مقتطف من “رسالة في التسامح”: رواية موجزة لمصرع جان كالاس
فولتير
ترجمة : هنرييت عبودي
عن رابطة العقلانيّين العرب بالتّعاون مع دار بترا (دمشق)، صدرت التّرجمة العربيّة لرسالة فولتير “في التّسامح”، وقد نقلتها إلى العربيّة هنرييت عبّودي.
فولتير هو الذي قال : “قد أختلف معك في الرأي ولكني على استعداد لأن أموت دفاعاً عن رأيك”، وهو الذي وقف في وجه “الوحش الضّاري” أي التّعصّب، وقد كتب رسالته هذه سنة 1763، ليدافع عن أسرة “كالاس” البروتستانتيّة إذ تعرّضت إلى الاضطهاد والتّنكيل بسبب انتمائها المذهبيّ.
مؤلّف فريد وهامّ في تاريخ فكر الأنوار، لم يفقد ألقه إلى اليوم، وترجمة بديعة دقيقة، رأينا أن ننشر منها هذا الفصل الأوّل. (الأوان)
إنّ جريمة قتل جان كالاس، التي اُقترِفت بسيف العدالة في مدينة تولوز [1] بتاريخ التاسع من آذار/مارس 1762، هي واحدة من أبرز الوقائع القمينة باسترعاء اهتمام جيلنا وأبناء الأجيال القادمة. فلئن كانت يد النسيان تطوي بسرعة صفحة الآلاف المؤلَّفة من الضحايا الذين يقضون نحبهم في ساحات الوغى، فما ذلك فقط لأنّ تلك هي ضريبة الحرب المحتومة، بل أيضاً لأنّ أولئك الذين يلقون حتفهم بسلاح العدوّ كان يمكنهم بدورهم أن يُنزِلوا المصير نفسه بهذا العدوّ، فضلاً عن أنّهم لم يسقطوا وهم عُزَّل من وسائل الدفاع عن النفس. فحيثما تتعادل كفّتا الخطر والغلبة، تنعدم أسباب التساؤل والاستغراب، وتفتر أيضاً مشاعر التعاطف والشفقة. ولكن عندما يذهب ربّ أسرة بريء ضحية الخطأ، أو الانفعال الأهوج، أو التعصّب، وعندما لا يكون بين يدي المتّهَم من سلاح للدفاع عن نفسه سوى فضيلته، وعندما لا يجازف المتحكّمون بمصيره إلا بالوقوع في الخطأ إذا ما قرّروا نحره، وعندما يباح لهم أن يقتلوا، بلا عقاب، بمجرّد إصدارهم حكماً، عندئذ ترتفع الصرخة العامّة، ويعصف بكلّ فرد الخوف على نفسه، ويدرك الجميع أنّ حياتهم ما عادت مضمونة الأمان في مواجهة محكمة يُفترض فيها ألاّ تكون نُصّبت، أصلاً، إلا للسهر على حياة المواطنين؛ وعندئذ أيضاً تتضافر كلّ الأصوات على المطالبة بالثأر والانتقام.
إنّ هذه القضية الغريبة هي في آن معاً قضيّة دين، وانتحار، وقتل أب. وبيت القصيد فيها معرفة ما إذا كان أب وأمّ قد عمدا إلى خنق ابنهما إرضاء لله، وما إذا كان أخ قد خنق أخاه، أو صديق قد خنق صديقه، وما إذا كان القضاة يستأهلون اللوم والإدانة لأنهم أمروا بتعذيب أب بريء على الدولاب حتى الموت، أو على العكس لأنهم وفّروا حياة أم وأخ وصديق مذنبين. كان جان كالاس، البالغ من العمر ثمانية وستين عاماً، يمارس مهنة التجارة في مدينة تولوز منذ نحو أربعين سنة ونيّف. وقد أجمع كلّ الذين عاشوا معه على القول إنّه كان أباً صالحاً. كان بروتستانتياً، على غرار زوجته وأبنائه جميعاً، باستثناء واحد منهم جحد الهرطقة وارتّد عنها إلى الكاثوليكية؛ وبقي الأب، مع ذلك، يُجري له نفقة متواضعة. كان الرجل بعيداً كلّ البعد، على ما يبدو، عن ذلك التعصّب الغبيّ الذي من شأنه أن يمّزق أواصر المجتمع كافّة، فلم يعارض ارتداد ابنه عن البروتستانتية، واستقبل تحت سقف بيته، على مدى ثلاثين سنة، خادمة كاثوليكية ورعة تولّت تربية أولاده جميعاً.
كان أحد أبناء جان كالاس، ويدعى مارك – أنطوان، مولعاً بالأدب. وكان يُعرف عنه أنّه شابّ مضطرب الذهن، ميّال إلى الاكتئاب، وحادّ الطباع. ولمّا لم يفلح في ممارسة التجارة، التي لم يكن مؤهّلاً لها، ولا في الانضمام إلى سلك المحامين، لعجزه عن الحصول على شهادات تثبت كاثوليكيته، ارتأى أن يضع حدّاً لحياته، وأشعر أحد أصدقائه بما عقد عليه النيّة. وتثبيتاً لقراره طالع كلّ ما جاء في الكتب عن الانتحار.
واتفق ذات يوم أن خسر الشابّ كل ما بين يديه من مال في القمار، فاختار ذلك اليوم عينه لينفّذ ما عقد عليه العزم. وفي أثناء ذلك كان صديق له ولأسرته يدعى لافيس(LAVAISSE)، وهو شابّ في التاسعة عشرة من العمر ومعروف بطيبته ودماثة أخلاقه، وابن محام شهير في تولوز، قد قدِم من مدينة بوردو [2] عشية ذلك اليوم. وشاءت الصدفة أن يتناول طعام العشاء على مائدة أسرة كالاس؛ فأكل بصحبة الأب، والأم، ومارك – أنطوان، بِكر أبنائهما، وبيير، ثاني أبنائهما. بعد العشاء، انتقل الجميع إلى غرفة الجلوس، عدا مارك – أنطوان الذي توارى عن الأنظار. وحين استأذن الفتى لافيس بالانصراف رافقه بيير كالاس على الدرج، وفوجئا معاً، عندما نزلا، بمرأى مارك – أنطوان مشنوقاً على بابٍ بجوار مخزن أبيه. كان بقميصه الداخليّ، وكانت سترته مطويّة على طاولة المتجر، وما كان قميصه ينمّ عن تعرّضه لأيّ شدّ أو عراك، وكان شعره مسرَّحاً أتمّ التسريح، وما كان جسده يحمل أيّ أثر من جرح أو كدمة [3]. لن نطيل هنا في تفصيل دقائق تولّى المحامون عرضها؛ ولن نصف الألم واليأس اللذين انتابا الأب والأم: فأصداء بكائهما ونحيبهما سُمعت من قبل الجيران.
هرع لافيس وبيير كالاس للحال في طلب أطباء ورجال العدل. وفيما كانا ينهضان بهذا الواجب، وهما في حالة اضطراب لا توصف، وفيما كان الأب والأم يشهقان ويذرفان الدمع، احتشد أهل تولوز حول الدار. ومعلوم أنّ التولوزيين شعب متطيِّر وسريع الغضب؛ وهو ينظر إلى إخوانه الذين ليسوا من دينه وكأنهم مسوخ ومخلوقات شاذّة. ففي تولوز، على وجه التحديد، وفي احتفالات رسمية، رُفعت صلوات الشكر لله لدى ذيوع نبأ وفاة الملك هنري الثالث [4]. وفي تولوز حُلِفت أغلظ الأيمان بذبح كلّ من يُفصح عن رغبته في الاعتراف بالملك العظيم والطيب هنري الرابع [5]. وتحتفل هذه المدينة كلّ عام، في موكب مهيب تتخلّله الألعاب النارية، بذكرى مجزرة اقترفها سكانها قبل قرنين من الزمن وذهب ضحيتها أربعة آلاف مواطن هرطوقي. وبالرغم من صدور ستّة قرارات عن مجلس المدينة بحظر هذا العيد البشع، فإنّ أهلها لا يزالون يحتفلون به، على غرار مهرجانات الزهور.
ارتفع صوت أحد المتعصّبين من الرعاع يعلن أنّ جان كالاس قد أقدم على شنق ابنه مارك – أنطوان. وتعالت الأصوات تردّد هذا الاتّهام، فانعقد الإجماع عليه في مثل لمح البصر. وزاد آخرون أنّ الميت كان سيرتدّ عن البروتستانتية غداة ذلك اليوم، وأنّ أسرته ولافيس الشابّ قد خنقاه كراهية بالدين الكاثوليكيّ. وفي الحال أيضاً تحوّل هذا الادّعاء إلى حقيقة راسخة. وباتت المدينة برمّتها على اقتناع تامّ بأنّ من تعاليم الدين البروتستانتي حضّ الآباء والأمهات على قتل أبنائهم حالما يفصحون عن رغبتهم في اعتناق الكاثوليكية.
عندما تنفعل العقول تجمح وتجنح. هكذا زُعم أنّ بروتستانتيي مقاطعة اللانغدوك([6]) كانوا عقدوا اجتماعاً موسَّعاً عشية ذلك اليوم، وأنهم اختاروا، بغالبية الأصوات، جلاّد الطائفة، وأنّ الخيار قد وقع على لافيس الشاب، وأنّ هذا الأخير قَدِم من بوردو، بعد أن تلقّى خبر انتخابه، في غضون أربع وعشرين ساعة، ليساعد جان كالاس وزوجته وابنهما بيير على شنق صديق وابن وأخ.
بُلّغت هذه الشائعات إلى قاضي مدينة تولوز، السيد دافيد، فدبّت فيه الحميّة؛ ورغبة منه في الإعلاء من مكانته بسرعة تحرّكه، اعتمد إجراءات مخالفة للأصول وللقوانين، فزّج في السجن بجميع أفراد أسرة كالاس، والخادمة الكاثوليكية، ولافيس الشاب. بعد ذلك جرى تعميم استدعاءات، لا تقلّ مخالفة للقوانين المعمول بها، لإجبار الشهود المفترَضين على الإدلاء بشهاداتهم. أكثر من ذلك: فقد جرى دفن مارك – أنطوان، خلال حفل مهيب، في كنيسة القديس إصطفان، رغم معارضة راعي هذه الكنيسة واحتجاجه على هذا الانتهاك لقدسية المكان. فالشابّ مات وهو على المذهب الكالفيني؛ وإن صحّ فوق ذلك أنه وضع بنفسه حدّاً لأيامه، فقد كان يجب أن توضع جثته على حصيرة وأن تُجرجَر في الشوارع.
ثمّة أخويات أربع للتوّابين [7] في منطقة اللانغدوك: البيضاء، والزرقاء، والرمادية، والسوداء. ويعتمر أعضاء هذه الأخويات قلنسوات مقنَّعة، لكلّ منها ثُقْبان، ليتمكّنوا من النظر من خلالهما. وقد حاولوا استمالة قائد المنطقة، الدوق فيتز جيمس، وحمْله على الانضمام إلى سلكهم، لكنّه رفض عرضهم. وقد أقام الأخويون البيض جنّازاً احتفالياً لمارك – أنطوان، كما لو أنّه مات شهيداً. والواقع أنه ما من كنيسة احتفلت بذكرى شهيد حقيقيّ بمثل هذا القدر من الحفاوة؛ ولكنها كانت حفاوة رهيبة بملء معنى الكلمة. ففوق منصة مهيبة اعتلاها نعش، رُفع هيكل عظمي متحرّك يمثّل مارك – أنطوان وقد قبض على سعفة نخيل بيد، وأمسك ريشة بالأخرى، للتوقيع على وثيقة ارتداده عن الهرطقة: للتوقيع على حكم إعدام والده بالأحرى. ولم يبق أمام المسكين، الذي قتل نفسه بنفسه، إلا أن يُطوَّب[8]: فقد غدا الناس يعتبرونه قديساً. راح بعضهم يتضرّع إليه، وبعضهم الآخر يتلو الصلوات على قبره. فريق من الناس يناشده الإتيان بمعجزات، وفريق آخر يروّج أخباراً عنه لمعجزات أتاها. راهب انتزع بعضاً من أسنانه ليحتفظ بها كذخيرة دائمة؛ وسيّدة ورعة، شبه عديمة السمع، ادّعت بأنها سمعت بوضوح رنين أجراس. كاهن مصاب بالنقطة الدماغية شفي بعد أن تناول مقيِّئاً. جميع هذه المعجزات دُوِّنت محاضرها، وبحوزة كاتب هذه الرواية شهادة تفيد بأنّ شاباً من تولوز فقد صوابه بعد أن أمضى بضع ليالٍ يصلّي على ضريح القديس الجديد من دون أن يحصل، في النهاية، على المعجزة التي كان ينشد. كان عدد من القضاة أعضاء في أخوية التوابين البيض؛ وبالتالي فإنّ إعدام جان كالاس كان محتّماً.
وممّا هيّأ الأجواء لإعدامه اقتراب موعد ذلك العيد العجيب الذي يقيمه سكان تولوز كلّ عام احتفالاً بذكرى مجزرة قضى فيها زهاء أربعة آلاف هوغونوتي[9]؛ وقد صادفت، في العام 1762، الذكرى المئوية لهذا العيد. نُصبت في المدينة زينات هذا الاحتفال، فازداد خيال الشعب المحتقن احتداماً وهيَجاناً. وشاع بين الناس علانية أنّ منصّة الإعدام التي “سيدولب”[10] عليها أفراد عائلة كالاس ستكون أجمل زينة هذا العيد؛ وقيل أيضاً إنّ الرعاية الإلهية هي التي جاءت بتلك الضحايا ليصار إلى نحرها في سبيل الدين المقدّس. وقد سمع عشرون شخصاً بأمّهات آذانهم هذا الكلام، بل ما هو أشدّ منه عنفاً بعد. وهذا في أيامنا! وفي زمن حقّقت فيه الفلسفة كلّ ذلك القدر من التقدّم! وفي وقت تَنشر فيه مئة أكاديمية بيانات تدعو إلى تهذيب الأخلاق والتخفيف من قسوة الأعراف! ولكن يبدو أنّ التعصّب، الذي ساءه ما حققه العقل من إنجازات، راح يتخبّط تحت وطأته بمزيد من الغيظ والحنق.
ثلاثة عشر قاضياً راحوا يجتمعون يومياً لإنجاز الدعوى. لم يكن هنالك أيّ دليل ضدّ أسرة كالاس، بل كان مستحيلاً أن يكون هنالك دليل؛ ولكنّ الدّين المتنكَّر له ناب مناب هذا الدليل. وقد أصرّ ستّة من القضاة على الحكم على جان كالاس وابنه ولافيس بالموت على الدولاب، وعلى زوجة جان كالاس بالصعود إلى المحرقة، في حين طالب سبعة قضاة آخرون، أكثر اعتدالاً، بأن يصار على الأقلّ إلى التحقيق في ما جرى. وقد تكرّرت المداولات وطالت، وكان واحد من القضاة على يقين تامّ ببراءة المتهمين وباستحالة الجريمة؛ لذلك دافع عنهم باندفاع، وعارض داعي التشدّد والقسوة بداعي الإنسانية، وغدا هو المحامي العامّ لآل كالاس في بيوت تولوز قاطبة حيث ما فتئت الأصوات ترتفع مطالبة بسفك دماء هؤلاء المنكوبين باسم الدين المطعون. ولكن ثمّة قاض ثانٍ، معروف بتشدّده، راح يتهجّم حيثما تواجد على آل كالاس، متحاملاً عليهم بمثل الحميِّة التي أبداها الأوّل في الدفاع عنهم. وكانت الفضيحة التي أثاراها بموقفيهما من الفداحة بحيث اضطرّا، كلاهما، إلى التنحّي عن منصبيهما وإلى الانزواء في الريف.
ولكن مِن نحس الطالع أنّه، في حين أصرّ القاضي المتعاطف مع أسرة كالاس على تنحّيه، من باب اللباقة وحسن الأخلاق، عاد عنه القاضي الآخر وأدلى بصوته ضدّ مَن لم يعد مؤهَّلاً لمحاكمتهم: صوت تسبّب في صدور الحكم بالإعدام على الدولاب. فمن أصل ثلاثة عشر قاضياً كان ستّة قد صوَّتوا، في البداية، ضدّ هذا الحكم؛ ولكن بعد طول أخذ وردّ، انضمّ واحد من بينهم إلى الفريق المتشدِّد، المطالب بالإعدام.
من المسلّم به أنه عندما يبتّ القضاء في موضوع إعدام أب، عندما يكون بصدد إنزال أفظع أشكال العقوبات بربّ أسرة، فإنّ الحكم الذي يصدر عنه لا بدّ أن يأتي بالإجماع. فالأدلّة على جريمة غير معقولة كهذه لا بدّ أن تكون واضحة وضوحاً بيِّناً للجميع[11]. وفي حالة كهذه، فإنّ أيّ ظلّ من الشكّ قد يحوم يجب أن يكون كافياً ليجعل يد القاضي الذي سيوقّع على الحكم بالموت ترتجف مذعورة. إنّ ضعف بصيرتنا وتقصير قوانيننا أمر نلمسه كلّ يوم؛ غير أنهما يتجلّيان على أسطع نحو عندما تكون غلبة صوت واحد كافية لإعدام مواطن بالدولاب. في أثينا كان الحكم بالإعدام يقتضي غالبية خمسين صوتاً فوق النصف. ماذا نستنتج من ذلك؟ حقيقة نعرفها، ولكن من غير جدوى؛ حقيقة أنّ الإغريق كانوا أعقل منّا، وأكثر إنسانية.
مِن الواضح أنّ جان كالاس، وهو المسنّ الذي تجاوز الثامنة والستين، وشبه العاجز عن التحرّك بسبب خرع ساقيه وتورّمهما، ما كان قادراً على أن يخنق ويشنق بمفرده ابناً في الثامنة والعشرين،
موقع الآوان