوار القائم على أرضية الاعتراف بموضوعية الاختلاف، واحترام هذا الاختلاف… والإقرار بمشروعيته من زاوية أنه ليس ثمة حقيقة مطلقة، وإن وجدت فليس من حق أحد الادعاء بامتلاكها كاملة… !
والوجود كمؤشر على حال مناقض قائم وإن كان كرمز من جهة، وكنواة من جهة أخرى تعمل على قراءة إمكانات الواقع وتتفاعل معه في محاولةٍ لاستنهاضه، أو في انتظار نهوضه ـوهذا أضعف الإيمان – و دون أوهام إرادوية ترى أن مجرد وجودها ورغباتها يمكنانها من رفع الزير من البير…. !
هذه كانت أمنياتنا – لكنها مع مشروعيتها – اصطدمت مع إرادة الفاعلين في الإعلان الذين عملوا على أن يكون الإعلان منبراً سياسياً أحاديَّ اللون، فكان أن أغرقوا توافقاته “العامة” بمستقلين من لونٍ واحدٍ ـ تقريباً ـ يمكن لهم توجيه دفة الإعلان وفق رؤاهم.
مبدئياً ـ هذا حق ديمقراطي مشروع لكافة الأطراف الممثلة في الإعلان أو المشاركة في المجلس. إذ من حق كل طرف أن يدعو ويحاور ويجيش من أجل إثبات وجهات نظره، ودفع الآخرين لتبنيها والعمل وفق هداها، أكثر من ذلك فإن هنالك وجهة نظر “لينينية” ترى أنه لكي نتحد يجب أن نحدد التخوم بدقة، وأنا شخصياً أعتقد أن هذه المقولة قد تكون صحيحة عند المنعطفات التاريخية الكبرى التي تمتاز بمشاركة الناس الواعية في صناعة الحدث ، أي عند الانتقال من مرحلة إلى أخرى في العمل النضالي التاريخي ـ أما في واقعنا الراهن فإن هذا الأمر مازال بعيداً جداً – إلا عند الواهمين – إضافةً لذلك فإن هذه التخوم يكون مطلوب تحديدها عند الاتحاد… ولا أعتقد أن أحداً يدعو لأكثر من التنسيق ـ في الوقت الراهن.
لكن وبعيداً عن المشروعية، فإن الحصافة وبعد النظر السياسي، كان يتطلب من الجميع، أن يجهدوا أنفسهم ـ ليس في تقريب وجهات النظر بالمعنى التوفيقي للعبارة ـ بل في إطار العمل من اجل الحفاظ على هذا الإعلان من التفتت للأسباب التي أشرت إليها.
كان يتطلب من الجميع الإقرار ـ ولو الضمني ـ بأن تسويد وجهة نظر على أخرى ولو تم ذلك بأكثر الطرق المشروعة من شأنه في ظل ضعف الثقة بين مكونات أساسية في الإعلان، أن يودي بالإعلان إلى الهاوية، خصوصاً إن أخذنا بالاعتبار غياب الإمكانات الواقعية التي تجعل من الفعل الجذري داخل أطر الإعلان، فعلاً صائباً حتى لو أدى ذلك إلى تشظي أطر الإعلان ـ غير مأسوف عليها في هذه الحالة….! ـ طبعاً هذا يكون عندما يكون التغيير المنشود مسألة وقت، أي عندما تكون ( الجماهير الشعبية الحاشدة) لاتفعل شيئاً إلا انتظار انطلاق “الدخان الأبيض” من نوافذ الإعلان كي تتعمشق به طائرة نحو تحقيق الأهداف التاريخية المنشودة… !
أو عندما يكون الخارج ـ الإقليمي قد قرر قلب المائدة على رأس هذا النظام ـ كما توهم الكثيرون بعيد احتلال العراق وإبان ولادة الإعلان خريف 2005 الذي ترافق مع تقرير ميليس الأول بشأن اغتيال رفيق الحريري، وقبيل انشقاق عبد الحليم خدام، للدرجة التي ارتأى فيها البعض أن أيام النظام أضحت “قاب قوسين أو أدنى”… ! إن لم نقل إن النظام أضحى بحكم الـ “كش مات“… !
أرجو أن لا يفهم من كلامي أنني أنطلق من معارضة التعويل على العامل الخارجي في إحداث التغييرات الداخلية في قريتنا الكونية “المعولمة” ولما فيه مصلحة الشعوب…. فهذا نقاشٌ آخر لا أفتحه الآن، لأنني أقصر حديثي على الأطر العامة التي حكمت ـ ومازالت تحكم ـ طريقة تفكير، وسلوك قسم من الفاعلين في الإعلان، والتي حدت بهم من خلال التحضير لمجلس الإعلان الأخير، إلى حشر الإعلان في هذا المأزق… بنوايا طيبة ومخلصة مشفوعة بتاريخ نبيل….
إذاً… إن دفع الإعلان، رغم أنه إعلان سياسي أولاً وأساساً، إلى العمل السياسي الكثيف في ظل غياب المعطيات الداخلية وثبوت خطل التعويل على المعطيات الخارجية قد أثبت أنه عمل غير حصيف، وقد يكون قاتلاً للإعلان في إطار الظروف الموضوعية العامة والظروف الذاتية للأحزاب والقوى السياسية والمستقلين، الذين شاركوا، كلٌّ بنصيبه في “قصة القتل المعلن” هذه…. ! وما المشابهة بين مؤتمر حمص 1953 الذي اجتمعت فيه غالبية القوى السياسية المعارضة لديكتاتورية الشيشكلي ؛ وبين اجتماع المجلس الأخير لإعلان دمشق ؛ إلا مؤشر خطير على إحلال الرغبات مكان الواقع – إن لم أقل – أنه مؤشر على فقدان الحصافة وبعد النظر السياسي ؛ لأن هذا التشابه الشكلي ؛ بعيداً عن أخذ الظروف الموضوعية بعين الاعتبار؛ لا يذكر إلا بالمقولة الجدلية عن التكرار في التاريخ الذي يأتي على صورة مأساة في الأولى ومسخرة في الثانية ……..فقد ساهم مؤتمر حمص 1953 في الإطاحة بديكتاتورية الشيشكلي بينما ساهم المجلس الوطني لإعلان دمشق (أويساهم ) في الإطاحة بإعلان دمشق نفسه……..
في هذا السياق أجد أن الحديث عما سبق انعقاد المجلس الأخير من “تجييشات” بنظر البعض، أو ما رافق انعقاده من تجاوزات، بنظر البعض الآخر… هو حديث ليس نافلاً، لكنه غير مؤثر كيفياً في حدوث الانشراخات… التي ـ برأيي ـ كان لابد لها أن تحدث طالما أننا نضخ كل هذا الكم من “السياسة” في جسم الإعلان، في ظل الانحسار شبه التام للسياسة عن ساحة فعل المجتمع والدولة مع غياب المعطيات الداخلية أو الخارجية الدافعة أو الداعمة، وخصوصاً مع غياب الثقة بين الأطراف…. إلخ… إلخ.
ولذلك فإنني أعتقد ـ شبه جازم ـ أن انعقاد المجلس بهذه الكيفية والمشاركة فيه كان عملاً خاطئاً ـ من زاوية الحرص على وجوده واستمراره ـ وهذا الخطأ يعادل خطأ الانسحاب منه بعد حدوثه، لأن العرج على رجلين لا يعني أننا نمشي بشكل مستقيم كما كان يردد ـ روجيه غارودي.
وإذا كان الأمر كذلك، فما العمل الآن؟!
إن العمل لتجاوز الواقع الذي أعقب انعقاد المجلس يجب أن ينصب في عدة محاور هي:
أولاً: العمل بكافة الوسائل المشروعة من أجل إطلاق سراح معتقلي المجلس الأخير ـ بصفتهم مناضلين وطنيين وديمقراطيين جرمهم الوحيد أنهم جهروا بآرائهم التي يكفلها لهم الدستور والقانون.
ثانياً: العمل على تعزيز الثقة ـ وزرعها ـ بين كافة أطياف العمل الوطني المعارض في سورية وهذا لا يكون إلا بالابتعاد التام عن خطاب التخوين ـ موضوعياً وذاتياً ـ من قبل بعض المحسوبين على المعارضة أو العمل الحقوقي (نضال نعيسة ـ مثلاً) وبالمقابل الابتعاد عن اتهام الآخرين بالعمالة للنظام والأجهزة الأمنية (عبد الرزاق عيد ـ مثلاً) ـ والاقتصار على نقاش الأفكار والآراء بعيداً عن التعصب والادعاء بامتلاك الحقيقة، أي أن نعمل على تكريس “المناقبية في العمل السياسية” كما يدعو ـ منذر خدام ـ في مقالة له بنفس العنوان.
ثالثاً: العمل الجاد على جمع مكونات إعلان دمشق من الأحزاب والقوى الوطنية الديمقراطية ومن المثقفين المستقلين مرة أخرى تحت سقف واحد يعمل على تعزيز قيم الحوار والتفاهم، الذي يساعد على إرساء وبلورة نواة ـ رمز نقيض للواقع السائد.
هذا الخطاب الطوباوي لا يمكن له أن يصبح واقعياً، إلا بخطوات عملية من قبل أمانة المجلس أو رئاسته وفق الأصول التنظيمية الخاصة به، والتي قد تبدأ من تكوين “لجنة حكماء” تعمل على عودة الجميع إلى حظيرة العمل الوطني ـ الديمقراطي المشتركة، بتوافقات عامة ممكنة مشروطة بتنازلات ضرورية من قبل جميع الحريصين على العمل الوطني الديمقراطي العام، ومن جميع الأطراف ـ وصولاً إلى أن تقوم رئاسة المجلس في حال لم تتمكن من ذلك بأخذ المبادرة بحل نفسها، من أجل وضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية والوطنية الديمقراطية ـ وبما يعني ذلك من دعوة الأطراف مجدداً إلى مجلس آخر يقتصر دوره في المرحلة الراهنة على المحافظة على هذا الإطار الجامع كرمز ومنارة على طريق العمل الوطني الديمقراطي : الهادئ ؛ والسلمي ؛ والعلني ؛ ذو النفس الطويل ………
ملاحظة: اقتصر الحديث في هذا المقال على البحث في بعض العوامل الذاتية التي أدت إلى حدوث بعض الانشراخات في جسم إعلان دمشق والتي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الإعلان . وذلك بعيداً عن دراسة التأثيرات التي قد تكون ساهمت أو قللت من هذه الانشراخات (دور السلطة والاعتقالات في تسريع الانشراخات أو توقيفها ـ مثلاً) ـ وبعيداً- أيضاً –عن دراسة التأثيرات الخارجية التي ربما تكون – موضوعياً – قد ساهمت في دفع المجلس باتجاهات قد لاتكون متطابقة ليس مع المناخ الشعبي – الذي ندعي تمثيله فقط – بل ومع المناخ السياسي والفكري العام لدى تيارات أساسية وفاعلة في الإعلان .
خاص – صفحات سورية –