صفحات العالم

حروب المياه الصامتة في المنطقة العربية

سليمان الشيخ
صيف كل عام، وعندما تأخذ درجات الحرارة بالارتفاع، خصوصاً في الأعوام الأخيرة التي أخذ يشح فيها المطر، وتقل نسبة جريان المياه في الأنهار، فإن شكوى السكان في منطقة بلاد الشام والعراق تأخذ بالارتفاع، حيث تبور مواسم زراعية كثيرة، وينتشر الجفاف والعطش وتنفق حيوانات وطيور، كما وتشهد أبواب الحكومات وفودا عديدة من السكان، تأتي لتطالب بحصتها من المياه، وأحيانا من الكهرباء، وتقف الحكومات عاجزة في كثير من الحالات، لأن الكوارث تأتي أحياناً أكبر من كل إمكاناتها، مع أنها وفي سنوات عديدة تكون قد أجرت حساباتها، وراجعت الدول المجاورة التي تتحكم بجريان الأنهار الدولية والعابرة للحدود، ويكون قد تم الاتفاق على هذه النسبة أو تلك من إنفاذ كميات معينة من المياه في مجاري الأنهار دائمة الجريان منذ أزمان سحيقة.
مع ذلك فإنه، ونتيجة لشح مياه الأمطار في بعض المواسم، وعدم التزام دول منابع الأنهار بإنفاذ النسب المتفق عليها، غالباً ما يؤدي ذلك إلى كوارث وبوار مواسم زراعية وصناعية كثيرة، ويرتب تشريدا للسكان في المناطق المتضررة، ومجاعات قد تودي بعشرات، إن لم يكن بمئات الضحايا من البشر والحيوانات والطيور والأسماك وغيرها.
ومع أن منتدى المياه العالمي الخامس، الذي انعقد في مدينة استانبول التاريخية التركية، وحضرته على المستوى الوزاري نحو 50 دولة من مختلف أنحاء العالم، ناقش في آذار/مارس من هذا العام قضية المياه في العالم، وبيّن احتياجات بعض الدول المهمة والأساسية للمياه، إلاّ أن اختلافا بيّنا وواضحا ساد بين اتجاهين في المنتدى، الأول: اعتبر أن الوصول إلى المياه والحصول عليها حق من حقوق الإنسان، وأن هذا الحق هو الذي يحكم جميع الحقوق الأخرى. الثاني: اعتبر أن الوصول إلى مياه الشرب، وإيجاد نظام مناسب للصرف الصحي، ما هما إلاّ حاجة إنسانية جوهرية، عوضا عن نص “الحق” الوارد ذكره من قبل. علما أن قوانين للمياه عدة، ومن خلال مؤتمرات لخبراء قانونيين عالميين كثر ومنذ أزمان مختلفة، ثبتت حقوق وشرعية حصول الدول التي تمر أو تصب فيها أنهار من خارج حدودها، وبينت تفصيليا كميات المياه ونوعيتها ونسب تدفقها التي يمكن الحصول عليها، ومن بينها بلدان عربية عدة.
كما أن اجتماعات عدة وفي أزمان مختلفة عقدت بين مسؤولين وخبراء في حكومات متعاقبة من تركيا وإيران مع أمثالهم من سوريا والعراق، كذلك بين مسئولين من سوريا والأردن، أو بين الأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، وذلك لتقاسم نسب المياه من الأنهار الجارية فيها أو العابرة لحدودها، أو المشاطئة لها. مع ذلك فإن مشاكل وخلافات ما زالت تبرز بين فترة وأخرى، وبين موسم وآخر حول الكثير مما يتعلق بمادة الحياة الأساس: المياه.
على سبيل المثال: الأردن، وهو من أفقر عشر دول في العالم في المياه، اتفق مع إسرائيل عام 1994 ـ اتفاق وادي عربة ـ على حجز نحو 20 مليون متر مكعب من المياه في موسم الشتاء في بحيرة طبرية، على أن يستردها في أشهر الصيف. رغم ذلك فإن مدينة عمان وحدها تحتاج إلى ضعف الكمية المشار إليها خلال تلك الأشهر. لذلك فإن الأردن ما زال يبحث عن مصادر أخرى للمياه، ومن بينها محاولة جر المياه الجوفية من منطقة “الديسي” الواقعة في جنوبه. كما أن نهر اليرموك والذي تم بناء سد الوحدة على مجراه الفاصل بين سوريا والأردن، ما زال يكتنف تقاسم مياهه بعض المشكلات بين البلدين. وحتى مياه نهر الأردن وروافده وفروعه العديدة، والتي تصب في بحيرة طبرية، ومن المفترض أن تستأنف تدفقها بعد ذلك لتلتقي بمياه نهر اليرموك وعدة أنهار صغيرة أخرى لتصب في البحر الميت. إن تلك المياه وخصوصاً التي تصل إلى بحيرة طبرية، تم تحويل أغلبها إلى الساحل الفلسطيني المحتل وإلى منطقة النقب. لذلك وحسب مشاهدة بالعين المجردة وبالقرب من جسر الملك حسين ـ اللنبي سابقا ـ لم يبق من مياه في مجرى نهر الأردن إلا ساقية محدودة المياه ومالحة لتصب في البحر الميت الذي يشهد تناقصا في مياهه وفي طوله وعرضه، قد يعرضه للاختفاء بعد نحو خمسين عاما، إذا ما استمر الأمر على هذا الحال. علما أن تدفقات المياه في نهري الأردن واليرموك قد تدنت إلى أقل من النصف عما كان عليه الحال في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وفي سوريا والعراق.. ومصر أيضاً
نشير في هذا المجال ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أن محافظة الحسكة الواقعة في شمال شرق سوريا، شهدت موسماً شحيحاً في مطره، وتدفقاً متدنياً من مياه نهر الفرات الوارد إليها من تركيا هذا العام، ما أورث بواراً وقحطاً في الأراضي، وعطشاً للسكان والحيوانات غير مسبوق، ما اضطر آلاف الأسر من سكان المنطقة للنزوح والتشريد واللجوء إلى أماكن أخرى في سوريا. كما أن السلطات السورية وبالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي بادرا إلى توزيع مساعدات غذائية على من بقي من السكان في المنطقة. أما العراق فقد تميز واقعه المائي ببروز ظواهر سلبية عدة، بينها شح المواسم المطرية هذا العام والأعوام السابقة، ما أدى إلى ازدياد معدلات ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة معدلات هبوب العواصف الرملية ـ الطوز ـ ما حدّ من الرؤية حتى للأشياء القريبة، وزاد من الحوادث والاصطدامات الخطيرة وتفشي أمراض الربو والقصبات الهوائية وغيرها.
وعلى الرغم من الاجتماعات المتكررة، والاتفاقات المعقودة بين مسؤولي المياه في تركيا ـ بلد منبع نهري دجلة والفرات ـ وغيرهم من المسؤولين في سوريا والعراق، مع ذلك فإن سوريا والعراق شهدا تدهوراً في كميات المياه الواصلة إلى أراضيهما من النهرين. إذ أن مستوى تدفق المياه الواصل للعراق من نهر الفرات على سبيل المثال في الشهر الماضي وفي أيام عدة من هذا الشهر كانت نحو 230 متراً مكعباً في الثانية، علما أن العراق يحتاج إلى نحو 700 متر مكعب في الثانية. إلاّ أنه وبعد مراجعات مع مسؤولين أتراك، فإن السلطات المائية التركية زادت التدفق إلى نحو 360 متراً مكعباً، ثم عادت وزادت الكمية بعد مراجعات ملحة إلى نحو 500 متر مكعب في الثانية، لتفيد مصادر نيابية عراقية إلى أن الزيادة المشار إليها عادت إلى التراجع نحو مستويات سابقة بعد أيام قليلة، ما أدى إلى بوار مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وإلى بروز مشاكل أخرى لدى مربي الأسماك، وتدني الإنتاج من الثروة السمكية. ومع أن وزير الري السوري نادر البني أعلن أن بلاده ستزيد كميات المياه الدولية في نهر الفرات باتجاه العراق بنسبة تزيد على حصته المقررة بـ58 بالمائة، فإن المشكلة ما زالت قائمة ـ شح المياه في البلدين ـ وكان لافتا تدفق أعداد كبيرة من الحيّات المخيفة والطويلة ـ تراوحت أطوالها بين مترين وأربعة أمتار ـ إلى مناطق في أهوار جنوب العراق، وذلك نتيجة الحرارة العالية في المنطقة، وشح المياه في مجاري الأهوار.
وكان مدير عام المركز الوطني لإدارة الموارد المائية في العراق عون ذياب عبدالله ” قد ذكر أن مستوى تدفق المياه من إيران قد تدنى (هناك عدة أنهار تنبع من إيران وتصب في نهر دجلة، أو في الجنوب العراقي) إثر تغيير مجرى نهر الكارون الذي يصب في شط العرب ونهر الكرخ الذي يغذي هور الحويزة الواقع بين إيران ومحافظتي ميسان والبصرة في العراق. وأضاف المسؤول العراقي: وكما شيدت إيران سدودا، كما فعلت تركيا أيضا على روافد دجلة، ما أدى إلى انخفاض منسوب المياه في مجرى نهر الزاب الأعلى القادم من إيران (الحياة 20/5/2009).
وهنا علينا عدم إغفال ما تركته دبابات الحلفاء والحروب التي حدثت في العراق من أثر على التربة العراقية وما أصابها من تخريب وأضرار. وقد ذكرت السيدة نرمين عثمان وزيرة البيئة العراقية: “أن التهشم الجيولوجي للصحراء وتربتها وطبقاتها، بأثر من زحف الدبابات الأميركية ـ وغيرها ـ يحتاج إلى سنوات طويلة كي تتماسك تلك الطبقات مجددا” (الحياة 12/6/2009). ويمكن الإشارة إلى أن مواسم الشحائح المطرية وما تتركه من نقص في منسوب كميات المياه الجارية في نهر النيل والتغييرات المناخية، ومحاولات التلاعب بأركيولوجيا النهر وتدفقات مياهه. كل ذلك وغيره من أسباب أخذت في إضفاء سلبيات على علاقات مصر بدول حوض النهر، خصوصا بعد بناء سدود من دون التشاور بين دوله. لكل تلك الأسباب والوقائع وغيرها، وما يمكن أن يتطور منها لجهة المزيد من السوء والأذى، فإن الأسوأ والأخطر من التطورات لا شك قادم!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى