صفحات العالم

النهي عن المنكر كفعل سياسي

د. خالد الدخيل
قبل أسابيع فرضت حكومة \”حماس\” في غزة على المحاميات ارتداء الحجاب \”الإسلامي\” في المحاكم، لكنها اضطرت تحت الضغوط للتراجع عن قرارها.وأمس فرضت محكمة في الخرطوم غرامة قدرها 500 جنيه سوداني (209 دولارات أميركية) على الصحافية لبنى حسين، بعدما أدانتها بارتداء زي غير محتشم، وتقصد بذلك البنطال. رفضت الصحافية دفع الغرامة، وفضلت قضاء شهر في السجن. ينتمي هذان المثالان إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تمارسه الدولة. في السعودية هناك هيئة رسمية تطبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكما حاولت حكومة \”حماس\”، وفعلت المحكمة السودانية، تفرض الهيئة السعودية على النساء ارتداء الحجاب. لكن لاحظ أن مفهوم الحجاب، واللباس المحتشم هنا ليس واحداً في هذه الحالات الثلاث. في السعودية الحجاب الإسلامي للمرأة يعني غطاء الوجه، وهو ليس كذلك في فلسطين أو السودان. لكن هذا الاختلاف يخفي اتفاقاً في مكان آخر، وهو كيفية ممارسة سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أين يبدأ السياسي، وأين ينتهي في هذا المبدأ؟ هل ما حاولته \”حماس\” كان عملا سياسياً، أم هو تطبيق صاف لقيمة دينية، أم هو بين هذا وذاك؟
لنأخذ أمثلة أخرى، لكنها افتراضية. عندما يتقدم شخص للدفاع عن مسن تعرض للإهانة أو السرقة، فإن فعله هنا أخلاقي. وكذلك الأمر عندما يقوم شخص آخر بمحاولة إنقاذ سيدة تعرضت للتحرش والأذى، وربما الاختطاف، فهو أيضاً يقوم بعمل أخلاقي. كلا الشخصين مارسا النهي عن المنكر بتطبيق المرتبة الأولى من حديث المراتب الثلاث الذي يقول: \”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.\” وكلاهما يعبران فيما قاما به عن دور المجتمع في ممارسة الضبط الاجتماعي لحفظ نظامه القيمي. لكن بالعودة إلى مثال يشبه ما حاولته \”حماس\”، ماذا عن عمل شخص محتسب فرض على امرأة في مكان عام أن تغطي وجهها، أو أن تغير من طريقة لبسها لعباءتها، كما يحصل في السعودية؟ الأرجح أن هذا الشخص مقتنع بأن ما قام به عمل أخلاقي، من حيث أنه يهدف من ورائه إلى تغيير منكر يتعارض، كما يرى هو، مع مقتضيات الدين والشرع. لكن لاحظ أن هذا المحتسب افترض أنه ليس هناك تعريف صحيح وشرعي للحجاب الإسلامي للمرأة إلا الذي يعرفه هو ويتبناه، وبالتالي قرر تطبيقه على أرض الواقع. هذا الشخص استخدم سلطة الدين، وسلطة الدولة لفرض رأيه على المجتمع حول موضوع هو محل خلاف واجتهادات متباينة. وإذا أردنا أن نأخذ بما قاله الشيخ الألباني حول الحجاب، فإن ما قام به هذا \”المجتهد\” مخالف لما عليه إجماع أئمة المذاهب الأربعة، وجمهور العلماء من أنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها. وبالتالي فإن ما فعله هذا \”المجتهد\” اعتداء على حقوق الآخرين، ما يجعله فعلا سياسياً، وليس له سند أخلاقي مجمع عليه. لماذا هو فعل سياسي؟ لأنه استخدم سلطة الدين وسلطة الدولة، كما أشرت، وانتهك علناً حق المرأة في اختيار لباسها ضمن حدود الضوابط والمعايير الشرعية التي تقرها الاجتهادات المختلفة. ثم إنه فعل كل ذلك بما يؤدي إلى تعزيز سلطة الرؤية الدينية، أو الاجتهاد الفقهي الذي يتبناه هو في هذه القضية. ولعل من الواضح أن نجاح هذا الشخص في فرض شكل الحجاب الذي يراه (أو غطاء الوجه) يؤدي بالنتيجة إلى مكسب سياسي لصالح صيغة معينة لمبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تأخذ به الأقلية من العلماء دون الأكثرية.
