لماذا لم يحصل الحزب الشيوعي العراقي على مقعد واحد؟
عبد الحسين شعبان
يحفظ الكثيرون من العراقيين عرباً وكرداً وتركماناً وأشوريين وغيرهم، ومن مختلف الأديان والطوائف، في وجدانهم تقديراً مميزاً للحزب الشيوعي العراقي ونضالاته، وبخاصة في فترة العهد الملكي وضد الاستعمار والمعاهدات المذلّة والمجحفة التي جرت محاولات لفرضها على الشعب العراقي. وقد نشأ الحزب في كنف الوطنية رغم أمميته، الأمر الذي صار بفعله عابراً للطوائف والاثنيات ومدافعاً عن الحقوق والحريات، وقد وجدت الاقليات فيه معبّراً عنها، وإن كان ذلك عنصر قوته لكونه ملتقى للمواطنة والوحدة العراقية المتنوعة، الاّ أنه أصبح أحد نقاط ضعفه أيضاً، لمحاولات البعض التأثير على توجهاته.
لا يوجد حزب يضم الفسيفساء العراقية بكل أطيافها السياسية والقومية والسلالية واللغوية والاجتماعية والدينية والمذهبية مثل الحزب الشيوعي العراقي، ولعله الحزب الوحيد الذي كان عراقياً بامتياز، حسب تعبير وضاح شرارة في التسعينات، فقد كانت بعض الأحزاب تتأسس على أساس قومي (أحادية القومية) أو ديني أو طائفي أو فئوي.
اما الحزب الشيوعي فقد نشأ وترعرع عراقياً ببعد عربي وأفق أممي، وعلى ضفافه نشأت أحزاب يسارية أو ديموقراطية – ليبرالية عراقية، لكنها لم تعمّر طويلاً سواء الحزب الوطني الذي ترأسه محمد جعفر ابو التمن أو “جماعة الاهالي” التي أسسها عبد الفتاح ابرهيم وحسين جميل وعبد القادر اسماعيل ومحمد حديد، وانضم اليها لاحقاً كامل الجادرجي، الذي أسس في ما بعد “الحزب الوطني الديموقراطي”، حيث نشط منذ الاربعينات يوم أجاز وزير الداخلية سعد صالح العام 1946 خمسة أحزاب سياسية، واستمر حتى أواسط الستينات، حين تدهورت الحياة السياسية، وسادت الشمولية وادعاء احتكار الحقيقة على نحو واسع. ونهضت بعض الأحزاب اليسارية مثل “حزب الاتحاد الوطني” (الحزب الجمهوري بعد الثورة) الذي قاده عبد الفتاح ابرهيم وشارك فيه الجواهري الكبير و”حزب الشعب” برئاسة عزيز شريف و”حزب الاستقلال” ذي التوجه العروبي بقيادة محمد مهدي كبه وصدّيق شنشل وفائق السامرائي وآخرين، كما نشأ في مطلع الخمسينات في العراق “حزب البعث” الذي استحوذ على قسم كبير من التيار القومي العربي (لاحقاً)، في حين ظلّ القسم الآخر مع التوجهات الناصرية، مثلما نشأ
“الحزب الديموقراطي الكردستاني” (البارتي) كحزب قومي كردي.
ويعتبر الحزب الشيوعي الحزب المعمّر الأكبر، حيث مضى على تأسيسه أكثر من ثلاثة أرباع قرن من الزمان، وبدأ مشواره في 31 آذار 1934 وعاش كغيره من الأحزاب مرحلة صعود وهبوط، لكنه رغم جميع أخطائه بما فيها موقفه من قرار التقسيم العام 1947، ومن قيام دولة اسرائيل العام 1948، وفي ما بعد محاولاته الاستيلاء على الشارع بعد ثورة 14 تموز العام 1958 وعزل القوى الوطنية الأخرى، لاسيما خلال فترة “المد الأحمر” وما ارتكبه من عسف وارهاب في الموصل وكركوك، وغيرها، الاّ أنه ظلّ يحظى بثقة الجماهير وحبّها، لا سيما لتضحياته الكبيرة ووطنيته وتفانيه ونزاهة قياداته وكوادره بشكل عام، لكن مثل هذا الميل الشعبي بدأ ينصرف عنه، ليصبّ في اتجاهات أخرى. وإذا كان للقمع الذي تعرّض له، وبخاصة العام 1963 بعد انقلاب 8 شباط واعدام الكثير من قادته وتصفية الكثير من كوادره، وكذلك بعد انفضاض الجبهة الوطنية مع حزب البعث العام 1978-1979 وما تبعه من حملات ارهابية لقمعه وتحديد العام 1980 موعداً لاجتثاثه وهو ما اضطر أعداداً غفيرة من مناضليه للهجرة الى الخارج، الأمر الذي قد يكون سبباً في تقليص نفوذه واضعاف مكانته وتحجيم دوره، الاّ أن ثمة أسباب أخرى تتعلق بنهجه وممارساته.
