بحثاً عن نقطة اختراق في مشهد إقليمي معقّد
حسن نافعة *
دخلت التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط مرحلة معقدة يصعب معها تحديد الوجهة التي ستتخذها الأحداث في الفترة المقبلة. لذا تبدو المنطقة وكأنها تمر بمرحلة انتقالية لا أحد يعرف إلى أين تفضي حيث تبدو الأطراف الأكثر تأثيراً على أوضاع المنطقة وكأنها ما تزال تبحث لنفسها عن بوصلة تحدد لها خريطة طريق جديدة أكثر قدرة على التعامل مع معطيات عالمية وإقليمية مستجدة لم تعد الخرائط القديمة تصلح للتعامل معها. ولأن الأوضاع في المراحل الانتقالية هي بطبيعتها غير قابلة للدوام، فليس من المستبعد أن تسعى أطراف لم يعد بوسعها الصبر طويلاً على حال عدم اليقين الراهنة وتخشى من العواقب المحتملة لاستمرار تلك الحال إلى القيام بمبادرات منفردة لإجبار الأطراف الأخرى على حسم خياراتها وإعادة تقييم مواقفها على أساس أمر واقع جديد. وحين تصل التفاعلات إلى هذه النقطة ستصبح المنطقة على وشك إنهاء المرحلة الانتقالية والدخول في مرحلة جديدة بكل ما يتطلبه ذلك من إعادة تشكيل للمحاور والتحالفات، وهو ما قد لا يتأخر طويلاً. وسنحاول في الأسطر التالية رصد سمات المرحلة الراهنة وإلقاء نظرة فاحصة على الخيارات والبدائل المتاحة أمام الأطراف الرئيسة المؤثرة على تفاعلات المنطقة على أمل التعرف على وجهة ومسار الأحداث في المرحلة المقبلة.
يبدو لي أن عجز الولايات المتحدة عن القيادة المنفردة لحركة التفاعلات في المنطقة هو أهم سمات المرحلة الراهنة. ومن شأن هذا العجز أن يجعل الإدارة الأميركية الجديدة مضطرة ليس فقط لإعادة ترتيب أولويات سياستها الخارجية ولكن أيضا للتشاور والتنسيق والتحاور مع أطراف دولية وإقليمية لم تكن تتشاور أو تنسق أو تتحاور معها من قبل، بل ومن بينها أطراف كانت الإدارة الأميركية السابقة تعتبرها أعداء مباشرين لها.
وفيما يتعلق بالأولويات الأميركية الراهنة، والتي أصبحت أكثر وضوحاً بعد مرور ما يقرب من ستة أشهر على تولي أوباما المسؤولية، يمكن القول إن ترتيبها أصبح محدداً على النحو التالي: 1- معالجة الآثار الناجمة عن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، 2- انسحاب آمن من العراق وفق جدول زمني محدد، 3- تصعيد الضغط على «القاعدة» و «طالبان» حتى تحقيق النصر الكامل عليهما معاً.
وإذا نحينا موضوع الأزمة المالية والاقتصادية جانباً، فسنلاحظ على الفور أن رغبة الإدارة الأميركية الجديدة في تحقيق انسحاب آمن من العراق، من ناحية، وفي حشد أقصى ما يمكن من الموارد الديبلوماسية والعسكرية في مواجهة تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان» في أفغانستان هما العاملان الرئيسيان اللذان يدفعان الإدارة الأميركية الجديدة للانفتاح على كل من إيران وسورية. لكن إلى أي مدى يتم هذا الانفتاح وما الذي يمكن أن يسفر عنه الحوار المرتقب معهما، خصوصاً مع إيران، فتلك كلها أمور لم تتبلور بعد بشكل نهائي، وليس بوسع أحد أن يتكهن بما قد تسفر عنه منذ الآن.
على صعيد آخر يلاحظ أن إدارة أوباما أدركت في الوقت نفسه أن نجاحها في تحقيق أهدافها في العراق وأفغانستان، أي الانسحاب من العراق وتصعيد الحرب في الثانية إلى أن يتحقق النصر الكامل، مرهون إلى حد كبير بقدرة الولايات المتحدة على إيجاد تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي. هذا الإدراك هو الذي دفع أوباما، ومنذ اللحظة الأولى لدخول البيت الأبيض، لاتخاذ مبادرات لا يتعين التقليل من أهميتها مثل تعيين جورج ميتشل مبعوثاً شخصياً له لإدارة ملف الصراع العربي – الإسرائيلي، ومطالبة إسرائيل بالوقف الفوري والكامل لأنشطتها الاستيطانية في الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك ما تزال تصر على تسميته “النمو الطبيعي” للمستوطنات القائمة. معنى ذلك أن مجرد قيام الإدارة الأميركية الجديدة بإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأميركية استدعى على الفور، وفق إدراك هذه الادارة، تغييراً ملموساً في نهج وأساليب العمل مع البحث في الوقت نفسه عن صيغة مبتكرة للتوفيق بين بعدين متعارضين، في ظاهرهما على الأقل، الأول: رغبة الولايات المتحدة في مد جسور تواصل كانت قد انقطعت مع قوى إقليمية مناوئة، مثل سورية وإيران، والثاني: تقصير خطوط تواصل كانت قد امتدت بأكثر مما ينبغي مع قوى إقليمية حليفة، مثل إسرائيل، حفاظا على مصداقية هذه التوجهات والأولويات الجديدة.
والواقع أن المتأمل لمسار السياسة الخارجية الأميركية منذ تولي أوباما الرئاسة حتى اليوم يمكنه أن يلحظ بسهولة أن التغيير الذي طرأ حتى الآن لم يمس جوهر أو مضمون هذه السياسة، وإنما اقتصر على الأدوات والأساليب والتكتيكات المستخدمة وذلك على النحو التالي: 1- التخلي عن سياسة الهيمنة واعتماد سياسة بديلة تقوم على التوافق مع الحلفاء الاستراتيجيين خصوصاً في إطار حلف شمال الأطلسي. 2- التخلي عن نهج الحروب الاستباقية أو الإجهاضية، وتغليب الوسائل السلمية على الوسائل العسكرية، وتفضيل الاعتماد على أدوات القوة الناعمة (خصوصاً المساعدات الاقتصادية والضغوط السياسية) ولكن من دون استبعاد بالضرورة لأساليب الحروب السرية والحروب بالوكالة. 3- تجنب كل ما من شأنه توريط القوات المسلحة الأميركية في حروب مباشرة.
ولأنه كان من الطبيعي أن يؤدي تغيير أولويات السياسة الخارجية وكذلك تغيير الوسائل والتكتيكات المتبعة لتحقيق الأهداف الموضوعة الى قلق هنا وتشكك هناك، فلم يكن أمام جميع الأطراف الإقليمية، الأصدقاء والأعداء القدامى على السواء، سوى الانتظار للتحقق من صدق المقاصد و النيات. لذا فقد انتظر الجميع بفارغ الصبر نتائج الانتخابات التشريعية في لبنان، من ناحية، والانتخابات الرئاسية في إيران، من ناحية أخرى، للقيام بقراءة أفضل لحقيقة توجهات ومواقف الإدارة الأميركية الجديدة.
والواقع أنه لم يكن يخفى على أحد أن الإدارة الأميركية الجديدة ليس فقط تتمنى فوز جماعة 14 آذار في لبنان والتيار الإصلاحي بقيادة موسوي في إيران، لكنها أيضاً تبذل كل ما في وسعها سراً وعلناً للحصول على هذه النتيجة. ومع ذلك فما كان ممكناً ومسموحاً لها أن تقوم به علناً في لبنان لم يكن كذلك في إيران.
ففي ما يتعلق بلبنان لم يتردد أوباما في إرسال نائبه جو بايدن بنفسه إلى بيروت قبل أيام قليلة من الانتخابات حيث بدا واضحاً لكل من يهمه الأمر أن الإدارة الأميركية الجديدة لا تكتفي فقط بالتأييد والدعم السياسي العلني لجماعة 14 آذار لكنها ترغب في أن تؤكد أيضاً أن فوزها في الانتخابات هو وحده الذي يمكن أن يضمن تعاوناً أوثق مع الحكومة والدولة في لبنان. وليس بوسع أحد أن يحدد بشكل فعلي حجم التأثير الذي مارسته زيارة بايدن للبنان في هذا التوقيت الحساس، غير أن المفاجأة الأكبر لم تكن في نتيجة الانتخابات وإنما في المناخ التصالحي الذي أعقبها والذي أفصح عن توافر حد أدنى من توافق إقليمي لعب فيه الحوار السوري والسعودي المتواصل دورا محوريا، مما جعل البعض يعتقد أن هذا التوافق أنجز في سياق المحاولات الرامية لتهيئة أوضاع المنطقة لتقبل تسوية ما لصراع عربي – إسرائيلي طال أمده وكمقدمة لطبخة أكبر ما تزال قيد الإعداد.
أما في ما يتعلق بإيران فلم يكن بوسع الإدارة الأميركية أن تعبر علناً عن تفضيلها للتفاوض مع شخصية أخرى غير أحمدي نجاد، ومع ذلك يسهل على كل مراقب متابع أن يستنتج أن هذه الإدارة لم تتردد قط في أن تقوم سراً بكل ما تستطيع القيام به لكي تحول دون فوزه. وهنا يمكن القول أن المفاجأة لم تكن في حجم ما جرى من اضطرابات في إيران عقب إعلان فوز أحمدي نجاد وإنما في سلوك أوباما نفسه خلال مراحل تطور الأزمة الإيرانية، حيث بدا متراجعاً خطوة أو خطوتين مقارنة بموقف أوروبي أكثر تشدداً تقوده بريطانيا. فقد بدا واضحا أن أوباما يقاوم ضغوطاً داخلية وخارجية كبيرة لدفع الولايات المتحدة للتصعيد مع إيران، ربما لخلق أزمة تقطع الطريق أمام الحوار المرتقب بين البلدين. وليس من الواضح حتى الآن كيف سيتعامل أوباما مع التطورات المحتملة لحركة احتجاجية يبدو أنها تتصاعد وما إذا كانت ادارته ستسعى لاستغلالها وتأجيجها للعمل على إسقاط أحمدي نجاد قبل أن يبدأ الحوار المرتقب أو، على الأقل، لإضعاف موقفه في هذا الحوار إن لم تنجح الضغوط في الإطاحة به قبلها. غير أن الشواهد حتى الآن تقول إن أوباما ما زال يتعامل مع الموضوع بشكل حذر ويدرك جيداً أن سلاح الضغوط والعقوبات في مواجهة إيران لم ينجح حتى الآن وقد يؤدي إلى نتائج عكسية تعود بالبلدين إلى المربع الأول.
في سياق كهذا تبدو الأوضاع الإقليمية في هذه اللحظة ضبابية إلى الدرجة التي لا تسمح لأحد برؤية واضحة لمعالم الطريق الممتد أمامه كما تبدو الأطراف الفاعلة كلها عاجزة عن التحديد الدقيق للوجهة التي يتعين عليها أن تسلكها من دون أن تصطدم بعوائق كبيرة، ربما باستثاء إسرائيل والتي يعرف نتانياهو إلى أين يريد أن يقودها. فنتانياهو لم ينتظر لا نتائج الانتخابات اللبنانية ولا نتائج الانتخابات الإيرانية لكي يعلن في رده على خطاب أوباما في جامعة القاهرة رفضه الواضح والصريح وقف النشاط الاستيطاني. صحيح أن نتانياهو حاول أن يتجنب تحدي أوباما والدخول معه في مواجهة سافرة، حين أظهر تجاوبا شكلياً مع حل الدولتين، ولكن بشروطه هو وليس بشروط الآخرين، لكن الجميع، بمن فيهم أوباما نفسه، يدركون أنه يناور وأنه لن يقدم مطلقاً ما يمكن أن يشكل أساساً صالحاً لمفاوضات جادة مع الفلسطينيين. لذا من المتوقع أن يحاول نتانياهو استثمار ما يجري في إيران إلى أقصى حد واستغلاله للتأكيد على أن إيران هي الخطر وأن تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ستكون أسهل بعد إزالة الخطر الذي يشكله نجاد، كما سيحاول استغلال واستثمار تصاعد انتقادات الداخل الأميركي لطريقة أوباما في التعامل مع الأزمة الإيرانية لتخفيف الضغوط المتوقعة عليه من جانب الإدارة الأميركية والعمل لمحاصرة أوباما على الساحة الأميركية نفسها لتقليص قدرته على الحركة والمناورة إلى أقصى حد ممكن.
أما في ما يتعلق بأحمدي نجاد فليس من الواضح كيف سيتصرف في ضوء ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات الرئاسية من انقسام واضح في النخبة الإيرانية. صحيح أن الفارق الكبير في الأصوات يجعل من الصعب التشكيك في فوز أحمدي نجاد، رغم إعلان موسوي عدم اعترافه به، غير أن موقف كل من خاتمي ورفسنجاني يبدو متحدياً لسلطة المرشد، وهو ما ستكون له تداعياته المؤكدة على تطور الصراع داخل إيران. لذا لا يستطيع أحد أن يتكهن بتأثير ما يجري داخل إيران في هذه المرحلة على سياستها الخارجية خصوصاً في موضوع الحوار مع الولايات المتحدة. فقد يؤدي إلى دفع أحمدي نجاد إلى موقف أكثر تشدداً، وهو ما تسعى إسرائيل إليه لتبرير ضربة عسكرية لإيران تعد لها. ومع ذلك فليس من المستبعد كلياً أن ينجح المرشد العام للثورة الإيرانية في احتواء الصراع في إطار سياسة توافقية تتبنى مواقف أكثر اعتدالاً. لكن السؤال: هل ينجح نتانياهو في التهرب من دفع الاستحقاقات المطلوبة منه للتوصل إلى تسوية قابلة للدوام من خلال التحرش بإيران والتصعيد معها وجر الولايات المتحدة معه في هذه المواجهة؟ نأمل أن لا يعطيه الرئيس أحمدي نجاد هذه الفرصة، كما نأمل في الوقت نفسه أن لا يقع العرب مرة أخرى في مصيدة الابتزاز الأميركي الإسرائيلي المنسق لدفعهم الى تقديم المزيد من التنازلات بحجة تشجيع نتانياهو وحماية حكومته من السقوط حتى لا تتعطل مفاوضات التسوية المرتقبة!
لذا يبدو أن الأنظار ستتطلع مرة أخرى إلى سورية والتي ما تزال تمسك برمانة الميزان في الصراع الدائر على المنطقة وفيها، فمن هنا قد يأتي الاختراق!
* كاتب مصري
الحياة