سدتم وسادت السيادة
سليمان تقي الدين
قال الرجل الفطن رداً على شائعات مغرضة عن تدخل خارجي في تشكيل الحكومة: إن مراسيم تأليف الحكومة ستصدر من بعبدا. ليته قال إنها ستشكل في بيروت عاصمة لبنان الواحد حتى إشعار آخر، لأن ذكر بعبدا قد يوحي لأصحاب النيات السيئة أنها عاصمة المتصرفية وقد يخطر على بالهم داود باشا وبروتوكول 1861 ووصاية الدول الست.
على كل حال كانت المراسيم دائماً تصدر من بعبدا في كل الظروف ولم يتغيّر شيء على هذا الصعيد، إلا الفرامانات السلطانية التي كانت تصدر عن «الباب العالي» بواسطة اسطنبول أو القاهرة أو دمشق أو عكا في صناعة الزعماء من أمراء وباشوات ومشايخ وبكوات وأفندية. والمستجد هو «المشيخة السعودية» التي منحتها المملكة إلى ثلاثة من كاتمي أسرار الجمهورية اللبنانية.
نحن الآن في ذروة العنفوان من إنجازات السيادة فلا يجوز أن نعكّر صفو هذه الحال. اللبنانيون منشرحون وقد ارتفعت أعمدة العرزال السيادي الذي ما زلنا نبنيه منذ عام 1943. لكن من حق الجمهور أن يسأل عن مصدر الوحي الذي هبط على هؤلاء القادة بعد أربع سنوات من التحريض والعداء لسوريا كيف هم صاروا يريدون أفضل العلاقات وأطيبها مع «النظام نفسه» الذي لم يغيّر حرفاً واحداً من أبجديته!؟
لكننا لسنا ممن يعتقدون أن معيار السيادة يستمد من العلاقة مع هذه الدولة أو تلك، في عالم مفتوح ومتداخل ومحكوم بالتأثيرات المتبادلة. القضية الأساس في السيادة هي في قدرة أي دولة على إدارة شؤونها في مصلحة شعبها وتتمتع بالحد الأعلى من الحرية في اتخاذ القرار لهذا الهدف.
منذ عام 1943 نرفع شعارات سيادية لوطن غير موجود لأن دولته لم تقرر ان تكون أداة لسيادته على أرضها وحدودها وبين مواطنيها وفي علاقتها بالخارج. قامت هذه الدولة على فكرة التسويات غير المستقرة مرة مع محيطها القومي ومرة مع سيادة الطوائف المكونة لها ومرة أمام كل قوي طامح. بل هي الدولة التي لم تتعرف إلى نفسها في صورة مواطنيها تتخذ منهم قاعدة لوجودها ويتخذون منها مرجعاً لوجودهم. لذا لم نعرف شعباً تشغله المسألة الوطنية إلى هذا الحد ويزعم أن له أكثر من عيد للاستقلال.
لا نطمح اليوم من الحكومة العتيدة أن تنجز دفعة واحدة المهام السيادية، لكننا نود أن نرى خطوات في الاتجاه الصحيح من خارج التراث الغنائي: «لبنان يا قطعة سما». على الوطنية اللبنانية أن تتعامل مرة مع هذا الكيان «كقطعة على الأرض» لها ما لغيرها من شؤون وشجون ومشكلات تتعلق بعيش مواطنيها الذي هو أحد أسباب تعلقهم بها ودفاعهم عنها، تاركين هوامش كبيرة لهؤلاء البشر أن يتمتعوا بجمالها طبعاً وأن يتباهوا بها ولو كانوا مشتتين في أربع رياح الأرض طلباً للقمة العيش أو الاستقرار أو الحرية أو العلم أو سوى ذلك من نوازع الحياة.
نحن اللبنانيين أصحاب التواريخ الجبلية اصلاً لنا حكاية طويلة مع البحر منذ عهد الفينيقيين. غالباً ما نظرنا إليه كأفق للحرية والتقدم. منذ عشرين سنة جاءنا من يقول إن بواخر ضخمة سترسو على شاطئنا حاملة مولدات الطاقة لتحل لنا مشكلة الكهرباء. كانت تلك أعظم بشرى للصغار والكبار.
تقدمت اليابسة إلى البحر لملاقاة تلك البواخر ولم تجدها بعد. منذ عشرين سنة لبنان يغرق في الكثير من العتمة. هل لنا ان نتحدث عن انزواء الجامعة الوطنية والتعليم الرسمي، وعن القحل والمحل وبوار الزراعة واحتراق الغابات، أم عن الفقر والبطالة والهجرة والمديونية وتمركز الثروة وحرمان المناطق. كيف يحقق لبنان سيادته في دولة ضعيفة تتوزع إقطاعات من أعلى سلطة فيها إلى أصغر منطقة وحي؟ كيف تكون سيادة وقد صارت حياتنا السياسية أسيرة قوى تؤطر وتنظم وتعبئ جماهيرها على الولاء لأولياء النعمة من هذه أو تلك من الدول؟ هذه قوى لا تأتي بسيادة ولا تحمي استقلالاً ولا تبني دولة وتحفظ وطناً، إنها جاليات تستوطن حيث يستطيب لها المناخ ووجود المرعى والماء والكلأ.
الإيجابي الوحيد الآن أننا خرجنا من مرحلة «النكايات» ودخلنا في مرحلة الجد. القادة أنفسهم اقتنعوا أن لا أحد يستطيع أن ينتصر بالمعنى الحقيقي للكلمة طالما أن الجميع بحاجة لمن يأخذ بيدهم إلى المصالحة والتسوية.
الحوارات والمصالحات، لا سيما تلك التي تتم على البساط الأحمدي ويكال فيها المديح المتبادل للطوائف الكريمة، هي دون شك تعبّر عن رغبة صادقة في العيش معاً. تخطّى اللبنانيون الكثير من المحطات السوداء في تاريخهم، بل هم «عقدوا الرايات» وتجاوزوا الجراحات والمجازر. لا يخرج اللبنانيون إلى الفتنة إلا على خوف وتحريض وأوهام يصنعها زعماء لهم لتجديد العصبية. لا يمكن أن يخرج الناس من دائرة النزاعات الأهلية ما لم تتحول الدولة إلى مرجعية الأمن والعدل والخدمة. لا يهم معظم اللبنانيين كيف ستتشكل الحكومة ووفق أية حصص، لأن أحداً لا يلغي أحداً في لبنان، يهمهم أن يستعيدوا حياتهم المسالمة بلا خوف من الفتنة وهم يتدبّرون أمر عيشهم المشترك على أفضل ما يكون…