لعل مناسبة هذا الحديث المفارقة التي حصلت عند انتخابات مجالس المحافظات، حيث لم يحصل الحزب على مقعد واحد، الأمر الذي هو بحاجة الى وقفة جديّة للمراجعة وإعادة النظر في الكثير من مواقفه وسياساته. ففي الثمانينات اتخذ الحزب مواقف مائعة في الحرب العراقية- الايرانية، تم تفسيرها باعتبارها ممالئة للايرانيين وليس في معزل عن مواقف الحركة الكردية آنذاك، لاسيما بتأخير شعار وقف الحرب وتقديم شعار اطاحة الدكتاتورية، وهو ما أثار صراعاً حاداً داخل أوساطه، وكذلك ما بعد ضرب العراق بسبب غزو قوات النظام السابق للكويت وما ترتب عليه من استحقاقات، بما فيها فرض نظام العقوبات الدولي والحصار الجائر الذي استمر 13 عاماً، ولم تكن مواقف ” إدارة” الحزب من هذه القضية حاسمة فقد ظلّت تراوح عند تقديم شعار الاطاحة على شعار انهاء الحصار، الأمر الذي أثار التباسات وتشوشات حول جوانب فكرية وانسانية تتعلق بمنهجه وسياساته، وإن كان عاد لرفع شعارات تندد بالحصار وتدعو الى انهائه، لكن بعض دعواته كانت خافتة ونبرتها واطئة.
منذ نحو ربع قرن ابتعدت عن العمل الحزبي ووضعت مسافة مع التيارات والكتل الشيوعية الأخرى لاحقاً، حيث اعتبرت نفسي ماركسياً مستقلاً وخارج نطاق الصراع بين الفرقاء، وهو ما جعلني أتصرف بحرية إزاء أصدقاء ورفاق ما زالوا يعملون مع الحزب والفرق المنشقة عنه، وهو ما دفعني الى كتابة رسالة قبيل احتلال العراق، ما زلت أحتفظ بها حرصاً على كيانية الحزب ومستقبله موجهة الى الرفيق الامين العام حميد مجيد موسى واللجنة المركزية “القيادية”، تطلب منه عدم الانخراط في مشروع احتلال العراق وتشجّعه وقيادة الحزب على اتخاذ موقف واضح وحازم، بأن الحرب حتى لو أدت الى تغيير النظام واطاحة صدام حسين، فنحن سنكون ضدها، وهو موقف استحسنته في حينها بغض النظر عن مسؤولية النظام الديكتاتوري في ما وصلت أوضاع البلاد، ووضعت عدداً من النقاط أقرب الى برنامج كامل لاعتماده، تساوقاً مع ذلك التوجّه الذي ورد عبر تصريح للامين العام.
وبعيداً عن تداعيات الصراع الداخلي وتصفية حسابات وكيديات وانتقام وردود فعل خاطئة، بعضها ذهب الى حد المصالحة مع النظام وتخفيف ساحته، ولكنه في الوقت نفسه استمر في هجومه ضد قيادة الحزب ورفاق الأمس، الذين لم يدّخروا وسعاً في طرد وفصل واتهام كل من له رأي، أو لا يروق لهم، لا سيما في ظل مراكز قوى واستقواء بجهات خارجية ووضع أموال وامكانات تحت تصرفات محددة، مع استمرار النهج الخاطئ بشأن ما سمي الكفاح المسلح والتحالفات والتخبط في الحرب العراقية- الايرانية والحصار الدولي، الأمر الذي أضعف من روح “الوطنية العراقية” التي كانت أحد أبرز سمات الحركة الشيوعية العراقية، وهو ما دفع الكثير من الجهات الى استصغار شأنه والتعامل معه من موقع أدنى وكقوة هامشية.
ولعل الأمر الأكثر من ذلك، هو قبول صيغة بول بريمر للتقاسم المذهبي والطائفي والانخراط فيها وتبرير قيامها، بما يتعارض مع منهجه، ولا سيما النظرية الماركسية – الوضعية النقدية، وكان دخول العملية السياسية واحداً من الاجتهادات الخاطئة التي توازي حسب تقديري جميع أخطاء الحزب السابقة، بل وتتفوق عليها، ولا أريد هنا المزاودة على أحد، فثمة طرق أخرى غير قبول منطق الاحتلال والحماسة لتوقيع الاتفاقية العراقية- الاميركية.
ولعلي في حوارات مع أصدقاء من الحزب الشيوعي، كنت أتفهم بواقعية الضغوط التي يتعرض لها، لكنني لم أستطع أن أهضم أو أبرر مهما كانت المزاعم موضوع التعاون مع الاحتلال. وفي أحد الحوارات مع رفيق وصديق شيوعي قيادي من موقع آخر، قلت له أنا لا أدعو الحزب الشيوعي ليحمل السلاح في وجه الاحتلال، فذلك في الوقت الحاضر فوق طاقاته وامكاناته، ولكن يكفيه أن ينسحب من العملية السياسية بعد تجربة فاشلة ومريرة وتحالفات خاطئة مريبة، وأن يعلن أنه مع مقاومة الاحتلال سلماً ويرفض الاتفاقية المجحفة والمذلّة، مثلما رفض جميع الاتفاقات الاسترقاقية، كما كان يسميها أيام العهد الملكي، فضلاً عن رفضه ومقاومته حلف بغداد.
كما أن موافقته على دستور يحتوي الكثير من الألغام، فضلاً عن نكهة طائفية ودينية، فيه خطأ كبير، مع أنني من الذين نظروا بواقعية الى الدستور، لا سيما القضايا الايجابية التي دونها في باب الحقوق والحريات والمواطنة ومبادئ المساواة واحترام حقوق الانسان، لكنه من جهة أخرى احتوى على نواقص وثغرات الى درجة أنها تشطب بعض المبادئ الايجابية التي سطّرها، والتي سيكون لا معنى لها بعد تعويمها.
أستطيع أن أقول إن هذه الأسباب الفكرية والسياسية هي التي وقفت أمام اختيار الناخب لمرشحي حزب وطني عراقي عريق وذي تاريخ مشرّف رغم جميع الاخطاء والنواقص، ومثلها هناك أسباب تنظيمية، هي علاقاته الداخلية وتعامله مع قياداته السابقة ورموزه الوطنية، فبمجرد الاختلاف نزلت على رؤسهم التهم والشتائم والنعوت، وكأنهم لم يكونوا حتى وقت قريب ” قادة تاريخيين” كما تتم تسميتهم، مع أنني اعتبرهم ومعهم الآخرين ادارات حزبية ليس الاّ.
اعتقد أن رسالة الانتخابات لا ينبغي أن تمرّ دون مراجعة جدية وجريئة، وأتحدث هنا من موقع الصديق والحريص بعيداً عن الاتهام والتخوين، وليس لدي أية اغراض خاصة أو علاقة بالماضي، رغم اعتزازي به، فلا بدّ من الاعتراف بالتقصير وإن جاء متأخراً، كما لا بدّ من الاعتراف بالازمة التي يعاني منها الحزب منذ سنوات طويلة، ولعل بعضها أزمة قراءة للماركسية في السابق والحاضر، وهي أزمة موضوعية وذاتية شاملة، لاسيما بوصول التجارب جميعها الى طريق مسدود، فضلاً عن عدم دراسة الوضع العربي الاجتماعي والتاريخي والديني والنفسي، بما فيه من مكوّنات، على نحو مفتوح وبعيداً عن الكليشيهات المسطّحة التي ترد أحياناً في غير سياقها.
كما ينبغي الاعتراف أنها أزمة سلوك وضعف في التأهيل القيادي والشخصي، لاسيما إزاء الآخر، وهي تتعلق بالموقف من السلطة، وبخاصة القرب والبعد منها، وهذه مسألة معقدة بحاجة الى دراسة مستقلة منذ 14 تموز العام 1958 وحتى الآن، ثم لماذا انفضت عنه كتلة فاعلة من المثقفين والفنانين والاعلاميين والادباء، وكأنهم فائض عن الحاجة!؟
أنا أسأل شخصياً الرفيق حميد مجيد موسى وقيادة الحزب، لماذا لم ينل أي مرشح نسبة أصوات تؤهله للوصول الى مجالس المحافظات؟! وإذا أمكن الجواب باقتناع فسيكون الحزب قد بلغ طريقه الى دراسة الأزمة بجميع أبعادها، وإن لم يحصل ذلك، فقد يتطلب الأمر جرأة بالمبادرة الى تقديم استقالتهم فردياً أو جماعياً والرجوع الى قاعدة الحزب، عسى أن تجد من هو أجدر بالمهمة!! أقول ذلك دون غمط حق أحد أو التجاوز على دوره النضالي أو التدخل في شأن داخلي، فذلك واحد من الهموم الوطنية العامة!!
(كاتب عراقي)