الردّ على التصعيد بوأد الفتنة وبرؤية وطنيّة شاملة
سعد الله مزرعاني *
خلافاً لما كان يرجوه اللبنانيون من تحقيق حلحلة أو تسوية ما للأزمة التي يعانونها، فقد دخلت تلك الأزمة طوراً جديداً، هو الأخطر حتى الآن، سياسياً وأمنياً.
وخلافاً لما أطلقه الأستاذ وليد جنبلاط من إشارات التمايز الإيجابي عن أقطاب آخرين في فريقه حيال المشاركة في اللقاء الحواري الذي اقترحه رئيس مجلس النواب نبيه بري، فإن رئيس «اللقاء الديموقراطي» قد تولّى إطلاق الموجة الجديدة من التوتير الذي كرسته قرارات مجلس الوزراء في جلسته «التاريخية» ليل الاثنين ـــــ الثلاثاء الماضي.
مصدر هذا التوتير الخطير عاملان: الأول داخلي، ويتمثل في محاولة تفعيل دور الحكومة الراهنة وسلطتها بعدما فشلت محاولة انتخاب رئيس للجمهورية، وسقط بالتالي، الاتفاق الضمني الذي قضى بأن تكتفي الحكومة بتصريف الأعمال وبعدم اتخاذ قرارات ذات طابع فئوي أو استفزازي في الحقلين السياسي والإداري. ذلك يعني أن تتولّى الحكومة إدارة شؤون البلاد بكامل الصلاحية العائدة لها، معزّزة بصلاحيات (أو بجزء من صلاحيات) رئيس الجمهورية، وحتى الانتخابات النيابية المقبلة.
ويصبح من المنطقي هنا، افتراض أن هذا الفريق قد صرف النظر عن الانتخابات الرئاسية كلياً، وأن التلويح بانتخاب غير دستوري، بالنصف زائداً واحداً، إنما هو من قبيل التهويل ولحماية قرار استمرار عمل الحكومة الراهنة وتفعيله.
لقد رفض فريق السلطة صيغة مشاركة نسبية مع خصومه، من خلال تمثيلهم بما نسبته الثلث زائداً واحداً في حكومة الوفاق الوطني المتوخّاة. وها هو اليوم يكرّس هذا التوجّه في القرارات التي اتخذتها حكومة الرئيس السنيورة، في شقَّيها السياسي والإداري على وجه التحديد.
أمّا العامل الثاني في التوتير، فيتمثّل في استمرار الضغط الأميركي على الحكومة اللبنانية من أجل أن تندفع أكثر، في تنفيذ السياسات الأميركية المتعلقة بالوضع اللبناني، في نطاق الاستراتيجية الأميركية «الجديدة» التي تبلورت في أواخر عام 2006 بعد تعثر الغزو الأميركي للعراق والعدوان الإسرائيلي على لبنان (في تموز وآب من العام نفسه). إنها الفاتورة الأميركية إذن! وهي أيضاً، فاتورة تطالب بها قيادة المملكة العربية السعودية ثمناً لدعمها للحكومة وللأطراف المشاركة فيها، وهو دعم سخي ومباشر ومتنوع: سياسي ومالي وإعلامي و…
ومن نافل القول أنّ العاملَين الداخلي والخارجي المذكورين، يتكاملان على نحو منسق ووثيق. ويبدو الهدف من وراء التصعيد الجديد، إحكام السيطرة على الوضع اللبناني، ومحاصرة الفريق الخصم، بما يفقد المقاومة وحزبها خصوصاً، كل شرعية لسلاحها وتدابيرها ودورها ووجودها!
وتتناغم هذه المحاولة مع تحرك في مجلس الأمن، لمزيد من تدويل الوضع اللبناني. ويبدو واضحاً أن ثمة مساعي تُبذَل على هذا الصعيد، من أجل تغيير «قواعد الاشتباك» في الجنوب اللبناني. وهذا ما كان قد لمّح إليه السيد سيلفيو برلوسكوني فور نجاح حزبه في الانتخابات الإيطالية، ما يشير إلى توجه يجري التحضير لإمراره في أقرب فرصة ممكنة، في مجلس الأمن الدولي (القوات الإيطالية هي الأكبر عدداً من بين القوى المشاركة في اليونيفيل المعزز بموجب القرار 1701).
اللافت في موجة التصعيد الراهنة، أن الاستهداف فيها، قد تحوّل من الدور السوري إلى الدور الإيراني. وليس من الصعب ملاحظة أن الاتصالات السورية ـــــ الإسرائيلية عبر وسطاء (خصوصاً الحكومة التركية)، قد حظيت بترحيب مباشر من رئيس «اللقاء الديموقراطي»، الأستاذ وليد جنبلاط.
قد يشير ذلك، رغم عدم تبلور الصورة كافياً، إلى مراهنة على النجاح في «تحييد سوريا» بثمن الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجولان. كانت قد نصحت بذلك أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية منذ بضعة أسابيع. وبدوره فإن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك قد اعترف بأن الوضع تغيّر لمصلحة سوريا منذ آخر مفاوضات في «شيبردز تاون» عام 2000، «إذ كانت دمشق من دون حزب الله، ولم تكن إيران في الخلفية وحماس لم تكن في غزة، بل كان هناك زعيم آخر في سوريا». وأضاف باراك متبنياً نصيحة أجهزة استخباراته: «لدينا مصلحة من الدرجة الأولى بإخراج سوريا من حالة العداء» (يديعوت أحرونوت 2 أيار 2008).
التركيز في الاستهداف بالأولوية، على النظام السوري أو الإيراني أو على الاثنين معاً، هو أمر مألوف في سياسة وإعلام فريق 14 آذار وداعميه من الأميركيين والعرب. إلا أن ما يحصل الآن يكتسب دلالة أولية وجزئية على الأقل، بعد الإعلان عن جدية المفاوضات السورية ــ الإسرائيلية، وفي أعقاب مؤتمر القمة العربية في دمشق حيث استحوذت القيادة السورية على كامل الهجوم من الولايات المتحدة وفريق «الاعتدال العربي» ممثلاً بكل من المملكة السعودية ومصر، بالإضافة إلى فريق 14 الذي قاطعت حكومته القمة كلياً، رغم الدعوة التي تلقتها لحضور تلك القمة، وهي كانت مطلباً ملحاً لها قبل إعلان الموقفين السعودي والمصري بخفض تمثيلهما في القمة إلى مستوى رمزي.
إنه لذو دلالة كبيرة، أن يجري التركيز على التدخل الإيراني في الشؤون اللبنانية، وأن يطالب النائب جنبلاط بطرد السفير الإيراني من لبنان، وأن يعتبر مجلس الوزراء اللبناني شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله غير شرعية وغير قانونية، فيما كانت القائمة بالأعمال الأميركية تتفقد، في «جولة رسمية»، نقطة الحدود اللبنانية ـــــ السورية للتأكد من سلامة الإجراءات الرسمية في المراقبة والتفتيش!
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني القادم، يتصاعد التنافس الأميركي ـــــ الإيراني في العراق، ويزداد سعي المرشحين الأميركيين لكسب الدعم والصوت الصهيوني. وفي امتداد ذلك أو كنتيجة له، تزداد أهمية المعركة في لبنان من وجهة نظر أميركية وإسرائيلية متداخلة، وخصوصاً أن الوضع الفلسطيني يبدو مريحاً نسبياً، بالنسبة إلى كل من واشنطن وتل أبيب.
أبعد من كل ذلك، وضمن فرص جدية لكي يستفيد المرشح الجمهوري الأميركي، من فداحة الانقسام بين مرشحي الحزب الديموقراطي، تتبلور ملامح محاولة أميركية جديدة، لتحويل الوضع اللبناني إلى علامة نجاح أميركية تستخدم مجدداً لإعادة إنقاذ وإنهاض الشرق الأوسط الأميركي الجديد بعدما تعذر ذلك في عدوان تموز الأميركي ـــــ الإسرائيلي عام 2006.
يراكم فريق 14 آذار سياسات ومواقف و«ثقافة» في اتجاه أن الصراع في لبنان جذري، ولا سبيل إلى تسوية تقوم على مفهوم الشراكة والتفاهم على الأمور التي يدور بشأنها صراع جوهري. ويراهن هذا الفريق على إعادة تماسكه وإمساكه بزمام الأمور تأسيساً على النجاح في ما تقدم ذكره، وخصوصاً عبر إحداث ثغرة كبيرة في جدار العلاقات السورية ـــــ الإيرانية، وكذلك بانتخاب المرشّح الجمهوري جون ماكين خلفاً للرئيس الأميركي الحالي ومكمّلاً لسياساته والتزاماته في المنطقة عموماً وفي لبنان خصوصاً.
ممّا تقدم وسواه، يمكن الاستنتاج أن فريق السلطة، فريق 14 آذار، قد قرّر المضي في سياسة المواجهة وتصعيد هذه السياسة بوسائل السلطة السياسية والأمنية والإدارية. وهو ينظم خطواته بالكامل على إيقاع الإدارة الأميركية والسياسة السعودية.
لا شك أن سياسة المواجهة هذه التي تكسر في طريقها عدداً من «الضوابط» السياسية والإدارية والأمنية، تمثِّل منعطفاً شديد الخطورة في دفع الأمور نحو مستويات قريبة من حافة الهاوية. والهاوية هي الاحتراب الأهلي والاقتتال الذي ستكون عاقبته كارثية على كل اللبنانيين، وخصوصاً أولئك الذين، يدفعون إلى هذا النوع من الانتحار الجماعي الذي هو انتحار ذاتي في الوقت عينه.
ليس المطلوب التراجع أمام هذا التوجه التدميري. لكن المطلوب تنظيم التصدي لكل ذلك: أولاً، عبر إجهاض الفتنة الداخلية ضمن توجهات تكتيكية هادفة، وثانياً باعتماد سياسات وعلاقات جديدة ينتظمها مشروع وطني متكامل.
مثل هذا المشروع يجب أن ينطلق من رؤية شاملة لأزمات لبنان ولمعالجة هذه الأزمات. ويقع في مقدمة عناوين هذه الرؤية، تكراراً، إصلاح نظام العلاقات بين اللبنانيين (النظام السياسي اللبناني) وتصحيح العلاقات اللبنانية ــ السورية، واللبنانية مع كلّ خارج عربي أو دولي، وإقرار مبادئ لتأمين سيادة واستقلال واستقرار وتنمية لبنان، وفق الحاجات الحقيقية التي تنطلق من تاريخه ومصالح شعبه وموقعه الطبيعي شريكاً في المصير العربي، ومحقّقاً لأحد أهم إنجازاته في حقول المقاومة التحرير والديموقراطية.
* كاتب وسياسي لبناني
عدد الجمعة ٩ أيار ٢٠٠٨