صفحات مختارةموفق نيربية

الدينيّ والسياسيّ: تاريخُ الفصل والوصل وتاريخيّته

null
موفّق نيربيّة
لا بدّ أنّ هنالك وجوهًا عديدةً لمسألة الإصلاح الدينيّ، من الناحية التاريخيّة (أو التي أصبحتْ تاريخيّة للأسف)، ومن ناحية الحاجة الراهنة إليها (منذ فترة طويلة). المؤسف أيضًا أنّ إدراكَ ضرورة هذا الإصلاح وحيويّته لمجمل مسألة التقدّم قد تناقص مع الزمن، وازداد ـ من ثمَّ ـ صعوبةً. ولكنّ ذلك يجب ألاّ يكون دافعًا إلى الاستسلام، بل إلى العكس تمامًا.
وإذا كان الحرجُ قد دفع في السابق إلى مراعاة الخواطر والمشاعر، فإنّ الحالة المستعصية الحاليّة للمجتمعات العربيّة تستدعي المزيدَ من الشجاعة، والوضوحِ في الرأي، وتوجيهِ النقد من دون هوادة إلى أولئك “العلماء” الذين أخذتْهم الدنيا والعزّةُ بعيدًا عن واجبهم الرئيس: فهم المسؤلون أولاً وأخيرًا عن هذه الموضوعة، وهم يتحمّلون نصيبَهم المهمّ من مسؤوليّة التأخّر أو الفوات.

لقد كان تداخلُ السياسيّ على الدينيّ هو المعضلةَ والفخَّ دائمًا. وليس ذلك عصيّاً على الفهم: ذلك لأنّ المسألة ابتدأتْ سياسيّة منذ الصدمة الكولونياليّة الأولى، أو قبلها بفعل تفسّخ البنية العثمانيّة وتآكلها؛ وكان مناسبًا أن تواجِهَ عمامةَ “الخليفة” العثمانيّ، وخوذةَ المستعمر الأوروبيّ، عمامةٌ مقابلةٌ. وإذا كان بعضُ النهضويين الكبار، وعلى رأسهم الشيخ محمّد عبده، قد دخلوا هذا الحقلَ عمليّاً، فإنّ الغالبيّة الساحقة بعده، وإلى الآن، قد استسهلت المشروعَ الشاملَ الشموليّ، الذي يُحقّق طموحاتِهم السياسيّةَ، الخاصّةَ والعامّةَ.
في هذه المسألة، علاقةِ السياسيّ بالدينيّ في المجتمع العربيّ ـ الإسلاميّ، يتركّز اهتمامُنا في هذه المقالة.
***
كان رفاعة الطهطاوي رائدًا في الحقل، أرسلتْه السلطةُ السياسيّةُ إمامًا للبعثة العلميّة التي أوفدها محمّد علي إلى فرنسا؛ فهو في الأساس مظهرٌ يتجلّى فيه “تديينُ السياسة” أكثرَ من “تسييس الدين.” بمعنًى آخر: إنه، هو ذاته، الظاهرةُ القديمةُ المستمرّةُ التي تهيمن فيها السلطةُ السياسيّةُ على الدين وتَقْسره على قياس مصلحتها.
رغم ذلك، يبرز الطهطاوي رائدًا لعمليّة النهضة والتحديث، يَعرف جيّدًا ما تقتضيه هذه العمليّة، ويَعرف جيّدًا ماذا يريد. ومن اللافت أنه حين أُوفِد إلى فرنسا اقتنع على الفور بدراسة اللغة الفرنسيّة لمدة خمس سنوات، اطّلع خلالها على كلّ ما يجري في عاصمة الثورة الحديثة آنذاك، وعلى مناحي النهضة العلميّة والصناعيّة، وخصوصًا على التطوّر الاجتماعيّ والسياسيّ وأُسسه. فجَمَعَ ما رآه في كتابه الأكثر أهميّةً: تخليص الإبريز في تلخيص باريز.
