قصائد للشاعر الإسباني خوسيه رامون ريبول
ترجمة: خالد الريسوني
المكتبة المعتمة
يقولون إنه حي
ما بين أوراق الكتب
مصير ذاك الذي يتابع مقاطعه
بالشغف ذاته
لإيقاع دمه.
قبل أن تدنو الكف من الرف
لكي تلامس غبار صفحاته،
يحدث لقاء
قلب تائه
بضيق كنهه.
ويبقى طعم نوستالجي
بكوننا لم نكن الحقيقة الظاهرة
التي تمضي مبتعدة كما لو كانت حلما
ومستسلما يأتي الفجر.
وحين ترسم النظرة خلف العنوان،
تسمع طقطقة غريبة ما بين العظام والعدم.
ويحصل اليقين بأن العالم
ينبغي أن يرسم الآن،
لكي يمحي في صمت
ذاك الذي يقرأ مثلما يحيا .
مناحة إيكاروس
حينما يصير البحر ساذجا
ويغدو الفراغ المتبقي في المشهد الطبيعي
بوصلة أو زمنا،
أذكر هذا المسكن،
حكاية حب،
الموسيقى التي تجرح شاهدة قبر
للاعودة أبدا.
لن يتغير لا الدخان ولا الظل
ولا الألم المقدس الذي يبقيني
بعيدا عن الندامة لأني رحلت.
خذي رغبتي فقط،
تلك اللحظة لرؤيتك هكذا مهملة
ما بين التدمير و الغزو.
خذي ما ذدت عنه وما أحمله
كيما أضعه أمام نباهة
الفتوة اللاتمحي:
هذه الذاكرة السيئة.
بالأحرى هم يعرفون الشوارع الموحشة
أفضل من قلبي المتعب.
هنالك ينتظر الموت مكانا آخر.
محيطا آخر لا تسمع فيه
أنات الحلم.
الألفة المتوحدة التي هي صفاء
ولا تحول العزلة طينا.
هي الساعة
وبعد ما أزال نائما
لكن ينبغي لي أن أمضي عبر الدرب
حيث تختفين دفعة واحدة
قبل أن يبزغ الفجر، يا أرضي،
قبل أن يبزغ الفجر.
ذكر
الوردة بلا باعث؟
تزهر لأنها تزهر
أنجلوس سيلسيوس
مثل جرعة من الهواء والنار
تقتحم القلب تعاسة
ألا أراك زمنا أطول ما عدا تلك الهنيهة.
زمن يستديم عدما والكل زمن.
زمن الأسحار وزمن الشفق.
لحظة تجري فيها الحياة لكي تحيا
الموتَ المنقادَ، ميلادٌ اليومَ .
رؤيتك فقط في القلب الحالك:
حجر أملس ينتظر كتابتك،
نيزك ثرثار من فراغك.
هذه الذرة من الزمن فقط
هي وجه مصيري،
الوردة وسؤالها لماذا؟
هي الصمت الذي يفرضه اسمك
و أثر ما لا يحدث.
لو تستطيع مقاطع كلماتي أن تقول لك
وأن تعيد لي في حروفك: مرآة
وصدى يشبه من لست أكونه.
لو توفق أنفاسي في حبس
تلك الجرعة من الهواء والنار،
لو يعرف جسدي كيف يتنفسك.
ظِلُّ أنْ تُسَمِّي
( إلى كارلوس ريبول)
قد نودي على ابني باسمي
فأحسست حياته خارج وجودي :
يا ريبول …. يصرخون من الخلف،
واجتاحتني رعشة من النخاع
لما اختبرت كيف عبر تلك الكلمة
التي احتوتني لكي تفصح عني
فابتعدت لكي أكون وحيدا .
ستة أحرف جمَّعها لسان الآخرين
لكي أكتب نفسي في الموسيقى
التي تحدثها لمساتها،
أن أنبثق مثل لحن
من خلال الشكل الذي يُنْطقُ به اسمي
فيغدو لطيفا أو ملتهبا
في غنائيته الخالصة .
عذاباتي و أفراحي
ولدت من الرجع الذي أحدثته تلك الكلمة.
صادفت حياتي، ليس في مكان الروح،
وإنما في المسكن الرنان
للذي نطق بي.
استسلمتُ لتدفقه
مثل غريق مشدود إلى أخشاب
سفينته التي بلا وجهة،
أبحرتُ عبر وديان وبحار
وأنا أخلط بين أسمائها واسمي.
أوصلت مرفأ آمنا ؟
لست أدري.
أتأهب لأن أكون.
فقط لأن أكون من دون اسمي .
قد نودي على ابني
مثلما كانوا يشجعونني على النظر والإجابة
بالمقاطع المنكسرة للرمز الذي يدل علي.
والظل الذي تحدثه الحروف الستة
مثل خياله
هو الآن ظله.
فليحدث له كل شيء بداخلها
وهو عارف بما يعنيه الاسم وبمن يكون هو،
ألا يستبدل أبدا قلبه بالإيقاع
الذي ينبغي لتلك الكلمة أن تحدثه
وهي تتكرر
مع هواجس حب بارد لا مناص منه.
وليشد نفسه مثل أوليسيس إلى محور حكايته
و ألا تكون الحوريات اللائي يصرخن باسمه
ولأجهلن فليسافر و ليألف حكايته
مثل أجزاء لحن مهداة للبحر
الظل الآن ظله ،
ينادونه فيبتسم
دون أن يعلم أنه أمام صوت فقط
سوف يمضي مشكلا ذاكراته
ليحس ذاته
وحيدا أمام وجوده
الرصيف المهجور
(إلى خوسيه مانويل كباييرو بونالد)
أسمعت ذلك الارتعاش المستمر
للمعادن في السفن ؟
ألاحظت كيف يمكن للريح الخجلى
أن تكتب موسيقى
القلب الدافئ ؟
قد هبط الليل وأنت على وشك أن ترفع المرساة
ترد البصر باتجاه الثرى
تترك للفكر أن يبحر قبلك
عبر محيط لإله
كالمشتهى .
أسمعت خفقة أجنحة طيور القطرس
كيف تتنبأ بالسفر؟
كل شيء وشيك والنظرة
تعكس الفراغ الذي ينتظرك
حيث ينتهي الماء
وحيث يغدو الكل شمسا.
هل تحدثت عن الهواء قبل رحيلك ؟
شخص ما يجب أن يتحدث عن الهواء قبل رحيله،
هذا الهواء الدافئ والكثيف
الذي يدفع الروح باتجاه الأفق.
لم يتبق بعد سوى أحجار
وسفن مهجورة
وحكايات حب غارقة.
أسمعت خبطة الأقلاس
الخرساء بالبحر؟
أأحسست كيف يطقطق السطح؟
أتسمع هبوب الريح
على الأشرعة هذه الليلة؟
لا أحد يتكلم وها قد بدأ السفر.
وعلى الرصيف يبقى إصرار الهواء
صامتا اليوم،
دون أن يكون أحد قادرا على الكلام.
ومثل صدى نشيد بلا كلمات
سوف تحمله الصخور
ينبثق ظل
وهو يشير إلى النار.
زيارة ونُدْبة
كان المساء التموزي يهيمن في النظرة
وقلب الطفل
يخفق قائلا لك:
اسمك كان من ضباب وسدى كنت أصر على أن أعجن
الحروف مثل تراب مبلل
وكنت تأتين مع نسيم البحر.
تفوحين برائحة القطران
والفواكه البرية لأحلامي.
تأتيت لاختبار
شفتي المختوم عليهما بغيابك،
لتجديد السر
الذي بعد يستمر ثابتا
ويقولك في اتجاه الروح
بلا كلمات وبلا موسيقى.
كان اسمك يركض
عبر الذاكرة الملتبسة
لمساء خريفي.
وكانت الريح في موسم القطاف
تجلد ظل الأعناب،
ولما رأتك
عجلت بالعاصفة وبالمطر.
ذاك اللون الرمادي لشهر تموز
صبغ طفولتي
بالخوف والفرح.
الضياء المذهب للدمقس
حين كنت أبحث عنك ما بين الأوراق
وكنت في الفعل
تهدين ذاتك
لحياتي الموسومة
بندبة صوتك،
الوديع والمشاغب.
عبير الصيف
وفي الفضاء المفتوح
لحقول القمح،
كانت نبضاتك في صدغي
تحذرني
من هوة عميقة وعذبة،
من كلمة واحدة.
وثابتا كنت أسميك
كما أسميك الآن
وبصري يعميه نور سرك.
خسائر الحرب
منذ ذلك الحين صار البيت آخر.
المكان، فضاء آخر وأرض أخرى،
وحتى الهواء صار مختلفا،
مثل بخار يغمر الذكرى
وجذوة تؤجج الذاكرة.
كل شيء مختلف في هذه الإقامة
منذ ذلك الوميض
الذي أضاء فجأة تلك الغرفة
التي يسكنها الموت منذ ذلك الحين،
فارضا سطوة قوانينه،
مغيرا نظام الأشياء
مثل لحن خالد،
مستهَلٍّ على شفاه لا تعرف كيف تسمي الأشياء.
تلك الشظايا
اخترقت الزجاج الذي عبره كان طفل ما
يحتمي من العالم ويتأمله
مثل بستانٍ لوَعْيِهِ.
ذلك الصوت المباغت
كان صدى هابيل
الذي من كتاب قديم
كان ينزل حتى الغد
عبر أنين الإنسان.
ومنذ ذلك الحين صار البيت آخر،
البيت الذي تدمّره قذيفة في أي حرب،
البيت الذي تهدمه دبابة وتمحقه،
البيت الذي تدكه حفارة
وهي تغرز الزجاج الذي كان طفل ما
ينظر إلى أعماق قلب الأرض نفسها.
ما الذي يجب القيام به أكثر؟
ما الذي يجب القيام به أكثر؟
شخص ما مستعد دوما للقيام بذلك،
لينظر في وجه الآخرين
تعاسته الأشد وهنا،
رائحة الخوف الكريهة
التي تتدفق من قلبه الخالص،
حين تصير عيون الضحية
مرآة صادقة لبلاياها.
يجب العودة للقيام به من جديد.
ما الذي يجب القيام به أكثر في أي ناحية؟
هل شقه نصفين؟
أ تقطيع أوصاله مثلما اللغة التي تجمعنا
لكي تطفئ نار الكلمات؟
أقتلاع للكمال من جذوره
لكي لا يتأبد أثر من حياة
وجودك ووجودي؟
ما الذي يجب القيام به أكثر؟
في جبل بْرِينْثِيبِي بْيُّو،
في تريبلينكا أو في ‘أبوغريب’،
أن تهين وإلى الأبد
ذلك الوعي الذي يجعلك أدنى وحقيرا،
فتاتا تافها أمام ذويك،
يجب شقه نصفين،
التبول على كتابته
أو ضبط كمامة على وجهه
وعرضه عبر العالم على أربع قوائم
مثل كلب للجميع،
كلبي.
وسواء أكان اسمه مراد أو صابرينا هارمان،
غويبولز، مانويل كورديرو،
كارادزيتش أو اسمك الشخصي،
سواء أكان الصوت الخفيّ في ذلك الخورس
الذي يهمس غضب الآلهة،
وسواء أكان بقعة دم متخثر
من أجل انتقام بدائي،
فأخرِس المعذبين في الصرخةِ،
إذ لا يوجد ما يمكن القيام به أكثر،
لا يوجد شيء أكثر.
ولد خوسيه رامون ريبول بقادش (إسبانيا) سنة 1952، ومنذ مراحل شبابه الأولى زاوج بين اهتمامه بالموسيقى من جهة و بالأدب من جهة أخرى. كاتب وصحافي بالإذاعة الوطنية لإسبانيا، لقي عمله كمعد للبرامج الثقافية بالإذاعة الكلاسيكية الاعتراف الذي يستحقه، فهو يدير بهذه الإذاعة العديد من الفضاءات الموسيقية. لقد درس البيانو والهارمونيا والتأليف في المعاهد الموسيقية لقادش وإشبيلية ومدريد، حيث سيحصل على الشهادة العليا في علوم الموسيقى.
حصل على منحة فولبرايت لاستكمال معارفه في الولايات المتحدة الأمريكية حيث سينال شهادة الماستر في الفن من جامعة نيويورك في تخصص الموسيقى والآداب المقارنة، وهو أيضا أستاذ فخري وخاص بجامعة ايوا التي مثل في برنامجها العالمي الشهير للكتاب بلاده خلال سنتي 1984 و1986. يشغل مهمة المدير المسؤول لمجلة ‘ريبيستا أطلانطيكا’ منذ تأسيسها سنة 1991، وهي المجلة التي أخذت على عاتقها مهمة نشر الأدب الإيبيرو أمريكي والعالمي.
نشر العديد من المجموعات الشعرية أهمها: المساء في شعائره 1978، مصارعة الثيران 1980، موعظة الهمجية 1981، دخان المراكب 1984، المقاطع الخفية 1991، و ضباب وتخوم 2000. وتحت عنوان موسيقى و ذريعة 1990 جمعت منتخبات من شعره حتى ذلك التاريخ. ويعتبر كتاب ضباب وتخوم الحلقة الأخيرة من ثلاثية تكونها مع دخان المراكب والمقاطع الخفية، وهي الثلاثية التي صدرت عن دار النشر بيسور للشعر تحت عنوان: اليوم ضباب 2002.
من بين الجوائز التي حصل عليها: جائزة الملك خوان كارلوس الأول في دورتها الأولى 1983، وجائزة غرنيكا 1979 وتيفلوس 1999.
وهو مؤلف لعدد من الأعمال الأدبية والموسيقية مثل: بيتهوفن حسب ليست، ومناظر باتجاه البحر: حواشٍ عن المؤلفين الكطلانيين لجيل 27، والعالم البياني لشوبين، الوله والموسيقى، موسيقى خوسيه ييرو، وتنويعات على كلمة (دراسة عن الشعر والموسيقى والقصيدة)، وأصداء باخ عند المؤلفين الإسبان، وبيرليوز منذ قرنين، والفلامنكو نبعا ومرآة لأعمال فايا أو كتابه الأخير ‘أربعون عاما من العزف: أوركسترا الراديو والتلفزيون الإسباني من بين أعمال أخرى’…
استدعي إلى العديد من المنابر والجامعات الدولية، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، ونشرت في العديد من المجلات ودور النشر المهمة.
القدس العربي