صفحات سوريةميشيل كيلو

دول تتلاشى

null
ميشيل كيلو
هناك ظاهرة تستحق الاهتمام، لاتصالها بالدولة، الكيان الذي يلعب أخطر الأدوار وترتبط به وتتوقف عليه أمور خطيرة، بينها وجود وبقاء المجتمع ذاته.
من يتأمل تطورات العقود القليلة الماضية، سيضع يده على حقيقة مخيفة هي تقلص مجال عمل الدولة في بلدان كثيرة، وتعرضه للانتهاك والتلاشي على يد قوى داخلية. لا أتحدث هنا عن الانتهاك الخارجي، فهو بلا حدود مؤدلجة ومسلحة، تشكل، حيث تنشط، دولة بديلة تمنع الدولة الرسمية القائمة من ممارسة سيادتها على أراضيها، وتحول بينها وبين تمثيل شعبها، وتتحداها، وتطعن في شرعيتها، حتى صار بالإمكان الحديث عن تلاشي الدولة ومحدودية نفوذها وصلاحيتها في بلدان كثيرة، خاصة في وطننا العربي، حيث تقلص وجود ودور دول مهمة كالعراق والسودان والصومال ولبنان وفلسطين واليمن، ناهيك عما شهدته دول كثيرة في العالم من تقييد لقوتها ومجال عملها، مثلما هو الحال، مثلاً، في أفغانستان، التي أخذت تنضم إليها في العام الأخير دولة كبيرة ونووية هي باكستان، وعن وجود عدد كبير من البلدان، العربية والإفريقية، المرشحة لمواجهة المصير ذاته، مثل الكونجو ونيجيريا، ودول كبرى تتهددها أوضاع متفاقمة يمكن أن تقودها إلى حال مشابهة، بينها دول أوروبية.
هذه الظاهرة، الحديثة نسبياً، ترتبط، في كل مكان تقريباً، بظهور جماعات مسلحة، معظمها دينية أيديولوجياً، نجحت في تقليص سلطة الدولة على قطاعات من مواطنيها أو على أجزاء من إقليمها، وحالت دون وجودها فيها إلا كسلطة ناقصة النفوذ أو الدور. ومع أن شيئاً مماثلاً حدث في جميع ثورات عصرنا المسلحة، فإن من الضروري ملاحظة الجديد، الذي يتم في ظرف يتسم بأمرين:
كثرة عدد البلدان التي تنتهك وتتلاشى فيها الدولة، حتى ليمكن القول إن انتهاك وتلاشي الدولة يتحول إلى ظاهرة في طريقها لأن تصير كونية. في الماضي كان التمرد المسلح يحدث في بلد واحد أو بلدان قليلة، متجاورة غالبا. أما اليوم، فإنه يشمل بلداناً كثيرة تتناثر على رقعة هائلة الاتساع، ويهدد بنقل عدواه إلى بقية دول الأرض.
قلة عدد المنخرطين في التمرد، ومع ذلك، فإن هؤلاء ينجحون في تغييب الدولة عن قطاعات من السكان أو عن مناطق من إقليمها  كما هو الحال في الجزائر مثلاً. بالأمس القريب، كان لا بد من توفر عدد كبير من المتمردين، وفي حالات معينة من تشكيل جيوش حقيقية، لتقليص وجود الدولة في مكان أو منطقة، أما اليوم، فإن عدداً قليلاً من المتمردين يستطيع إخراج الدولة من منطقة ومنعها من العودة إليها، وتالياً من استعادة سلطتها على سكانها وأرضها وإعادة الأمن والهدوء إليها. يكفي، في أيامنا، عدد قليل من متمردين يتمتعون بدرجة عالية من الاحتراف والسرية، للدخول في صراع عنيف مع الدولة، يحول بينها وبين القيام بواجباتها ووظائفها، حتى وإن لم يحرروا مناطق ويقيموا سلطة بديلة فيها، كما كان يفترض ماو تسي تونج أعظم منظري حرب العصابات، الذي اعتبر هذه السلطة شرطاً لازماً لإبعاد الدولة عن مناطق وقطاعات بشرية معينة، وضرورة لا تستمر من دونها حرب العصابات. في الحالة الراهنة، مهمة التمرد سلبية، تقوم على إحداث قدر من الاضطراب وخلخلة السلطة يكفي لمنع الدولة من ممارسة دورها، ولإقناع السكان بعجزها، بحيث يتزايد ولاؤهم للمتمردين بقدر ما ينعدم ولاؤهم للسلطة. إلى هذا، ليس التمرد الراهن بحاجة إلى تحرير أية مناطق كشرط لممارسة تأثيره وفاعليته عليها. وهو لا يحتاج، بصورة عامة، إلى إعادة تأهيل السكان سياسياً، فهم يقاسمونه أيديولوجيته وقراءته الخاصة لها، ويشتركون معه في الأساس “الروحي”، الذي تنهض عليه السياسة النابعة منها.
إطالة أمد النزاع لإطالة فترة غياب الدولة عن مجالها البشري والجغرافي الداخلي. إن قلة عدد المتمردين لا تحول بينهم وبين القدرة على تنظيم عمليات تتسم بتأثير وفاعلية كبيرين، أما سريتهم فتجعلهم مؤهلين للإفلات من قبضة الدولة، رغم كثافة ما تقوم به من حملات تفتيش ومداهمة وقمع، ورغم الفارق الكبير بين عدد العاملين في أجهزتها وعدد المتمردين ضدها. ثمة بلدان تقاتل فيها حركات التمرد منذ نيف وعشرين عاماً كالصومال على سبيل المثال، لأن إطالة أمد القتال تؤدي إلى تآكل وتلاشي قوة الدولة ونمو قوة التمرد، وتضع المتمردين أكثر فأكثر في موقع دولة بديلة. بكلام آخر: يمر التمرد في مرحلتين: أولى، تمهيدية، يقلص خلالها وجود وسلطة الدولة على السكان من خلال تبنيهم أيديولوجية معادية لها تتسم بقراءة متطرفة ضدها، وثانية يحل التمرد فيها محلهما، في منطقة محددة لا تني تتسع.
ليست الدولة، في الأصل عدواً لمجتمعها. إنها أساساً، تعبيره السياسي، الذي لا بد أن يتكافأ معه، فإن كانت غير ذلك، وجب العمل على إصلاحها سلمياً، دون نزاعات وحروب تقوضها وتدمره. الدولة مكتسب فريد من مكتسبات التطور السياسي والاجتماعي، وإذا كانت شعوبنا تعاني من نقص أدوارها وتشوه طابعها، فإنه يصير من واجبها تطويرها وجعلها دولة لمجتمعها، تنمي ثرواته وقدراته، وتسهر على حرية أبنائه وسعادتهم. عندئذ، يتحول شأنها العام إلى شأن خاص بكل منهم، والشأن الخاص بهم إلى شأن عام بامتياز، بالنسبة لها، وتصير دولة مدنية، دولة مشاركة وتفاعل حر ومفتوح مع مواطنيها، تخلو من ذلك النوع من المظالم، الذي يدفع بهم إلى التمرد عليها.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى