صفحات العالمما يحدث في لبنان

ديمقراطية بالمقلوب

خليل احمد خليل
يحار الباحث السياسي في تحديد تمايز الديمقراطية من الطائفية في لبنان. فإذا كان من السهل توصيف النظام الاجتماعي بأنه طائفي، عثمانيّ النشأة، فرنسي الدبلجة، لبناني بل عربي القبول مثل كل القبائل التي تقبل جميع أبنائها كما هَمْ، فمن الصعب الكشف عمَّا يسمى “الانتحار”، في قمة السلطة، الناشئ من رحم “الاستقلال” المحوّل محلياً إلى استغلال للحكم، والمتبلور في الخلاف على مَنْ يحكم هذا البلد العنيد؟ رئيس الجمهورية، بلا ثانٍ، أي بلا رئيس وزارة؟ أم رئيس الوزارة، بلا أعلى، أي بلا رئيس جمهورية فعلي؟
إلى ذلك، يصعب ديمقراطياً فهم ممارسة الديمقراطية بالمقلوب، تارة كطائفية سياسية، على خلفية “حرب أهلية” كامنة، وتارة كلاسياسة أو “ماتش صفر  صفر”. ولكن يسهل طائفياً فهم هذه الظاهرة، اللاحكم. في بلد تموتُ فيه السياسة بأيدي لاعبيه أنفسهم، الأيدي التي تحركها من قريب ومن بعيد أيادٍ خفية، عربية وأجنبية، شقيقة وعدوة، فعندما يُصمَّم نظام سياسي لجعل طائفة تنفرد بالحكم، مع استخدام طوائف أخرى عند الحاجة، تبدو السياسة مستحيلة بالمعنى الديمقراطي، اليوناني والغربي، ولتغطية الفشل السياسي، تُضفى الديمقراطية كماركة حديثة، على الطائفية كماركة تقليدية، وتُسمَّى “توافقية”. وهذه أشبه ما تكون ب”قمار المافيا” التي يراهن لاعبوها، وأيديهم على الزناد، على أنْ يربحوا جميعاً، وإلاّ انتحروا أو نحروا بعضهم بعضاً. عرف لبنان، منذ استقلاله، هذه الأشكال من القمار السياسي، سواء في زواريب عاصمته أم في أطرافه القصيّة، حيث تنبت باستمرار “جمهوريّات الطفّار”، التي أخذت تُوصف حديثاً بأنها “مرَّبعات أمنية” أو “خطوط حمراء” أو خارج الدولة. وترَّتب على هذه الواقعة وهم أو رأي عام (يعني أعمى) بأنَّ الناس لا يعيشون في كنف الدولة إلاّ إذا كانت دولتهم هم، لا آخرين. وهكذا، بين الله والذئب، مارس اللبنانيون، منذ استقلالهم في طوائف، سياسة “أنا أعمى ما بشوف، أنا ضرَّاب السيوف”، وسمّوا حروبهم الأهلية بأنها “مؤامرات” أو “حوادث فردّية”. وفوق ذلك، استعانوا بالطائفية، (وفي لبنان لكل طائفة إله خاص) للتغطية على سياساتهم الذئبية. وتكشف الأبحاث الاتيولوجية عن تشابه سلوك بعض البشر وبعض الذئاب، ممن يخافون الاصطفاف في طابور حتى لا ينتش لاحقُهم سابقهم، وأما الأبحاث في الذئبية السياسية (منذ البحتري كلا أنا ذئب، وهو بس، وصولاً إلى الشيطان/ الذئب) فقد بينت أنّ الطاووسية أو النرجسية السياسية لا تستقيم ولا تدوم من دون الارتكاز على “بغلية اجتماعية” أو على ركيزة قطيعية.
لقد انقلبت الديمقراطية اللبنانية على نفسها، بفضل ممارسيها من الزعماء وأزلامهم، وباتت الزعامة الاستزلامية، بكل محركاتها التقليدية والدموية، حقلاً لتجارب عنيفة، ما إن تنتهي في مكان حتى تندلع في مكانٍ آخر، معلنة موت السياسة، مع سلامة السياسيين: “لا غالب ولا مغلوب”، أي “لا أكثر ولا أقل”، أي “لا حاكم ولا محكوم”، رغم ظهور مقولة “لا حكم إلاّ الله”. والحال، يفنى الغنم ويسلم كبارُ الذئاب: في 7/6/،2009 كانت الغنيمة من نصيب خمسة رجال، مدججين بالمال والسلاح والوصايات ووسائل الإعلام، وظهر برلمان فخم بخمس نجوم، يدور بعضهم حول كوكب بعبدا حيث الرئيس بلا جمهور، وربما بلا جمهورية، ويدور بعضهم الآخر حول كواكب أخرى متلألئة من الرياض إلى دمشق، ومن طهران إلى القاهرة، وأيضاً من باريس إلى واشنطن، ولعنة الله على تل أبيب وخلاياها النائمة في لبنان.
إنه شرق الحبر، السيلان الكلامي، شرق الأوهام والأحلام، الذي يشكل لبنان نموذجه الفريد. فالأكثرية البرلمانية التي كانت لإميل إده عام 1943 انتخبت بشارة الخوري، والأكثرية التي كانت للرئيس الخوري الذي سددت له (1949) اقترعت سنة 1952 لصالح المحامي كميل شمعون الذي لا يؤيده سوى 7 نواب، والأكثرية التي فبركها الرئيس شمعون (1957) لكي تجدد له اقترعت للجنرال فؤاد شهاب الخ. وهكذا حال رؤساء الحكومات ومعظم الوزراء الذين غالباً ما يؤتى بهم لملء مراحل الفراغ السياسي التي يتكوَّن منها تاريخ لبنان المعاصر.
والحال، ما جدوى الانتخابات التي لا تُفضي إلى ممارسة الحكم والتخفيف من التعقيدات اللبنانية؟
ما معنى أكثرية تنصرف، بل تتصَّرف كأقلية، وتالياً ما معنى ديمقراطية حين يكون زعماء الطوائف وأزلامهم هم الذين يحكمون دائماً وأبداً بلا مراقبة ولا محاسبة أو معاقبة، 55 مليار دولار ديون. نصفها ناجم من مفسدة الكهرباء، ونصفها الآخر بسبب الوصايات والوكلاء على شعب لبنان. ثلاثون سنة من وزارات الإصلاح الإداري، ولم تصلح إدارة واحدة، لا مدنية ولا أمنية، عنف متنقل في الأفراح والأتراح، في ما قبل الانتخابات وما بعدها. قتلى وجرحى من اللبنانيين يسقطون بلا ذنب اقترفوه سوى إقامتهم في كنف ذئاب، ينتظرون منهم دولة وحكومة.
إلى جانب س/س الإقليمية (سوريا/ السعودية) سينعم لبنان من الآن فصاعداً وس/س محلية (سليمان/ سعد). ويتجدد السؤال: مَنْ يدعي حكم لبنان، ومفهوم الحكم نفسه مقلوب، ومرفوع بالضم إلى الخارج؟ إنها لعبة، وقى الله شعب لبنان من مغبة طيشه السياسي.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى