وقائع مهربة
خيري منصور
ما إن تفتح نافذة تلفزيونية أو صحافية على الشارع العربي، حتى يندلع المارد من قمقمه، لكنه اندلاع محاصر ومحسوب بدقة، وذلك من ناحيتين، الأولى متعلقة بالإعلام المقروء والمرئي وهو يتحرك مربوطاً إلى حبل قد يصل طوله إلى ألف متر، والثانية متعلقة بالرقابة الذاتية لدى العربي الذي عانى لقرون من مختلف أنماط الكبت، فهو أيضاً لا يقول ما يفكر به أو ما يستشعره في أعماقه، إما خشية من التأويل أو لأنه لم يؤهل لمثل هذا البوح الحر.
كلاهما إذن، الإعلام والرأي العام يرتهنان لشروط موضوعية وذاتية، قد تؤدي أخيراً إلى تهريب الوقائع، وتوسيع مساحة المسكوت عنه، لهذا فالإركان إلى ما نسمع ونقرأ قد لا يتجاوز نصف الحقيقة، أما نصفها الآخر فهو في مكان ما مهجور.
بعد حرب حزيران حاول فريق من علماء الاجتماع والباحثين العرب كان في مقدمتهم د. حليم بركات الأكاديمي المعروف والذي يعيش منذ عدة عقود في أمريكا أن يحصل على إجابات دقيقة من النازحين الفلسطينيين وبالتحديد في مخيم زيزياء، لكن الإجابات لم تكن دقيقة لأن العينات التي تم استطلاع آرائها تحفظت على الكثير من الأمور. فنحن نعيش في مجتمعات لعبت تربوياتها التقليدية وأعرافها دوراً في دفعنا إلى إخفاء ما نشعر به، فالفقراء لا يشهرون فقرهم بقدر ما يحاولون التستر عليه من باب التعفف أولاً ولأن منظومة القيم الاجتماعية لا ترحم من يعترف بضعفه وفقره، رغم أن هذا الاعتراف من الفضائل.
وفي هذه الآونة تكاثرت المنابر والأساليب التي تحاول استطلاع آراء الناس حول ما يجري لهم ومن حولهم، وغالباً ما نسمع كلاماً متحمساً، يصدر عن نوايا نظيفة وطيبة لكنه ليس الحقيقة كلها، فالشجون الصغرى كالحاجة وشروط المعيشة، ومحاصيل الشقاء الاجتماعي نادراً ما يكون لها نصيب في البوح ربما لأن السؤال الوطني هو الأكثر إلحاحاً لكنه على أية حال ليس سؤالاً مجرداً أو معزولاً عن جملة من الهواجس والأسئلة ذات الصلة بالحياة اليومية وشظف العيش والمكابدات التي تستغرق معظم طاقات الناس وهم يكدحون في نطاق الضرورة.
لقد فرضت علينا الأعراف الأشد نفوذاً من القوانين والنواميس كلها أن ننشطر إلى كائنين، أحدهما نهاري علني والآخر ليلي سري، الأول يعيش كما لو كان جاهزاً للتصوير في حفلة، والثاني يملأ زفير أساه حجرة نومه ويفيض عنها إلى بقية العائلة.
إنها صورة من تجليات الشيزوفرينيا التي تبدأ سايكولوجية واجتماعية لكنها تنتهي سياسية، ما دام المطلوب من الفرد هو أن يقدم نفسه في صورة نمطية يرضى عنها الجميع، وحين يقال إن فلاناً إنسان جيد وطيب لولا تلك الصفات التي يتسم بها في سلوكه، فإن المقصود بذلك هو استئصال الفروق، وبالتالي التهيئة لنوع من القطعنة والامتثالية، بحيث لا يختلف الناس عن بعضهم إلا سراً وفي ليلهم الخاص، وإن كان هناك من يرى أن من يكظمون الغيظ ويعلكون ألسنتهم من فرط الصمت يعيشون مقاطع ليلية حالكة في عز ظهيرتهم.
إن أضعف الإيمان قدر تعلقه بالحرية هو أن يقول الإنسان ما يفكر به، وألا يسعى إلى تهريب دموعه ثم يزرع على شفتيه ابتسامة صفراء تفتضح أحزانه كلها.
الخليج