وصاية فوق وصاية!
سليمان تقي الدين
الإطار العام للتفاهم السوري السعودي في لبنان تبلور واقعياً. إذا تأخر إخراج صيغة التفاهم فهناك الكثير من التفاصيل وموضوعات إقليمية أخرى.
بعد خروج القوات السورية من لبنان انفردت المملكة العربية السعودية عبر حلفائها في محاولة صياغة السلطة السياسية. باسم الأكثرية النيابية لانتخابات 2005 شهدنا مرحلة من الانفراد بالسلطة والسعي إلى إزالة نفوذ سوريا. في 7 أيار الذي انتج «اتفاق الدوحة» انكسر هذا المشروع ونالت الأقلية النيابية شراكة قادرة على ممارسة حق النقض. في 7 حزيران 2009 تم الرد السياسي الشامل عبر الانتخابات وأعادت الأكثرية النيابية تجديد شرعيتها وصارت أقدر على رفض الثلث المعطل.
استعادت المملكة السعودية أرجحيتها داخل النظام السياسي وأكدت ان تيارها السياسي الطائفي هو المرجعية الأساس. المعارضة انكفأت إلى موقع دفاعي بعد خسارة الانتخابات وهي تراهن على قاعدة المشاركة الضرورية ولو من خلال التفاهمات السياسية وليس من خلال حصة التمثيل. عملياً، تبحث المعارضة عن تجسيد القوة التي تمثلها في السياستين الدفاعية والخارجية من موقع المقاومة، لكنها تدرك أن السلاح لا يمكن في المدى المنظور استخدامه في الخارج أو الداخل في ظل مناخات إقليمية سائرة إلى التهدئة والتسويات. أما سوريا فرصيدها ثابت من خلال
المصالح اللبنانية الشاملة مع سوريا والجغرافيا التي تحكم الاستقرار الاقتصادي والأمني والسياسي.
هذه المعادلة بين النفوذين السعودي والسوري هي التي تنعقد عندها العلاقات وتعاد صياغة الشراكة التي كانت بعد «الطائف» ولو مع بعض التعديلات. لكن الحاجة السعودية إلى استثمار رصيدها اللبناني بتثبيت نتائج الانتخابات والامساك بالقرار السياسي الشرعي تصطدم بمطالب أميركية في الإطار الإقليمي.
هناك اليوم انتشار سياسي أميركي في المنطقة على أعلى المستويات بهدف استدراج المزيد من التنازلات العربية تسهيلاً لمهمة الرئيس الأميركي في الضغط على إسرائيل لانضاج حل الدولتين. والمطلوب الآن أن يجد العرب أنفسهم الحلول لمسألة اللاجئين الفلسطينيين عبر التوطين بصورة أساسية، وتقديم بوادر حسن النية لإسرائيل عبر توسيع حركة التطبيع لطمأنتها عبر أشكال من التعاون العربي في مواجهة إيران.
هذه المطالب تجد استجابة كبيرة في مصر التي تسعى إلى امتلاك صواريخ بعيدة المدى في وجه إيران، والسماح لإسرائيل أن تعبر غواصاتها السويس إلى مناورات البحر الأحمر، وتقدم المبادرات لترتيب الوضع الفلسطيني بما يلغي شرعية «حماس» ودعم موقف السلطة في استعادة «غزة».
وإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) قدم تنازلاً لفظياً في حل الدولتين مع كل الاشتراطات التي تفرغه من مضمونه، فإنه يسعى إلى أخذ تسهيلات عربية لحركة الطيران الحربي في الأجواء العربية إذا ما تقرر توجيه الضربة العسكية لإيران. ومن اللافت ان نائب الرئيس الأميركي (بايدن) قد أعاد الاعتبار لمثل هذا الخيار. ان الجناح الذي يمثله (بايدن) في الإدارة الأميركية ما زال يدفع باتجاه التشدد. هو يهدد بامكان فتح جبهات حربية عدة ويعلن الاستعداد لعودة نشر القوات في العراق إذا اقتضى الأمر، وهو صاحب فكرة تقسيم العراق إلى دول ثلاث.
في جميع الأحوال، لم ينسحب الأميركيون من مشروع إعادة تشكيل المنطقة. ليس مشهد الوصاية الذي نحن فيه إلا صورة مصغّرة عن وصاية دولية أكبر على المنطقة كلها. ولا يمكن عزل ظواهر التفلّت والانفكاك عن مقتضيات العروبة أمام هذه التحديات طالما أن النظام الرسمي العربي صار مندمجاً إلى حد بعيد بالسياسة الأميركية ومن خلفها إسرائيل. لقد صار تحسين العلاقات العربية العربية مشروطاً بالخضوع للسقف الأميركي وكأن الذي يحاول تحسين الشروط بشيء من الممانعة يجب أن يُعزل. لم يعد يشفع للعلاقات المصرية السورية كل تراث النضال المشترك ولا ذاك القرار الخطير الذي اتخذته مصر بالتخلي عن شريكها في حرب تشرين لتتركه يواجه الاستكبار الإسرائيلي منفرداً. وإذا كانت سوريا قد سعت إلى إيجاد سند إقليمي يدعم موقفها، لأنها لم تقرر التخلي عن القضية الفلسطينية، فهي التي يجب أن تعاقب. فإذا كانت حال العرب هكذا فالانعزال اللبناني فطريات تنمو على هذا الجسد المريض. تحولت العروبة الى ممسحة لوسخ الوطنية. صارت صفة نطلــقها ونضــمر بها أولئك اللاهثين وراء مصالحة إسـرائيل.
أخرجت سوريا نفسها من العروبة ومعها أكثر من نصف الشعب اللبناني وصار التعامل معها «مصيبة» و«عثرة» والمصالحة معها والافادة من تسهيلها الحلول للمشكلات هما المصدر الوحيد لانتقاص السيادة. تهدد إسرائيل كل يوم لبنان وتشترط عليه شكل حكومته، يأتي (بايدن) ويوجه الانتخابات. يأتي (بترايوس) ليدس الدسائس ويحرض على الفتنة. يتحرك (فيلتمان) ويتهم نصف الشعب اللبناني بالإرهاب ويحرض على سلاح المقاومة، كل هذا يصب في دعم السيادة و«لبنان أولاً». لقد انتفض السياديون كما كل مرة سابقة لتعطيل حل عربي ترعـــاه المملكــــة التي موّلت مشروعهم السيـــاسي وحضورهم المستعـــاد من فـشلهم السابق الذي أدار حرباً أهلية مدمرة ضد لبنان وضد العـروبة.
نحن في أزمة وصاية فوق وصاية. فقط نحن بلد بلا سقف تفتضح قضاياه ومشاكله. أما العرب الآخرون فيحجبون ضعفهم وتبعيتهم خلف الأسوار وتحت مظلة الأمن ويخدّرون شعوبهم بالفقر والتخلّف ويحشون رؤوسهم بتحديات وهمية لتبرير خضوعهم لأميركا. وكلما تعثّرت محاولات التضامن العربي فتّش عن دور أميركا.
السفير