وفي لغة الكتاب أيضًا تنعكس أزمةُ اللغة العربيّة في نقص التكيّف مع حاجات العصر والتقدم. وهذا ما دفعه إلى تأسيس معهدٍ للغات فيما بعد (أو “دار الألسن”)، وجعله يشجّع الاهتمامَ بالتأليف والترجمة، وبتطوير الصحافة والصحف، وبإصدار مجلة الوقائع باللغة العربيّة بدلاً من اللغة التركيّة.
إضافةً إلى ذلك، انصبّ جهدُه على تطوير التعليم عمومًا، و”تعليم البنات” خصوصًا، و”هدْم الآراء الفاسدة.” وباختصار، كان يَعْمل عمليّاً من أجل التنوير، منطلقًا من الواقع القائم نفسه. فالعلوم الإنسانيّة الحديثة في قلب حاجات التقدّم، وتكييفُ اللغة العربيّة السائدة آنذاك للمصطلحات المعاصرة (وقد أَصدر معجمًا للمصطلحات العلميّة الحديثة) مسألةٌ ينبغي تجاوزُ عقباتها، الأمرُ الذي لم يتحقّقْ بالمعنى الجوهريّ حتى الآن.
الطهطاوي، إذنْ، مصلحٌ طليعيٌّ كبير، ابتدأ إمامًا، وانتهى إلى الإمساك بلجام عربة التقدّم، في عصره على الأقلّ. ومن الناحية السياسيّة، كان الطهطاوي من ضمن “المؤسّسة،” لكنه كان يعمل من أجل قضيّته، وكما انعكستْ في عقله من رحلته إلى باريس.
***
ثم جاء جمال الدين الأفغاني بمشروعه الأكبر والأعمّ، مشروعه السياسيّ بامتياز لتحرير “الشرق” من التخلّف وإسار الماضي. وامتاز بفهمه لمناحي النهضة الأوروبيّة الحديثة، ولمركِّبات “العقل الشرقيّ” والبنية الاجتماعيّة السياسيّة التي يتربّع على عرشها. ولعلّ أهمّ ما يميّزه أسبقيّتُه في الحقل أولاً، وقدرتُه على “الشغل” بين النخَب ثانيًا… أكثرَ من أن تميّزَه مؤلَّفاتٌ وكتبٌ لم يتفرّغْ لها، أو لعلّ مشكلة اللغة عاقته عن ذلك جزئيّاً على الأقلّ.
ولو أنّ الأفغاني لم يَدخلْ في تفاصيل الإصلاح الدينيّ إلاّ بكلمته الشهيرة “رأيتُ في الغرب إسلامًاً ولم أرَ مسلمين، ورأيتُ في الشرق مسلمين ولم أرَ إسلامًا،” لكفاه ذلك. فهو لا يُعرفْ عنه في الحقيقة تصنيفٌ في البحث في المسائل الدينيّة، إلاّ ما كان من رسالته في الردّ على الدهريين، ولا يليق بها أن تُحتسب تأليفًا على قياسه الكبير. ما يهمّنا في مثال الأفغاني، إذنْ، أنه كان أشدَّ اهتمامًا وتفرّغًا للإصلاح السياسيّ من أن يتابع مسائلَ الإصلاح الدينيّ، وقد كان فعلُه كبيرًا جدّاً في نخبة المنطقة آنذاك، لكنْ على هذه الأرض وحدها. وهو، بمثاله، وضع أساسًا لتظهير الإسلام السياسيّ، وتقديمِ إمكانيّة تقدّمِ أهل العمائم إلى قلب النشاط السياسيّ.
***
أما “تلميذ” الأفغاني وصديقه، محمد عبده، فقد سايره وشاركه في نشاطه لفترة، لكنّ هذه المشاركة تركّزتْ على إصدار مجلة العروة الوثقى في باريس، أكثرَ من تركّزها على النشاط السياسيّ الشامل. ولم يكن عبده بعيدًا عن “هوجة عرابي،” بل كان نفيُه آنذاك بسبب موقفه هذا. وهو لم يكن بعيدًا أيضًا عن أجواء الإصلاح السياسيّ، بالمفهوم العامّ له، في أيام الخديوي إسماعيل وتوفيق وعبّاس. إلاّ أنه ابتعد عن السياسة بمعناها المباشر، وتفرّغ للعمليّة التي كانت أكثرَ أهميّةً بالنسبة إليه، وكان أكثرَ اختصاصًا بها وقدرةً عليها: الإصلاح الفكريّ والثقافيّ.
كان محمد عبده تلميذًا حقيقيّاً لرفاعة الطهطاوي أكثرَ منه تلميذًا للأفغاني. فقد أخذ من الطهطاوي الاهتمامَ بمسألة اللغة العربيّة وأزمتها مثلاً، فاهتمّ بتحريرها من التقليد والزخرف، وبتبسيطها، وبمحاولة تكييفها مع الحداثة. كما أخذ عنه تركيزَه على قضيّة التربية والتعليم. لكنه اختصّ أبعدَ من معلّمه، وبقدرةٍ أكبر بكثير منه، على إصلاح فهم الدين، والتوفيق بينه وبين العصر، وبتحرير العقل من الخرافات والأوهام، وبمقاربة قضايا النهضة والتقدّم.
وحين يأخذ عليه البعضُ موقفَه السلبيَّ من السياسة، انطلاقًا من تأفّفه من “فعل ساس، يسوس، فهو سائس،” فإننا نُسجّل له هنا فضلَه في فهم ضرورة فصل الدينيّ عن السياسيّ، فصلاً نسبيّاً على الأقلّ، وهو ما جعل غيابَه عن الساحة في العام 1905 أزمةً يسمح فيها هذا الفراغُ بالتراجع من جديد.
***
لكنه قد يكون ضروريّاً أن نعود إلى الوراء مائة وخمسين عامًا تقريبًا. ففي أواسط القرن الثامن عشر، ظهرتْ في أرض نجد بالجزيرة العربيّة دعوةٌ إصلاحيّةٌ ارتبطتْ باسم محمد بن عبد الوهّاب. وكانت حركةً “سلفيّة سنّيّة،” كما أُطلق عليها فيما بعد، كرهًا من أصحابها لتسميتها بـ “الوهّابيّة” وما تعنيه من ارتباطٍ بالفرد الذي لا يجب أن تُنسب إليه الخوارقُ.
كانت هذه الحركة، في ملامحها العامّة والأساسيّة، إصلاحيّةً تمامًا، وتنتمي إلى ما يحتاجه التقدّمُ من عوامل. فقد تضمّنتْ مناشدةً للعودة إلى بساطة الدعوة الأولى، من دون زخارفَ وإضافاتٍ لحقتْ بها مع الزمن. وحملتْ في عنصرها الرئيس ـ وهو التوحيد ـ طاقةًً مطلوبةً للتغيير إلى أمام.
ومن خلال مهاجمة تعظيم القبور وساكنيها، وتصنيع الأولياء والطواطم والطقوس، ووضعِ طبقة “العلماء” السائدة آنذاك موضعَ النقد، والجرأةِ على تحريم تقديس أيّ إنسان ولو كان نبيّاً، كان يمْكن حركةَ محمد بن عبد الوهّاب أن تكون عاملاً يلعب دورًا شبيهًا بما فعلته الحركةُ الپروتستانتيّةُ من تحضير أوروبا للنهضة الشاملة. لكنّ ذلك كان صعبًا لأسبابٍ لا بدّ من أن يبحثها الباحثون، لولا افتقادُ الجرأة الكافية حتى الآن (وهذا الوضع جديرٌ، في حدّ ذاته، بالبحث أيضًا). رغم ذلك يمكن القولُ إنّ “حظّ” دعوة الشيخ كان قليلاًً، وإنه كان يحتاج إلى إطلاقها في “المدينة” العربيّة، لا في أعماق الصحراء كما حصل، في إسار الحالة الاجتماعيّة الاقتصاديّة الراكدة لأكثر من ألف عام.
هذه الحالة كانت سببًا في أن تكون استعادةُ الماضي قريبة جدّاً من الأصل، تتداخلها الشدّةُ في التعامل مع “الآخر،” ولا تتداخلها مناحي التطوّر، لا العالميِّ ولا الإقليميِّ آنذاك أيضًا. في تلك الاستعادة وقربها ما يغري بالتقليد: من طريقة الدعوة، إلى تأليف القبائل، و”الفتوحات،” والبحثِ عن جوادٍ وفارس. فالحقّ أنّ الدعوة لم تنطلقْ بمعايير كبيرة إلاّ من خلال الاتفاق بين الشيخ وأمير الدرعيّة محمد بن سعود الذي اقتنع بما دعاه إليه الشيخُ، وبشّر الشيخَ بالوقوف معه على مَنْ خالفه، مشترطًا شرطين: أن لا يرجع الشيخُ عنه إنْ نَصَرَهم اللهُ ومكّنهم؛ وأن لا يمنع الأميرَ من الخراج الذي ضربه على أهل الدرعيّة وقتَ الثمار. فقال الشيخ: “أما الأول، فالدمُ بالدم، والهدمُ بالهدم. وأما الثاني، فلعلّ الله يفتح عليك الفتوحات، وتنال من الغنائم ما يُغْنيك عن الخراج.”
وهنا طريقةٌ لربط السياسيّ بالدينيّ، يؤمِّن فيها الأولُ القوةَ ويحتكر السلطةَ، ويتعهّد الثاني بالإيديولوجيا اللازمة للعصبيّة الجديدة. فينفصل الاثنان ويتصلان، من دون استبعاد أن يحدث اصطدامٌ في المنحنيات الحادّة. وليس هذا سهلاً دائمًا؛ ذلك لأنّ طبيعة الدعوة الطهرانيّة لا تنفي السياسةَ في حالاتها القصوى، سواءٌ باسم الحيدان عن أصول الدين، أو غضبًا من الدوْس الزائد على طرف الثوب، أو طغيان المتسلّط، أو جميع ذلك، وغيره.
***
ولم تجد السلفيّةُ أرضًا لها في “المدينة” العربيّة إلاّ في القرن العشرين. وكان أبرز ممثّلي هذا الظهور آنذاك هو الشيخ محمد رشيد رضا. لكنّ أكبرَ شيوخ السلفيّة في هذه المدينة، وربما على مدى القرن السابق كلِّه، كان ناصر الدين الألباني، ابنَ الأسرة المهاجرة حديثًا مع غيرها من المهاجرين المسلمين تحت ضغط حروب الاستقلال عن الدولة العثمانيّة في جنوب شرق أوروبا. وقد استقبلهم السلطانُ عبد الحميد الثاني وأهلُ بلاد الشام استقبالاً ودودًا. فكان في اجتهادات شيوخهم الكثُر دائمًا شيءٌ من عرفان الجميل والذاكرة المريرة.
وُلد رشيد رضا ونشأ في طرابلس الشام، وعاش ما بين مصر خصوصًا والشام، وهما “المدينتان” العربيّتان الأبرز آنذاك: أولاهما بعد مرور قرن على بداية تجربة التحديث المرتبطة باسم محمّد علي… والثانية تعيش ظهورَ النزعة القوميّة العربيّة، وقوةَ المسيحيّة الشرقيّة وفعّاليّتها، والتّماسَّ العضويَّ مع أوروبا، وكونها مركزًا لتفاعلات نهاية الإمبراطوريّة العثمانيّة.
لم تكن السلفيّة عنوانًا قادرًا على استغراق عمل رشيد رضا. فرغم بداياته الصوفيّة من طريق الشاذليّة والنقشبنديّة، إلاّ أنه انخرط بقوة في عمليّة الإصلاح، خصوصًا من خلال ارتباطه بمحمد عبده وعمله المشترك معه.
حاول رشيد رضا أن يمسك بالحبال كلِّها: من الإصلاح الدينيّ، إلى الممارسة السياسيّة، والدخولِ في الصراع مع الخارج الغربيّ. فهو قد هاجر إلى مصر بعد تجربته الصوفيّة الفاشلة، وتتلمذ لفترة على محمّد عبده، ودفعه هذا الأخيرُ إلى إصدار مجلة المنار التي حَصَرَ في عددها الأول أهدافَها: “في الحثّ على تربية البنات والبنين، والترغيبِ في تحصيل العلوم والفنون، وإصلاحِ كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيطِ في مجاراة الأمم المتميّزة في الأعمال النافعة، وطرق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرحِ الدخائل التي مازجت العقائدَ للأمّة، والأخلاقِ الرديئة التي أفسدت الكثيرَ من عوائدها، والتعاليمِ الخادعة التي ألبستِ الغيَّ بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شَبّهتِ الحقَّ بالباطل، حتى صار الجبرُ توحيدًا، وإنكارُ الأسباب إيمانًا، وتركُ الأعمال المفيدة توكّلاً، ومعرفةُ الحقائق كفرًا وإلحادًا، وإيذاءُ المُخالف في المذاهب دينًا، والتسليمُ بالخرافات صلاحًا.”
لكنه ملأ المجلة بفتاواه فيما بعد، حتى شكّلتْ خمسةَ مجلّدات بجمعها بعد ذلك. ودَرس ابنَ تيمية وابنَ القيّم، وربما محمّد بن عبد الوهّاب، وانتهى إلى “مذهب السلف الصالح” على ما يقول. كما أسّس “جمعيّة الدعوة والإرشاد” عام 1912، وتولّى رئاسة “جمعيّة الشورى العثمانيّة.” وتفاءل بالاتحاديين، ثم هاجمهم بعنف. ثم عاد لفترة قصيرة إلى الشام ليترأّس المؤتمر السوريّ الذي انتخب فيصل ملكًا على سوريا، وتركها بعد دخول الفرنسيين إليها.
هاجم الماسونيّةَ بقوة لأنها أداةٌ لليهود أو الصهاينة، كما اهتمّ بالهجرة اليهوديّة إلى فلسطين. ولم تكن له من علاقة مباشرة بالغرب إلاّ من خلال منعكسات مسألة الاستعمار والصهيونيّة محلّيّاً (وهو ما لا يتفق فيه تمامًا مع محمّد عبده).
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ رشيد رضا لم يتعرّفْ إلى الحضارة الأوروبيّة بشكل مباشر (بما لا يتفق أيضًا مع خبرات الطهطاوي والأفغاني وعبده). فلعلّه، لذلك، لم يرَ إلاّ الجانبَ الصداميّ المذكور. وفي ما يخصّ السياسة من حيث هي فعلٌ اجتماعيّ داخليّ، لم يكن موقفه واضحًا تمامًا؛ إلاّ أن علاقة حسن البنّا به، واستلامَه لرئاسة تحرير المنار بعده، علامةٌ وإشارةٌ مهمّتان. فليس رشيد رضا “تلميذًا” لعبده إلاّ بمقدار ما كان عبده “تلميذًا” للأفغاني، بل أقلّ؛ كما أنّ البنّا لم يكن “تلميذًا” لرشيد رضا؛ لكنه الكل المتداخل ضمن مغلّف واحد.
***
لم تجد عمليّة “تديين” السياسة ـ ووجهُها الأخر “تسييسُ” الدين ـ غايتَها القصوى إلاّ مع حسن البنّا، الشابِّ المصريِّ الواعدِ الذي بلغ أشدَّه أيّام ثورة عام 1919 في مصر.
ومن المثير للانتباه أنّ بدايات رشيد رضا الصوفيّة ـ والشاذليّة منها (للمصادفة؟) ـ تميِّز أيضًا مسيرةَ حسن البنّا. فهو أخذ الطريقةَ الحصافيّة (الشاذليّة) عن أحد شيوخها البارزين، لكنه لم ينقلبْ عليها كما فعل رشيد رضا، ولم يهاجمْها فيما بعد، بل انحصر موقفُه السياسيّ في العداء للخرافات والشعوذات والظواهر الغريبة في التصوّف.
ورث حسن البنّا عن أبيه شيئًا من الانكباب على العلوم الدينيّة وحرفة إصلاح الساعات. فكرّس حياتَه لاستعادة الإسلام الصافي إلى الزمن الحاضر، ورأى في التغيير الثقافيّ الاجتماعيّ السياسيّ مهمّتَه التي نَذَرَ نفسَه لها، وقدّم حياتَه من أجلها فيما بعد. ومن أجل ذلك أعاد لمفهوم “الدعوة” وهجَه، ورأى في نفسه “الداعيةَ،” وكتب مقدّمة الفتح الربّانيّ بناءً على تكليف أبيه. غير أنّ أولَ ما ظهر له من كتابات كان يشْبه المذكّرات، وكان تحت عنوان: الدعوة والداعية. وهو لم يكن غزيرَ الإنتاج والكتابة، على الرغم مما ظهر له في الرسائل وأحاديث الجمعة والمأثورات وإشرافه على إعادة إصدار مجلة رضا، المنار. وبذلك فإنه يستعيد الأفغاني أكثرَ من أن يستعيد عبده، ويميل إلى أن يكون مصلحًا سياسيّاً أكثر منه مصلحًا دينيّاً.
كانت نقطة الاستناد الأساسيّة لحسن البنّا شموليّة الإسلام. فهو “عقيدةٌ وعبادة، ووطنٌ وجنسيّة، ودينٌ ودولة، وروحانيّةٌ وعقل، ومصحفٌ وسيف.” كما أنّ الإخوان المسلمين “دعوةٌ سلفيّة، طريقةٌ سنيّة، حقيقةٌ صوفيّة.” ورأى أنّ “نظام الدعوة” في “هذا الطور صوفيٌّ بحت من الناحية الروحيّة، وعسكريٌّ بحت من الناحية العلميّة.” وبذلك، حوّل الإسلامَ إلى “إيديولوجيا” شاملة وشموليّة، لجماعته ولدعوته. وبعد أن كان همَّ الإصلاحيين الأوائل إيجادُ طريقة لاستيعاب منجزات الحضارة الغربيّة وتوطينها، أَبرزتْ حركةُ الإخوان “جيلاً من الشباب المؤمن المثقف يستصغر الحضارةَ الغربيّة في جنب الإسلام،” ويعتقد أنه “لن تُصْدم حقيقةٌ علميّةٌ صحيحةٌ بقاعدةٍ شرعيّةٍ ثابتة.”
فإذا كان محمد عبده قد حاول التصدّي لمسألة الحداثة متجاوزًا السلفيّةَ والصوفيّةَ معًا، وهما التيّاران الأكبران في أرض الواقع، فإنّ حسن البنّا عمد إلى التوفيق بينهما، في فعلٍ “سياسيّ” من الدرجة الأولى، وفعلٍ إيديولوجيّ من الدرجة الممتازة. وذلك يعني ما يعنيه من انكفاءٍ أو نكوصٍ عن القضيّة التي ما زالت قضيّتنا الرئيسيّة، انطلاقًا من شموليّة الإسلام وشموليّة الإيديولوجيا إلى شموليّة التنظيم.
