قراءة متأنية في خطابي الأقلية والأكثرية
أُبيّ حسن
سأعود مجدداً إلى هذا الموضوع, محاولاً التوسع فيه بقدر ما تسمح الظروف الموضوعية. وتجدر الإشارة أن بعض فقرات هذه المادة سبق أن نُشرت في مادة مستقلة على صفحات “كلنا شركاء في الوطن” وبعض الصحف العربية كذلك.
عادة ما يدفع الشعور الأقلوي الضمني بالأقليات الدينية والعرقية باللاوعي(ربما)، لتبني خطاب الأكثرية قدر مستطاعها، بمعزل عن قناعتها من عدمها بذلك الخطاب.. الخطاب الثقافي بالدرجة الأولى.
وهنا ينبغي الاستطراد بغية التنويه إلى أن مسألة تبني الأقليات –عرقية كانت أم دينية- لخطاب الأكثرية، ليست وقفاً على بلد من دون آخر، أو منطقة دون أخرى في هذا العالم. وليست وقفاً كذلك على الخطاب في الحقل السياسي أو الديني، إذ مسألة التبني تلك أشمل وأعقد من ذلك بكثير.
وأياً يكن الأمر فقد ظهر جلياً ذلك التبني، في أحد جوانبه، في سوريا في وثيقة إعلان دمشق التي وقعتها قوى المعارضة السورية في 16/10/2005، ذلك عندما أضافت، إحدى الشخصيات المنتمية (أو المنحدرة من) إلى أقلية دينية وهي في الوقت ذاته من حزب علماني، إلى الإعلان فقرة تقول: “الإسلام الذي هو دين الأكثرية وعقيدتها بمقاصده السامية وشريعته السمحاء يعتبر المكون الثقافي الأبرز في حياة الأمة والشعب، تشكلت حضارتنا العربية في إطار أفكاره وقيمه وأخلاقه، وبالتفاعل مع الثقافات التاريخية الوطنية الأخرى في مجتمعنا، ومن خلال الاعتدال والتسامح والتفاعل المشترك، بعيداً عن التعصب والعنف والإقصاء. مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية، والانفتاح على الثقافات الجديدة والمعاصرة“.
طبعاً لن أناقش هنا مضمون هذه الفقرة التي أثارت جدلاً كبيراً وسط “الحراك” السوري سنتذاك، لكن ما أود قوله إن الذي أضاف هذه الفقرة هو أحد القياديين البارزين في حزب الشعب الديموقراطي المُعارض. وما يهمنا في الأمر، إن ذلك القيادي من أقلية مسيحية كما أسلفنا، بمعنى لم تستطع أن تنظر تلك الأقلية(الممثلة هنا بذلك القيادي المسيحي) إلى نفسها هنا من باب المواطنة التي تكفل حقوق الجميع بمنأى عن أي انتماء(أو انحدار) ديني، بل من باب إن الإسلام دين الأكثرية(العددية طبعاً)، وبديهي أن المعنى يحيلنا مباشرة إلى أن تلك الأكثرية تنظر نظرة عطف “وشفقة” إلى الأقليات! أقول هذا علماً أني من الموقعين على الإعلان المذكور في حينه عن قناعة ورضا! ويؤسفني القول إنه لم يطلب مني الإمضاء على الإعلان سنتذاك بصفتي مواطناً قد يكون له مكانته المعتبرة في هذا المجتمع, بل بصفتي مثقفاً من خلفية مذهبية معينة!(وهذا ما سأتحدث عنه مطولاً في غير مكان وفي زمن ليس ببعيد).
وهو وإن كان يقرّ –أي ذلك القيادي في حزب الشعب الديموقراطي- في تلك الفقرة بأن الإسلام هو “المكون الثقافي الأبرز في حياة الأمة والشعب”، وهذا ما نقرّ به حقاً، غير أنه لم يخطر في باله أن يتساءل إن كان يحق له أو لغيره(ممن هم خارج الدائرة الإسلامية دينياً لا ثقافياً) أن يناقش في القضايا الشائكة والعالقة في ذلك المكون الثقافي الذي يفرض نفسه(عنوة, وفي حالات كثيرة بطريقة غامضة وملتبسة) والتي تؤثر، سلباً أو إيجاباً، في ما تبقى من مكونات الشعب من غير المسلمين السُنّة!.
ولأوضح أكثر مسألة تبني الخطاب تلك، سأضرب مثلاً بسيطاً بشخصية القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي. فسنجد وكما هو مؤكد أن الرابطة كانت في زمانه إسلامية، لذا كانت النظرة إليه، كبطل، تنحصر بذلك المنظور فقط. الآن أصبح ينظر إلى الشخص ذاته من منظورين شبه مختلفين وإن كانا ايجابيين، إذ الأكراد يفتخرون به لأنه من عرقهم بالدرجة الأولى(علماً أنه جرت محاولات من قبل بعض الباحثين العرب بغية تأكيد عروبة صلاح الدين، ومثل تلك المحاولات كانت مدعاة للسخرية في الحقيقة)، في حين أن العرب ينظرون إليه من جهة كونه محرر القدس، وهم بهذا يتشاركون مع الأكراد ومع الأقليات الأخرى المتبنية لخطاب الأكثرية في ما يخصّ النظر إلى صلاح الدين.
لكن حال أخذت شخصيتين(علوية وإسماعيلية) كلاسيكيتين أو تقليديتين، ترى كيف ستنظران إلى صلاح الدين؟ بالتأكيد قبل تنظران إليه كبطل، ستنظران إليه كقاتل لأجدادها إبان حملات التكفير الديني التي ارتكبها بحقهم في
مصر قبل ذهابه لتحرير القدس!. وما يمكننا قوله هنا، إن نظرة ذلك الأقلوي أو ذاك إلى الشخص ذاته أو الموضوع ذاته قد تختلف عن نظرة سواه!.
شخصياً لا يعنيني صلاح الدين الأيوبي كثيراً، ولا أسمح لنظرتي فيه -سواء أكانت إيجابية أم سلبية- أن تؤثر على علاقتي بالآخر من محبيه والذي قد يكون صديقي وأقرب إليّ من شقيقي أو قريبي! لكن في الوقت ذاته لا أسمح لهذا الآخر أو ذاك ممن يرون في صلاح الدين -أو سواه- أسطورة، أن يفرض عليّ الاحترام ذاته الذي يكنّه هو إليه ولو من وجهة نظر تاريخية!.
أستطيع القول إني أحترم له مشاعره ووجهة نظره في ذلك الرجل(أو غيره من شخصيات تاريخية يجلّها)، لكني قد لا أكون مستعداً لتبني خطابه فيه، قبالة ذلك لا أسمح لنفسي مطلقاً بفرض خطابي على غيري، أياً كان نوع وشكل هذا الخطاب.
ومسألة تبني الأقليات لخطاب الأكثرية نجدها واضحة في الجهود المستميتة التي تبذلها هذه الأقلية أو تلك بغية تأكيد عروبتها أو إسلامها، وذلك حسب الموضة الرائجة وموقع تلك الأقلية من المكوّن الثقافي الغالب الذي تعيش في خضمه. وهذا حقيقة ما نجده في الجهود التي كان(وما زال) يبذلها بعض العلويين لتأكيد إسلامهم تارة(مثال ذلك كتاب: “النبأ اليقين عن العلويين” للشيخ محمود صالح الزللو, أو تلك الكتب التي وضعها الشيخ عبد الرحمن الخير وسواه تصب في الطاحونة ذاتها)، وعروبتهم تارة أخرى، علماً أن غالبية العلويين السوريين كعرق إما عرب غساسنة أو عرب تنوخيين إلخ.
والأمر نفسه نراه لدى بعض المسيحيين الذين يحتاجون بين الفترة والأخرى لتأكيد عروبتهم مع معرفتنا أن مفكريهم من أوائل من نظّر لها وتغنى بها ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، وبالتالي ولاءهم لخطاب الأكثرية، بمعزل عن إن كانت تلك العروبة عبارة عن عبء حقيقي وعلى الصعد كافة، وتكاد تخلو راهناً من أية مغريات أم لا، على الأقل مغريات معرفية وحضارية!.
وحقيقة الأمر إن سعي الأقليات لتأكيد انتماء ما، يشابه أو يماثل انتماء الأكثرية من خلال تبنيها لخطابها، يؤكد على لا إنسانية خطاب الأكثرية(أية أكثرية كانت) قبالة حالة التزلف والكذب والرئاء التي عادة ما تضطر الأقليات(أية أقليات كانت) للعيش في دوامتها بغية تأمين الحماية المجتمعية والأمانين الذاتي والجمعي، وهذا لا ينفي في مجمله إن الكثيرين من أبناء الأقليات قد يكونون متبنين لخطاب الأكثرية عن رضا وقناعة.
طبعاً وتكثر مثل تلك الظاهرة –ظاهرة تبني الأقليات لخطاب الأكثرية- في البلدان المتخلفة تاريخياً على الصعد كافة، كحال البلدان العربية الإسلامية. خاصة البلدان التي لم ينتصر فيها مفهوم المواطن بعدُ.
وغني عن البيان أن ثقافتنا لم تتقيأ بعد الحديث عن الأقلية والأكثرية بالمعنى الديني، وهذا ما أكدته الفقرة سابقة الذكر في إعلان دمشق، وبهذا المعنى نحن أبعد ما نكون عن مفهوم المواطن, ذلك المواطن الذي هيهات أن يكون موجوداً في صلب الثقافة الإسلامية السائدة وأرجو أن لايزايدنا أحد علينا بالإسلامين التركي والماليزي إذ لنا وقفة مطولة معهما في غير مكان.
ولعل في فرض الأكثرية لخطابها، بما ينطوي عليه ذلك الخطاب من نمط ثقافي، على هذه الأقلية أو تلك، هو ما دفع ببعض وجهاء بعض الأقليات للتحالف مع خارج ما، بكلمة أخرى هذا ما يفسر لنا –في أحد أوجهه- سبب التحالف الذي نشأ في فترة زمنية بين بعض موارنة لبنان ممثلين بحزب الكتائب وإسرائيل العدو التاريخي للأكثرية العددية بالمعنى العروبي/الإسلاموي. وربما هذا ما يمكننا من إدراك معنى أن يستهل الرئيس اللبناني الأسبق إميل اده سنة 1940م خطابه في الإذاعة اللبنانية سنة ذاك بقوله: “إخواني الفينيقيين، وأبناء بجدتي فرنسا”، ما أثار غضب رشيد عالي الكيلاني، وقد كان معيناً حديثاً رئيساً للوزراء في العراق سنة ذاك، شاناً حملة شعواء على الرئيس إميل اده.
وللتدليل على صحة كلامنا، في ما يخصّ فرض الأكثرية خطابها على الأقلية، يمكننا الاستعانة ببيان المطارنة الموارنة الذي صدر في الأسبوع الأول من تموز 2007، محذراً فيه من “أسلمة لبنان” متهماً حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بالعمل على تلك الأسلمة، والذي عقب عليه الصديق حسام عيتاني، محقاً، إن الأسلمة تمت ومنذ عقود، ذلك عندما “طالب بطريرك الموارنة بتوسيع رقعة لبنان لتضم الأقضية الأربعة”، مبيناً أن: “ما يخيف المسيحيين اليوم ويتشاركون في خوفهم هذا مع فئات واسعة من المسلمين هو عملية «طلبنة» المسلمين اللبنانيين الذين تنتشر في صفوفهم رؤية عدمية للواقع تنبذ الآخر وتنفي أهمية مشاركته في بناء بلد مركب المكونات مثل لبنان”، إلى أن يوضح: “إن الطلبنة ليست محصورة في أبناء الطائفة السنية، بل هي آفة مشتركة بين جميع الطوائف الرافضة للاعتراف بالآخر…”، وعلى الرغم من وفرة التحليلات الواقعية والصائبة التي عادة ما تتسم بها رؤية عيتاني غير أنه تغافل إن سبب وجود آفة الطلبنة لدى الطوائف الأخرى في لبنان، تحديداً في وقتنا الراهن، هو هيمنة خطاب من صاروا أكثرية عددية (دينية/سنية وشيعية) على من باتوا أقلية عددية (دينية/مسيحية) في لبنان! لا بل والابتزاز الضمني من قبل من صار أكثرية عددية بالمعنى الديني لمن بات أقلية عددية بالمعنى الديني!
وإشارة بيان المطارنة إلى “أسلمة لبنان” وإن كانت متأخرة جداً، ولا تنسجم إطلاقاً مع الواقع اللبناني من جهة الاختلال الديموغرافي الذي آل إلى مصلحة المسلمين(سنة وشيعة)، إلا أن أهميتها تأتي من قرعها جرس الخطر والخوف الحقيقي والجدي من هيمنة خطاب يرتكز في هيمنته هذه على الكثرة العددية بالمعنى الديني لا بالمعنى السياسي! ولن ننسى هنا الإشارة إلى كيفية سعى بعض الشرائح من سُنّة لبنان للعمل على دمج سُنّة فلسطين بالكيان اللبناني، هذا ما تفسره الوفرة في حالات زواج شبان لبنانيين من فتيات فلسطينيات، ومثل ذلك الزواج والتزاوج ليس بريئاً في مجمله خاصة في مجتمع كالمجتمع اللبناني. ويمكننا أن نضيف في هذا المقام ضخ المالين السعودي والإيراني على فئات محددة في لبنان، والغاية من ضخ ذلك المال قطعاً ليست بريئة!.
وليس مصادفة أن تجد أصوات كتّاب لبنانيين تفصح عن تعرض الوجود المسيحي في لبنان اليوم “لخطر وشيك جدّي سياسياً واجتماعياً، دون الإعلان عن ذلك. علماً أنها ليست المرة الأولى التي يكون فيها ذلك الوجود مهدداً بملاقاة المصير الذي وصل إليه مسيحيّو الدول المجاورة من فلسطين والعراق”. ولنا أن نتساءل في أنفسنا إلى أين قد يفضي ذلك القلق، حال لم تزل أسبابه، بلبنان لا بالمسيحيين فحسب!
بالعودة إلى ما كان قد نبّه إليه عيتاني عن أن آفة الطلبنة ليست حكراً على أبناء الطائفة السنيّة، وتأكيداً لصحة قوله، إنني أجد شباناً علويين، قد تكون نسبتهم كبيرة أو صغيرة(لا أدري)، منتشرة في أوساطهم آفة الطلبنة “العلوية”. وأجهل إن كانت تلك النسبة -التي ما تزال صامتة- في تزايد، لكن من المؤكد أنها لا تقل خطراً عن الطلبنة في أوساط السُنّة وسواهم، ولا أدري إن كانت الطلبنة العلوية (من دون أن نغفل أن ثمة طلبنة مسيحية ودرزية وهلمّ جرا) عبارة عن ردة فعل إزاء بعض ما يجري في الداخل السوري من حركة ارتداد ديني، أم إن كانت متأثرة بما يجري في الخارج من متغيرات أو كلا الأمرين معاً.
قولاً واحداً، عندما يصبح خطاب الأكثرية يشكل عامل اضطهاد(أياً كان نوع هذا الاضطهاد) مزمن على أقلية ما، ستبحث تلك الأقلية مباشرة عن حليف خارجي، وهذا ما رأيناه في علاقة زعماء الأحزاب الكردية العراقية بإسرائيل بعد أن شهدت كردستان العراق حكماً ذاتياً عقب حرب الخليج الثانية، ومن البديهي أن تلك العلاقة لم تكن لتنشأ لولا شعور الأكراد المزمن بالاضطهاد من خطاب الأكثرية، لا بل والمتاجرة بذلك الخطاب، إلى درجة أن بعض الأقليات التي تبنته صارت بدورها تتاجر به!
وأعود وأؤكد أن مسألة تبني الأقليات لخطاب الأكثرية مسألة شديدة التعقيد والحساسية في آن، ويزداد تعقدها(وربما خطورتها) طرداً حال كان خطاب الأكثرية متخلفاً ويشكو من معضلة بنيوية حقيقية.