هنا يبرز سؤال مشروع: ماذا لو أن الفعل السياسي للمحتسب يتفق مع تقاليد المجتمع، كما هي الحال في السعودية؟ ألا يكون بذلك عملا مشروعاً؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من سؤال مقابل: ما المقصود بالشرعية هنا؟ شرعية دينية أم سياسية؟ ما يقوم به المحتسب في موضوع الحجاب في السعودية هو عمل مشروع، من حيث أنه يحظى بدعم الأغلبية، أو هكذا يبدو، وهذه شرعية اجتماعية، وبالتالي شرعية سياسية، لكنها ليست بالضرورة شرعية دينية. من الناحية الفقهية، أو الدينية، هناك إجماع على أن وجوب غطاء وجه المرأة هو رأي ضمن آراء واجتهادات أخرى، وهو في ذلك رأي الأقلية. ومن المعروف أن من شروط وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه لا يجوز إنكار ما اختلف العلماء على تحريمه. من هذه الزاوية فإن إنكار المحتسب لكشف وجه المرأة هو مشروع اجتماعياً وسياسياً، لأن المحتسب في واقع الأمر ينوب في هذه الحالة عن المجتمع في المحافظة على تقاليده المتوارثة، أو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آلية اجتماعية يستخدمها المجتمع للمحافظة على ثقافته. ومن ثم فإن فعل هذا المحتسب هو فعل غير مشروع من الناحية الدينية، لمخالفته أحد أهم ضوابط إنكار المنكر. وحتى يستعيد هذا الفعل مشروعيته الدينية يجب أن لا يأخذ الإنكار أسلوب الإرغام، والاعتداء على حق الآخرين في الاختلاف، بل أن يتم تقديمه كخيار، من حق صاحبه أن يعتبره الأفضل، لكن من بين خيارات متاحة للجميع.
الفعل في المثال الافتراضي الأول يختلف تماماً، لأنه دفاع عن شخص لا يستطيع حماية نفسه ضد الإهانة والأذى، أو ضد السرقة والاختطاف. وهذا فعل أخلاقي لأنه دفاع عن قيمة أخلاقية مجمع عليها من دون استثناء تقريباً. وربما قيل إنه قد يترتب على هذا الفعل مكسب سياسي. وهذا وارد، لكنه ليس الأرجح. وحتى لو حصل ذلك فإنه من نوع المكسب السياسي غير المقصود، أو غير المخطط له. ثم إن الدفاع عن الآخرين ينطوي على مخاطرة، قد تكون أحياناً كبيرة، وبالتالي مثال على التضحية. من هنا فإن تحقق مكسب سياسي من ورائه له ما يبرره. وفوق كل ذلك فإن هذا المثال في إنكار المنكر لا يتدثر باسم الدين لمآرب أخرى.
بماذا يوحي كل ذلك؟ يوحي بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ تتقاطع عنده وتتداخل خيوط الدين مع خيوط السياسة، وأن ثقافة المجتمع العربي وتقاليده المتوارثة لا تجد أفضل من الدين، وتحديداً الفكر الديني السائد، للحصول على شرعية تخشى أن تفتقدها أمام كل تغير، وعند كل منعطف تاريخي. لكن لعل أهم ما توحي به الملاحظات السابقة أن النهي عن المنكر يتحول إلى فعل سياسي في حالتين: عندما تمر الدولة بحالة ضعف، ويتراجع دورها، أو عندما تأخذ الدولة على عاتقها مسؤولية تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
في هذا الإطار قام الباحث السعودي، سعود السرحان، بإصدار كتاب صغير قدم فيه أربع رسائل تتضمن نصائح للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وقد لاحظ السرحان في مقدمته مهمتين: الأولى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان شعاراً للثورة والخروج على ولي الأمر، بدءاً من الذين ثاروا على عثمان بن عفان، مروراً بالخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب، وحتى وقتنا الحاضر كما نشاهد في اليمن وأفغانستان، والصومال، والعراق. ومع ذلك، كما أشار الكاتب، \”نجحت الدولة الإسلامية إلى حد كبير في احتواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومأسسته ضمن أجهزتها\”. الملاحظة الثانية هي هذا الاختلاف الشاسع بين التنظير للأمر بالمعروف وبين ممارسته. ويعيد السرحان ذلك إلى أن المنظرين هم من الفقهاء، لكن الممارسين هم من العوام أو أشباه العوام. وهذا تفسير معقول، لكنه تجاهل طبيعة علاقة العامي بالفقيه، وأنهما معاً يعملان في الغالب في إطار سلطة سياسية تراقب وتعرف.
تتمثل أهمية الكتاب بالنسب لموضوعنا في كون الرسائل التي قدمها لا تكشف عن البون الشاسع بين التنظير والممارسة وحسب، بل تؤكد بأن السياسة هي في الغالب ما يملأ المساحة بين هذين الحدين. في الرسالة الأولى، وهي طويلة لشيخ من القرن الثامن الهجري، تأكيد واضح على سبعة شروط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أهمها أن لا يكون المأمور به أو المنهي عنه من الأمور المختلف عليها. وهذا مع الشروط الأخرى، يهدف إلى تسييج المسألة داخل نطاقها الديني والأخلاقي. لكن الواقع أشد وطأة. ولعل الرسالة التي نقلها للشيخ محمد بن عبدالوهاب تؤشر إلى شيء من هذا النوع. ففيها تأكيد على الشروط نفسها، وهي شروط وضعها الشيخ لأنها كانت مفقودة، ولا يتم الالتزام بها حالياً. كأن المؤلف أراد تذكير الأتباع بذلك. هل من مدكر؟
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى