نحن واقعون في فجوة العوالم المتفارقة
النفس المبتورة لداريوش شاغان بالعربية
لم تنقطع يوما معضلة علاقة العالم الاسلامي بالغرب من حيث النظرة الملتبسة والمتناقضة في التعاطي مع حضارته وعلومه وتأثيره المباشر وغير المباشر. فمن السعي الى التمثل بهذا الغرب والغوص في فكره والأخذ من تكنولوجياته، الى الخوف المرضي من افكاره والتحصن وراء الاصول، ورفض قيام علاقة تقوم على المواجهة والافادة مما يساعد في تقدم مجتمعاتنا ونبذ ما لا يتوافق مع قيمها وهويتها. هذه العلاقة المتناقضة والمركبة والمعقدة، كانت ولا تزال هاجسا يقرع المجتمعات الاسلامية خصوصاً ومجتمعات العالم الثالث عموماً، وشكلت مدار دراسات وابحاث لم ينقطع سيلها، ولا يتوقع لها التوقف. وقد انخرط الكاتب الايراني داريوش شاغان في هذا السجال من موقعه الايراني بعد سيطرة رجال الدين المسلمين على البلاد عام 1979، ومن موقعه كمفكر مسلم يعيش في الغرب ويتلقى المعاناة مضاعفة، وقد عكس هذه المعاناة في كتابه “النفس المبتورة، هاجس الغرب في مجتمعاتنا”، الصادر لدى “دار الساقي” في بيروت.
يقول شاغان في مطلع كتابه وهذا ما يمكن اعتباره خلاصة مقولاته وأطروحاته المعروضة: “فنحن، اهل اطراف العالم، نعيش في زمن الصراعات بين مختلف قوى المعرفة واتجاهاتها. اننا واقعون في فجوة العوالم المتفارقة التي تتدافع فيشوّه احدها الآخر. فاذا اقبلنا على هذا الازدواج بشكل صريح، ومن دون نفور، امكنه ان يغنينا ويوسع معرفتنا وشبكة احاسيسنا. اما ان نكبت هذا الازدواج القيمي ونطرده من المجال النقدي للمعرفة، فذلك لا يفعل غير اغلاقنا على نفوسنا وحبسنا فيها، وبتر نظرتنا الى العالم الذي يصير واقعه مشوها، وكذلك خيالات الافكار. وبهذا يصبح العالم تماما كما في المرآة المكسورة. ولأن تجربتنا ليست مشكلة الغرب، يغيب تقدير مضمونها الفعلي عنه. فأولئك الذين يدفعون اكلاف هذه التجربة من وعيهم التاعس، اي نحن، هم وحدهم المؤهلون لان يبرزوها ويعملوا على تظهيرها”.
كثيرة هي علامات تمظهر اختلال العلاقة لدى الفرد المسلم في نظرته الى الغرب وكيفية التعاطي معه. لا تقوم علاقة سوية في هذا المجال، بل يبدو التمزق الداخلي الذي يعيشه هذا الفرد، وخصوصا المثقف منه، واحدا من التجليات الرئيسية لهذه العلاقة، ويتجلى في حالات انكسار الوعي الذي يجد نفسه عاجزا عن استيعاب الفكر الغربي وتمثله، فيتحول انكفاء على الذات والتراث والثقافة الموروثة، وتتغلب أسطرة الواقع وتسييد التخيلات النرجسية حوله، ويتم اللجوء الى الغيبيات لتفسير هذا الواقع والاحتماء بها ورميها في وجه الفكر الحضاري الآخر، بما يؤدي الى انفصام يعيشه المسلم بين ثقافة غربية يتلقاها وموروثات وتقاليد وافكار تمسك بتلابيبه، مما تجعله عاجزا عن الافادة من الفكر الحديث، وغير قادر على تطوير ما لديه من افكار ونظريات بما يواكب التطور والتقدم.
لا يزال العالم الاسلامي اسير نظرة خرافية واسطورية ترى ان العلم الالهي السائد منذ قرون قد حقق لمجتمعاته الحصول على المعرفة الكاملة، في العلوم والانسانيات واكتشاف الحقائق وادراك المستقبل. هذا العلم الالهي اغنانا عن علوم الغرب وحضارته، ووضع في يدنا السلاح المناسب لمقارعته. لم يقتصر الامر على رفض الغرب، بل جرت تعبئة شعوب مجتمعاتنا ضده بصفته العدو المركزي لحضارتنا، فبات في نظرنا عنوانا للهمجية والبربرية، وبات الشيطان بعينه. في وقت كان العالم يسير في ركاب الثورة التكنولوجية ويزيل كل ما لا يتوافق مع العلم والعقل، كانت مجتمعاتنا تحفر عميقا وتغوص في هوة سحيقة في ركاب الانعزال والتقوقع على الذات ورفض رؤية التحولات الجارية في العالم.
من علامات المأزق الوجودي الذي يعيشه العالم الاسلامي تجاه الغرب، الخوف من فقدان الهوية. يجري النظر الى الحداثة الغربية باعتبارها مؤامرة ضد الخصوصيات الاسلامية وعاملا في انتزاع الهوية الاسلامية من ابناء هذه المجتمعات. لا تنفصل هذه الهواجس عن العجز عن فهم التحولات الفكرية واحلال العلم والعقل بوصفهما العنصرين الحاسمين في فهم الواقع وتعيين السلوك الانساني. يشكل هاجس فقدان الهوية عنصرا مضافا الى النظرة العدائية تجاه الغرب، ويساعد في تكريس الانعزال عن معطيات الحضارة والتقدم، بل يشجع هذه المجتمعات على الغرور الذي تمتلئ به من جراء اقتناعاتهما بأنها ليست في حاجة الى حضارة الغرب وعلومه، لأن ما تملكه كاف لمعرفة الحقائق وتفسير شؤون الحياة والكون، وادارة السياسة العامة.
من الطبيعي وسط هذا المناخ المغلق، ان تكون معاناة المثقف المسلم في علاقته بالغرب وثقافته، معاناة مضاعفة وتحمل في جوفها الانفصام بمعناه الشمولي. يكمن الانفصام في طبيعة استيعاب المثقف المسلم للفكر الغربي، بما هو استيعاب زائف ومشوّه يخلق وعيا فاسدا ومعاكسا احيانا كثيرة لجوهر ما يقول به هذا الفكر. في هذا المجال يمكن ملاحظة الكثيرين من الذين عاشوا في الغرب وتعرفوا الى ثقافته، لكنهم يعجزون عن الافادة من هذا الفكر لدى مقاربتهم معضلات مجتمعاتهم وتفسير مشكلاتها، مما يجعلهم غير قادرين على ترجمته ونقله الى لغتهم الام. لا تبشر المسارات التي تسلكها المجتمعات الاسلامية في علاقتها مع ثقافتها وتراثها، مقرونةً بالعلاقة بالغرب، بإمكان تجاوز هذه المجتمعات لتخلّفها الحضاري الشامل في وقت قريب. يشكل الانعتاق من عقدة النقص تجاه الغرب شرطا لقراءته قراءة نقدية تصب في تقدم هذه المجتمعات الاسلامية وتدخلها في التاريخ والعصر.
خالد غزال