بايدن والخطاب الاستعماري العائد من الأبواب لا النوافذ
حسن شامي
في ثمانينات القرن التاسع عشر، في معرض امتداحه مأثرة فردينان دولسبس في شق قناة السويس، اعتبر المستشرق الفرنسي الذائع الصيت بجاذبية أسلوبه وأحكامه الرسولية، أي أرنست رينان، أنه عندما يكون موقف بلد ما استراتيجياً الى هذا الحدّ الكبير، كما هي حال مصر قبل الاحتلال الإنكليزي وبعده، وعندما تنعقد على هذا الموقع رهانات مصالح كبرى تتعلق بالتجارة الدولية، ومعها بالطبع انتشار التقدم العلمي وأنوار العقلانية، فإنه ينبغي التضحية بالمبدأ الوطني (أو القومي إذا شئتم)، بل حتى يتوجب أن يقتل هذا المبدأ من أجل خدمة الإنسانية. عندما قال رينان وكتب هذا، كانت هذه البقرة المجنّحة والحلوب، أي فكرة الإنسانية، لا تنفصل، في عرف رينان ومن هم على شاكلته، ليس فحسب عن النزعة المركزية الأوروبية والقوية الصريحة والدعوية، بل كذلك وخصوصاً عن جملة الشروط التاريخية للتوسع الاستعماري.
بعبارة أخرى، ما كان رينان يستوجب موته في مصر انما هو مجرد الاعتراض الصادر عن دوائر مصرية مختلفة، بما في ذلك الخديوي إسماعيل وبعض كبار وزرائه الموصوفين حرفياً بأنهم أوروبيون، مثل نوبار باشا الذي وصف هو وولي نعمته امتيازات الشركة المشرفة على القناة بأنها «دولة داخل الدولة»، ناهيك عن تبلّر الفكرة الوطنية المصرية والتباساتها، خلال ثورة أحمد عرابي وارتفاع شعار «مصر للمصريين». غني عن القول ربما ان رينان ينتمي الى مدرسة فكرية لا تسعفها أنوار العقل كثيراًَ في احتمال الفصل بين الفكرة الإنسانية وما تنطوي عليه من حثّ الثقافات والمجتمعات الكثيرة والمختلفة على الانفتاح على بعضها بعضاً، وبين تحققها في سياسات وشروط أكثر انسانية وأقل تطابقاً مع منطق المقاولة الاستعمارية.
نعلم أنه حصلت سلسلة من القطائع والانقلابات المعرفية في أوروبا والغرب، مصحوبة بحراك سياسي واجتماعي وثقافي، نقدي واحتجاجي، أتاح المجال لمقاربات وقراءات أخرى للفكرة الإنسانية نفسها وإمكانات تحققها عالمياً في شروط أكثر إنسانية. ولا حاجة، ها هنا، لتقديم الشواهد والأمثلة، فهي مقيمة في جملة الإنتاج المعرفي والفكري ومناظراته الكبيرة على امتداد القرن العشرين، بالأحرى حتى سقوط جدار برلين وانهيار الإمبراطورية السوفياتية. وكما يحصل مع حوادث التاريخ الكبيرة، تنتعش مقولات وتصورات تزعم التأسيس والبناء على حمولة الحدث وتبعاته. هكذا تلقفت أقلام وألسنة نهاية الحرب الباردة لتجعلها مناسبة لبشارة عالمية تعلن نهاية كل شيء تقريباً: نهاية التاريخ ونهاية الإيديولوجيات. صار أمراً شائعاً أن تختلط الوجوه بالأقنعة. فإذا كانت مقولة نهاية التاريخ هي الأكثر قابلية في حد ذاتها للتأريخ ومنطقه، فإن مقولة نهاية الإيديولوجيات، والمقصود بها في الحقيقة نهاية «الطوباويات» ومخزونها الاحتجاجي والنقدي، هي بالتأكيد أكثر المقولات أدلجة، في المعنى الأولي لكلمة ايديولوجيا، أي كبناء من التصورات الكاذبة والمزيفة عن واقع أكثر تعقيداً وتركيباً، وأكثر احتياجاً بالتالي لمقاربات أخرى.
يرمي هذا الاستعراض لبعض الخطوط العريضة للعقيدة الزاحفة الى القول بأن مدرسة أرنست رينان، الاستعمارية على نحو صريح ودعوي، مزدهرة في هذه الأيام، بل حتى مرشحة للمزيد من الازدهار، وإذا كان من الجائز أن يتولد لدينا الانطباع اليوم بأننا غادرنا حقبة ما بعد الحرب الثانية ونزع الاستعمار وتعزيز الاستقلالات والسيادات الوطنية، وأصبحنا في القرن التاسع عشر، في نسخته الرينانية، فإنه من العبث الظن بأن هذه العودة لم تعرف مستجدات وتحولات وتقلبات. وفي مقدم هذه نجد تزايد الأقنعة وتزايد التفنن في صناعتها وترويجها. وقد نجد في هذا التفنن بعض التفسير لمفارقة بليغة في حداثتها وهي أنه بقدر ما يترسخ اعتقاد مستهلكي الصور والأطباء بحيازتهم على أكبر قدر ممكن من المعلومات والمعطيات بقدر ما تزداد امكانيات التلاعب بمداركهم وآرائهم وقولبتها بحسب الحاجة.
فالحدث الفعلي ليس ما يحدث ويتخلل حياة بشر في مجتمع أو منطقة، بل هو ما يصنعه الإعلام، ما يستهدفه عبر ضخ الصور والتصريحات والإشاعات. ينبغي في هذا السياق أن نضع تصريح نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن حول احتمال مهاجمة إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية. فقد قال بايدن لقناة «أي بي سي» (بحسب جريدة «الحياة» في 7 تموز/ يوليو الجاري): «إذا قررت حكومة نتانياهو خطة تحرك مخالفة للخطة المتبعة حالياً، فهذا حقها السيادي. وهذا أمر لا دخل لنا فيه. لا يمكننا أن نملي على دولة أخرى ذات سيادة ما بإمكانها فعله أو عدم فعله حين تقرر، إذا قررت، أن وجودها مهدد». قد لا يكون كلام بايدن زلة لسان أو مجاملة اعلامية أو حتى حماقة في التعبير، وان بدا متعارضاً مع توجهات الرئيس الأميركي أوباما الداعية الى الحوار مع النظام الإيراني، أياً يكن ممثله، ومع موقف رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة مايكل مولن الذي عبّر عن قلقه حيال توجيه ضربة لإيران لأنها يمكن أن تتسبب بزعزعة الاستقرار في المنطقة كما من المستحيل التكهن بعواقبها. موقف بايدن الذي ينبغي النظر فيه ملياً يعكس على الأرجح رأي فريق في الإدارة الحالية، وهو فريق يشرب مع المتنفذ السابق جون بولتون، الذي رأى قبل أيام أنه حان الوقت كي تقوم إسرائيل بضرب إيران، ماء غمامة اسرائيلية واحدة. الخطير في كلام بايدن لا يقتصر على الحض غير المباشر على توجيه الضربة، بل في تسويغه لها بالقول برعونة لا تصدق، بأنها تملك الحق السيادي في ذلك، أي في احتمال إشعال منطقة تمتلك فيها الولايات المتحدة مصالح ضخمة. ويعني هذا ان هناك دولة سيدة واحدة في المنطقة، هي إسرائيل. حتى تركيا لا تمتلك هذه المواصفات إذا أخذنا في الاعتبار الضغط الذي تمارسه أميركا كلما توغلت القوات التركية في كردستان العراق لضرب معاقل حزب العمال الكردستاني. القاعدة التي يعمل على تثبيتها بايدن ومن يفكرون مثله هي ان اسرائيل وحدها، ودون سائر دول المنطقة، تمتلك نصاباً وطنياً سيادياً ناجزاً يجيز لها أن تقرر ما يناسبها. وإذا دفعنا هذا الخطاب ومنظاره الاستعماري الواضح، الى نهايته المنطقية، نصل الى خلاصة فاقعة الدلالة: ليس هناك دول في المنطقة، باستثناء الدولة العبرية التي تمتلك وجهاً، فيما الدول الأخرى أشباه دول أو بالأحرى أقنعة يمكن تبديلها كلما اقتضى الأمر. لقد تحولت الاحتجاجات الإيرانية، الشرعية في حد ذاتها، على الانتخابات الأخيرة، الى سوبر حدث، فيما مر مقتل 13 فلسطينياً من عرب 1948 أثناء تظاهرة احتجاجية في اسرائيل مرور الكرام، قبل عامين أو ثلاثة، العقلية الاستعمارية عائدة من الأبواب، وفيها وجوه وأقنعة. فليتحسس كل واحد وجهه.
الحياة