دولة الهويات والمحاصصة الطائفية
حسين يعقوب
أدى دمج الهوية الطائفية في المجال السياسي اللبناني منذ العهد الاستقلالي الأول الى غياب منطق الدولة وإلغاء مفهوم المواطنة وهيمنة نزعة الولاء الجمعي التي وقفت عائقا فعليا في وجه اضفاء القيمة الأساسية على انتماء المواطنة.
لم تعط القيادات الدينية ولا السياسية الأولوية للعلاقات التي تعزز انتماء المواطنة وتقلل من الحوافز المكرسة للهويات الخصوصية. ليس هذا قدرا محتوما في المجتمعات المتعددة المكوّنات، “فالطائفية السياسية لا علاقة لها بتعدد الطوائف أو الأعراق، إذ من الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإثنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية، وتالياً لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله”.
لقد أخفقت دولة المحاصصة بجمعها في معاملة الفرد وفق صيغ قانونية عامة مجردة من الصياغات ذات المنحى الفئوي، وفشلت في ايجاد الحلول للمعضلات القائمة، ثم عجزت عن استيفاء مقوّمات بناء الدولة من موقع الرؤية الوطنية. فتصعيد التكافلات واساليب الموالاة الطوائفية، أنتج استمرار الفشل في بناء الدولة الحديثة وانسداد آفاق قيام حياة سلمية. بقيت المنافسة السياسية قائمة وفقا لتحالفات طوائفية تختزل في مجموعات من الزمر والشلل، مما ألغى إمكان ظهور المنافسة السياسية الحقيقية بين الأحزاب. وفي ظل ظروف وملابسات كهذه بين السياسي والتعدد الإجتماعي الطوائفي، لم تتكون إمكانات لدمج المصالح ووضع البرامج السياسية، ولا تطبيق سياسات لتشكيل الدولة. تزايد نفوذ الجماعات الفئوية الساعية للسيطرة الكلية على الفرد وابعاده عن دوره كمواطن. فشلت دولة الطوائف في تجديد هياكلها السياسية والقانونية والإقتصادية وتخلفت عن القيام بواجباتها الأساسية، ولم تعد العملية السياسية تتطابق مع وحدة المجتمع نفسه. أنتجت هذه الحال شرخا واسعا بين الدولة كهيكل تنظيمي لإدارة المجتمع والسلطة والمجتمع الأهلي. فبالإضافة الى انفصالها عن المجتمع، ظل القصور يلازم تمثيلها المفترض للنصاب القانوني العام بوصفه الحد المنظم لشكل العلاقة بين المجموعات المتباينة والمتناحرة التي يتكون منها المجتمع. فالوصول الى سدة الحكم لم يخرج الفئات الحاكمة عن فئويتها، بل كرّس هذه الفئوية وغذّاها بالموارد التي استأثرت بها بواسطة السلطة. هكذا تحولت مرافق السلطة الى أدوات تدعم المصالح الضيقة والشخصية، فرسخت القوى الطوائفية هذه الأوضاع باعتبارها الجهة الوحيدة المستفيدة من استشرائها. وأصبحت الدولة منسلخة عن المجتمع لأنها لا تعبّر الا بصورة مباشرة وضيقة عن مصالح فئة او فئات اجتماعية محدودة ولا تتجاوزها الى مجموع المصالح العليا للبلاد. وبما انها لم تؤسس لتمثيل حقيقي لمجمل مكونات المجتمع؛ فإنها اتجهت الى تكوين قشرة مجتمعية طائفية كاذبة على صورتها لا تمثل الا ظل الدولة على سطح المجتمع.
لقد عمل التصور الذي يقول بأن الطائفية داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع، إلى قيام دولة الطوائف بوصفها حتمية اجتماعية أو تعبيرا عن خصوصية محلية لا يمكن تجاوزها من دون ارتكاب أخطار السير في اتجاه اقتسام غير عادل للسلطة والثروة المرتبطة بها. وكما عمل هذا التصور على تخلي هذه الفئات عن مسؤولياتها تجاه بناء دولة حديثة حقيقية، قوامها مفهوم الحق والقانون، لا مجرد تقاسم للسلطة بين مدعي تمثيل الطوائف، فإنه استخدم كغطاء للممارسات الطائفية ووحّد تماما بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل المجتمع الأهلي ملغياً بذلك كل إمكان لقيام دولة حديثة. حقيقة الحال، يمكن طوائفية المجتمع، أو تكوينه الفسيفسائي، أن يفسرا الصعوبات والتحديات التي تقف في وجه نشوء نخبة وطنية منسجمة ومتماسكة، لكنهما لا يبرران في أي شكل ممارسة الطائفية داخل الدولة. أن جل عمل قوى السلطة هو استغلال نفوذها والامكانات التي توافرت لها من المواقع التي حصلت عليها بفعل العرف الدستوري الصوري لتوظيفه في الصراع الطائفي. لا تهتم “دولة الطوائف” بإعادة بناء القيم المشتركة التي تساهم في تعزيز التعايش السلمي بين أبناء المجتمع ولا ترى ذلك من مهامها. أحد أهم العوامل التي تدفع في هذا الإتجاه التدميري، هو النقص الحاد في شرعيتها من موقع مفهوم الدولة.
لقد فضحت التجربة اللبنانية الى حدٍّ قاس هشاشة القوى “السياسية” الطوائفية التي أمسكت بالسلطة وكشفت عن ضعف ادائها وعجزها عن ادارة الحكم والبلاد. وكشفت المجريات أن “ديموقراطية التوافق الطائفي” ليست الا قناعاً تتستر به أسوأ انواع الفساد والمحسوبية تمارسها القوى الطوائفية في البلاد.
للسلطة في لبنان أكثر من قناع ولها مساحات واسعة للمراوغة. إنها تتجلى في العقلية السياسية الفاسدة وفي ممارساتها السلطوية. لم تكن دعوات الديموقراطية وحكم الدستور الا مجرد مجازات وأقنعة وزركشات يمارس من خلالها الفساد السلطوي حضوره وسطوته. لقد تحوّلت دعوات الخلاص من الفساد وتقييده الى مجرد شعارات قشروية وزخارف سطحية يطيل من وراءها النظام أمد بقائه. إن صفة الفساد لم تنزع عن الدولة ولا عن قوى السلطة في مختلف توجهاتها. لقد كشفت الأوضاع في لبنان أن الفساد يشمل ايضا حكومات “الوحدة الوطنية” حتى ولو كان متفقاً عليها بالإجماع الوطني وتحت شعار الديموقراطية.
فشعار الديموقراطية لم يكن يعني شيئاً عند “أحزاب الهوية” الطوائفية التي هي شكل من “مجمع المصالح السياسي – الديني” المكوّن من السلطة ورجال الدين الموالين لها، حيث أصبحت “شعبة الإستبداد الديني” ملازمة ﻠ”شعبة الإستبداد السياسي” وحامية لها، وأصبحت الانتخابات تضفي الصفة “الرسمية” على علاقات السلطة بالدولة، وفرصة لإشاعة خطاب الهويات المتصارعة وممارسة مجريات طائفية تحت مسميات سياسية من أجل تأمين نجاحها. لقد أدت سياسات تكريس علاقة السلطة بالدولة، الى اضعاف إمكانات قيام الدولة الحديثة، عبر ممارسات المحاصصة والتعبئة الطوائفية، فقضت هذه السياسة على الشعور بالولاء للدولة وأدّت الى غياب كل اشكال الثقة بها. لقد فشل النظام الطوائفي في النهوض بأحد أهم الوظائف الأساسية للنظام السياسي المتمثلة في تشكيل الوحدة انطلاقا من التنوع والأختلاف.
ومع فشل التجربة وانهيار منطق دولة المواطنة، عادت مسألة الهويات لتقض مضجع اللبنانيين ولتدكّ اسس مجتمعهم. فالدولة في حاجة الى ثقافة سياسية موالية تعتبرها اطارا قانونيا وشرعيا. لقد تصاعد صراع الهويات بصورة مفجعة وقامت الطوائف مجددا كإطار مرجعي وحيد، مما دفع الكثير من أبناء المجتمع الذين كانوا عوّدوا انفسهم على فكرة المواطنة اللبنانية، الى اعتناق متجدد لإسلامهم أو مسيحيتهم على حساب الانتماء الى مفهوم الدولة.
المجتمع المتعدد هو مجتمع يتألف من مكوّنات عدة تنسجم في اطار سياسي واحد ودولة موحدة. لكن المشكلة التي تواجه المجتمع اللبناني بوصفه مجتمعا متعدد المكوّنات، هي مشكلة التعايش والتوافق السلمي بين مكوّناته، وغياب السلطة التي تمتلك شرعية الكفاءة والفاعلية نتيجة وقوعها فريسة للمحاصصة في تقاسم مراكز السلطة وبروز الخصوصيات الطائفية بشكل فاجع من خلال سياسة التطييف التي تمارسها “أحزاب الهوية”، مما يقاوم عملية بناء مجتمع سياسي أوسع من الطوائف. كذلك، غياب استراتيجيا نقل التعاضد العصبوي الطائفي الى توافق سياسي من خلال تنمية علاقات اجتماعية قائمة على المصالح المشتركة. فالعلاقات العصبوية الطائفية وقفت عائقا امام نمو العلاقات الإجتماعية والمنتظمات السياسية بين الأفراد بما يتجاوز العلاقات الطائفية.
ان ما يقف عائقا لتجاوز هذه التحديات هو محاولة “أحزاب الهوية” تسويق دعواتها استنادا الى نوع من “الدين السياسي” الذي يرفع شعاراته كـ”لاهوت سياسي إلزامي” يفرضه المتمكنون من السلطة، ويفسرونه بحسب مصالحهم، ويوظفونه كغطاء لإضفاء “المشروعية” على ممارساتهم السلطوية. بناء على هذا، لم يعد ممكنا اعتبار وحدة الإنتماء الوطني اللبناني من باب الحاصل والمجمع عليه، ذلك ان تحديد الهوية السياسية يعدّ احدى كبرى المشكلات المطروحة.
يعود أحد أوجه النزاع القائم الى تضارب المصالح بين “ممثلي” الطوائف على مستوى السلطة، فلم تساهم “شرعنة” الولاء الطائفي في اقامة مجتمع يتسم بقدر من الإنسجام والوحدة، ولم تمكّن من فتح مسار سياسي خالٍ من العنف. بل قاد هذا الى شلل في أجهزة الدولة، وأعاق البناء المؤسساتي، وانتج قوى متطرفة تعاظم دورها في استشراء العنف، مما هدّد الوحدة الصورية الهشة للدولة بالانحلال. فقد عمدت “أحزاب الهوية” الى كل ما يحدث الإنقسام بين مكوّنات المجتمع اللبناني حتى يظهر مجتمع متنازع لا يمكن ان يحكم الا من خلال العلاقات الطائفية. فقد قامت بترسيخ ذلك بواسطة العديد من القواعد الدستورية والممارسات السياسية الطائفية، وذلك من أجل ان تكون هي المنتظمات السياسية الوحيدة. ففي مثل هذه الظروف التي يسود فيها الإنقسام العمودي الطوائفي، يتحول أفراد المجتمع الى كتل بشرية متراصة تنساق وراء زعمائها الدينيين والمدنيين. لقد عملت هذه المكوّنات الطائفية على نقل الإختلافات الدينية – المذهبية، الى عصبية سياسية جوهرانية ونهائية بقصد تأبيد سلطتها، وسطوتها، ومركزيتها الإجتماعية – السياسية. انه نوع من “الإقطاع السياسي”، جلّ عمله ترسيخ ثقافة سياسية في الوسط الإجتماعي مفادها أن الطائفة بنية اجتماعية لها مصالح واحدة. ويقوم هذا الإقطاع بتسويق شعاراته حول الطائفة بوصفها كتلة مصمتة واحدة موحدة الأهداف والمصالح والتطلعات من خلال آليات الممارسة السياسية الطائفية، والتعبئة الطائفية، وتقاسم دوائر مراكز السلطة طبقا لنظام المحاصصة. لكن ما يجري بالفعل هو اختزال مصالح الطائفة في مصالح القيمين عليها، بل يُضحّى بمصالح “الطائفة” في سبيل مصالح المتزعمين عليها. إن قمة التضليل الايديولوجي الذي تمارسه القوى الطائفية هو الدمج المتعمد بين أزمة النظام السياسي وأزمة الدولة، وتالياً الدمج بين شرعية هذا النظام ومنطق الدولة ¶
النهار