لقد كانت شموليّةُ الدولة الافتراضيّة ناظمًا لدعوة البنّا في رسم طريقه أثناء الحركة، لا بشكلٍ سابقٍ لها، ولا من خلال برجٍ عاجيّ أو منبرٍ جامعٍ للنخبة. فهو قد حدّد أهدافَ التربية الدعويّة في أطوار ثلاثة: أولها للملتزم أثناء تحضيره وتثقيفه وتجييشه، والثاني في غمار العمل الكفاحيّ الجدّيّ، والثالث بعد الانتصار. وما يلي الانتصارَ ليس إلاّ أخذُ الدولة، لتنبثق الدولةُ الإسلاميّة.
أما العمل التنظيميّ فقد توسّع ليشمل، إضافةً إلى الدعوة في البيوت والمساجد والشارع، كلاً من العمل الاجتماعيّ الأهليّ في تشكيل الجمعيّات الخيريّة والتعليميّة والصحّيّة وغيرِ ذلك، إلى عمل الحزب السياسيّ الذي يَنْقض قولَ كلِّ مَنْ قال بأنّ الإسلام لا ينبغي أن يخرجَ من الجامع وإنه علاقةٌ منفردةٌ بين المخلوق والخالق.
وقد ظهر دائمًا، على هامش الحركة الواسعة، مَن يحاول “الاختصاصَ” بالدعوة أو بالعمل الخيريّ أو بالسياسة، لكنه ظلّ غريبًا ـ نسبيّاً ـ عن قلب التيّار وقوّته الأساسيّة، ما لم يجدْ طريقه إلى صبّ جهده في المحور الرئيس: العمل السياسيّ. وما لم تستطع الحركة أن تستنبط حلاً لقضيّة “الاختصاص” هذه، فإنها ستبقى تدور عبثًا، وسيكون لها دورٌ كبيرٌ في مضاعفة أعباء مسألة التقدّم. هناك مؤشّرات متضاربة على الاتجاه الذي يسير إليه هذا التناقضُ الداخليّ، الذي يظنّ كثيرٌ من أهل الحركة الإسلاميّة أنه محلول لديهم، ويطمئنّون إلى ذلك… للأسف. إنهم لا يريدون رميَ شيء من حمولتهم التاريخيّة، ولا يستغنون عن التمسّك بكلِّ ما ظهر خلال ما يقارب المائة عام.
ظهر هذا التعارض منذ أيام البنّا، ولديه هو نفسُه أيضًا. فجنوحُه إلى العمل السلميّ خالطه تشكيلُ “النظام الخاصّ،” الذي لم يتردّد في اللجوء إلى العنف “الداخليّ” آنذاك، الأمرُ الذي نتج عنه ردٌّ سلطويٌّ وعصبويٌّ عنيفٌ تمثّل في اغتيال البنّا. فكما حدث فيما بعد وحتى الآن، فقد كان للعنف تبريرُه، وهو الصراعُ مع الخارج المعتدي، الأمرُ الذي أعطته المصداقيّةَ مساهماتُ الإخوان المصريين والسوريين في فلسطين آنذاك. لكنّ المدخلَ إلى العنف، كما تبيّن التجربةُ البشريّة، لا ينفتح أثناء الخروج منه بعد انتهائه بالفتحة نفسها، وسوف يمتدّ دائمًا من الخارج إلى الداخل.
حملتْ شعاراتُ الإخوان منذ زمن طويل شحنةً حربيّة، حتى حين تستهدف موضوعًا مدنيّاً. وإيقاع “الإسلام هو الحلّ” و”القرآن دستورُنا” و”المصحفُ والسيف” و”النذير”… كلُّ ذلك يختزن ترهيبًا للآخرين، وتجييشًا للأنصار من النوع المحفِّز للمعارك. فظهرت المزدوجة التي شكّلها ترهيبًا للآخرين عبر محور يدور حول الجهاد الأصغر (فالتكفير في النهاية)، وتمثّل في سيّد قطب وأبي الأعلى المودودي من جهة، ومحور يدور حول الجهاد الأكبر “المدنيّ” المتمثّل في الهضيبي والسباعي من جهة أخرى. ولم تختفِ بعد ذلك أبدًا، بل تصاعدتْ باتجاهٍ أكثر عنفًا.
وفي الوقت الذي يُسجَّل فيه للإخوان في بعض البلدان فضلُ محاولة الدخول في الخيار المدنيّ المستندِ إلى قيم الحريّة والديمقراطيّة واحترام الآخر والتعايش معه، فإنّ بعضَ كبار فقهائهم ـ القرضاوي خصوصًا ـ يمثّل شيئًا من التوفيق بين الاتجاهين الكبيرين في محاولةٍ للتفلّت من إسارهما. وهو ينشغل بذلك عن مواجهة الهموم الأكبر التي تأخذنا مشاكلُ الساعة الراهنة بعيدًا عنها.
إنها مسؤوليّة كبار العالِِمين بالدين أن يجرؤوا على مسألة الإصلاح الدينيّ، ويتفرّغوا لتكييف فهم الإسلام مع العصر. وإنها مسؤوليّةُ أيّ مسلم أن يعرف إسلامَه، المقرونَ أساسًا بالفطرة، والمتعامِلَ مع المفرد كسيّدٍ مكافئٍ للآخرين. مسؤوليّتُهم جميعًا أن يجدوا مخرجًا لعقدة الفصل والوصل بين التديّن والممارسة السياسيّة. فالدولة المدنيّة الحديثة دولةٌ للجميع، محايدةٌ ومساويةٌ بينهم، تنفي الاحتكارَ في كلّ شيء، حتى في فهم الدين. وهي إذا كانت لا تنْكر على حزبٍ من مواطنيها أن تكون القيمةُ الدينيّةُ من بين مؤونته الإيديولوجيّة، فإنها تتناقض مع استقوائه بذلك لتخويف الآخرين أو لتوسيع عباءته لتشملَ الناسَ جميعًا ولتصبغهم بصبغةٍ واحدة.
هنالك مستلزماتٌ وقواعدُ أولى للعمل الدنيويّ ـ السياسيّ المقبول في هذا العصر، لا بدّ من اعتمادها في أساس العقل الذي ينطلق من الدين إلى المشاركة السياسيّة. ومنها نبذُ العنف الاجتماعيّ، بطريقة تقْنع الإنسان البسيط نفسه بأنها نهائيّة وعميقة وأصيلة. ومنها أيضًا قبولُ الآخر، ووقفُ إرهابه بالرفض المعلن أو المضمَر. هذا الآخر ليس قريبًا أو ابنَ عمّ أو جارًا فحسب، بل هو الآخرُ المجرّد أيضًا، أو لعلّه المطلق. كما أنّ رفع يافطة على جدارٍ مهملٍ، تتحدّث عن الديمقراطيّة والمدنيّة، لم يعد كافيًا منذ عشرات السنين لتبرئة الأحزاب الإيديولوجيّة من تهمة أخذ الديمقراطيّة أداةً مؤقّتةً للانقضاض على زمام كلّ شيءٍ إلى الأبد. لكنّ ذلك لا يمكن أن يبدأ إلاّ بإبداع حلٍّ نهائيّ لمسألة الفصل والوصل كمدخلٍ لهاتين المسألتين وما يتفرّع منهما.
إنّ أهل العمائم ما كانوا منذ أربعة عشر قرنًا أهلَ سلطة، بل إنّ أكابرهم ما كانوا حتى أهلَ قضاء. فلماذا لا يقومون بالانكباب على ما يقع ثقيلاً على كاهلهم من الإصلاح والجرأة على تخريج مسألة الفصل والوصل وتأصيلها… وقد آن الأوانُ لذلك منذ أكثر من قرن؟!

دمشق
المقالة منشورة في مجلة الآداب, 4-5-6 /2009
* عدد 4-5-6 /2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى