تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا: الدوافع والموجات
عفيف رزق
تعيش الساحة السياسية الأوروبية ظاهرة تصاعد التيارات السياسية اليمينية المتطرفة، يشهد على ذلك ما حققته وتحققه هذه التيارات من نجاحات في عمليات الانتخاب المتنوعة. ففي فرنسا، حصلت “الجبهة القومية اليمينية” المتطرفة بزعامة جان- ماري لوبن في الانتخابات المحلية الاخيرة على نسبة تزيد على 22 في المئة من الاصوات في مناطق الالب والشاطئ اللازوردي، كما حصلت ابنته وخليفته على نسبة مماثلة في مناطق الشمال الفرنسي. ورغم الانشقاقات الداخلية في صفوفها عادت الجبهة لتلعب دوراً مهماً على الساحة الفرنسية، كما جرى في اعوام سبعينيات القرن الماضي.
وفي بلجيكا تصدر”التحالف الفلامنكي الجديد”، بزعامة اليميني المتطرف برت دي ويفر قائمة الفائزين في الانتخابات الاشتراعية التي جرت في الثالث عشر من حزيران الماضي في الشمال البلجيكي، المطالب بالانفصال عن الشطر الجنوبي. ويتوقف تشكيل حكومة فيديرالية في هذا البلد، على تحقيق مطالب هذا التحالف وفي مقدمتها قيام كونفيديرالية بلجيكية في الوقت الراهن تمهيداً للوصول إلى الانفصال التام، علماً ان بلجيكا ما زالت بدون حكومة منذ نيسان الماضي. وفي هولندا، التي جرت فيها انتخابات اشتراعية في التاسع من حزيران الماضي، ما زال مصير تشكيل حكومة جديدة يخضع لضغوط اليمين المتطرف المتمثل بحزب الحرية اليميني. وفي ايطاليا تلعب “رابطة الشمال” دور القابض على حكومة بيرلسكوني في روما، كما يلعب، في المجر، الدور نفسه حزب “جوبيك” اليميني المتطرف بزعامة “غابور فونا” الذي يسيطر على كتلة نيابية مكونة من 47 نائباً. ومن المنتظر فوز اليمين المتطرف، في الأيام القليلة القادمة، في السويد، فضلاً عن وجود العديد من هذه الأحزاب في المعارضة الرئيسية او في ائتلاف حكومي انما مع دور مؤثر، في العديد من الدول الأوروبية الأخرى…
يتساءل المحللون السياسيون عن الدوافع التي تقف وراء انتعاش هذه الظاهرة في هذه الفترة. في دراسة معمقة للمتخصص الباحث في مجال اليمين المتطرف “فولفغانغ كايوست”، يقول بأن قادة التيارات اليمينية المتطرفة يطرحون “حلولا سهلة لمشاكل اجتماعية واقتصادية معقدة ” ومضيفا ان هؤلاء القادة يعتبرون ان حل مشكلة البطالة، مثلاً، التي تعاني منها اليد العاملة الأوروبية يتطلب طرد الأجانب المهاجرين لأنهم يأخذون عمل ابناء البلد ويتحملون مسؤولية قلة فرص العمل. فطرد الاجانب، برأي هذه التيارات، يُبعد شبح البطالة عن اوروبا متجاهلين اسبابا جوهرية اخرى كالعولمة وفتح الحدود والتقدم التكنولوجي وغير ذلك من العوامل التي تلعب دوراً مهماً في أزمة البطالة. ان الملفت، في هذا الإطار، هو ان كثيرا من قادة اليمين المعتدل، في بعض البلدان الاوروبية، قد استعادوا في حملاتهم الانتخابية الاشتراعية خطاب اليمين المتطرف، على هشاشته ربما، لكسب المزيد من اصوات المقترعين، وأعلنوا عن نيتهم اتخاذ اجراءات بشأن القادمين الغرباء إلى بلادهم كالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي طالب بوقف الهجرة الكثيفة الى بلده وتقنينها لتصبح “مختارة”. ولم يشذ عن هذا الوضع زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون الذي استعار خطاب الحزب القومي البريطاني المتطرف بإدعائه ان هناك هجرة كثيفة الى بريطانيا وانه حان الوقت لإتباع سياسة الحصص (الكوتا) للمهاجرين وإنشاء شرطة حدود لتطبيق هذه السياسة.
من الدوافع، ايضا، التي تقف وراء انتعاش هذه الظاهرة، كما يراها بعض المحللين، الاسلام الذي دخل بقوة إلى الساحة الاوروبية. الدليل على ذلك ما جرى في فرنسا بشأن “البرقع” ومنعه وقد هللت ورحبت بهذا القرار “الجبهة القومية”. وما جرى ايضا في هولندا في ما خص بناء المساجد وكذلك في المانيا التي نظم فيها الحزب اليميني المتشدد “من اجل شمال الراين وفيستفاليا”، وفي عدد من المدن الالمانية مظاهرات احتجاجية امام المساجد للتعبير عن رفضه لبنائها في المانيا. يعتبر اليمين المتطرف في اوروبا ان الحفاظ على الهوية الوطنية واجب كل الحكام الاوروبيين، وان الاسلام هو الذي يهدد الهوية الوطنية بسبب فشل اندماج المسلمين في المجتمع الاوروبي ورغبتهم في المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الدينية. على رغم ذلك ينتقد كثير من القادة السياسيين والمفكرين هذا التوجه المتشدد، فالتاريخ البشري، كما يقول احد المفكرين المسلمين الالمان، وعجلة الحضارة الانسانية، يدوران في اتجاه واحد هو اتجاه عالم منفتح وديمقراطي. فالشعوب والمجتمعات تمرض بسبب الازمات كما يمرض الافراد، لكنها سرعان ما تشفى عندما تراجع نفسها وترى الحقائق على ارض الواقع.
دافع ثالث يتمثل بظاهرة سياسية اجتماعية مقلقة سمتها الرئيسية تراجع الاحزاب السياسية التقليدية بسبب عجزها عن معالجة الازمات المتلاحقة، وكذلك الاحزاب الاشتراكية واليسارية التي لم تعد موئلا للإحتجاج على الواقع القائم والوعد بتغييره. هذا ما تصدر البرنامج الانتخابي الاخير لليميني المتطرف في بلجيكا “برت دي ويفر” الذي جاء فيه ان الاشتراكيين البلجيكيين هم المسؤولون عن انتشار الفساد والمحاباة وقلة الكفاية في بلده، واصبحوا غير قادرين على القيادة السياسية في الطريق الصحيح وانتشال الوضع من الازمات التي يتخبط فيها. ويأخذ اليمين المتطرف قومياً وعرقياً على الطبقة السياسية التقليدية انها تحاول الغاء المشاعر القومية الخاصة بكل بلد من خلال إقامة الوحدة الأوروبية، فجان- ماري لوبن يقول بانه فرنسي قبل ان يكون أوروبياً، وزعيم “رابطة الشمال” الايطالية ينعت الاتحاد الأوروبي بابشع النعوت. وعلى العموم فان قادة اليمين المتطرف جميعهم يكرهون الاتحاد الأوروبي، فكيف بالأحرى الوحدة الأوروبية؟
يُقلل البروفسور “كاس ميودي” صاحب كتاب “ايديولوجية التطرف” من نسبة الافراد المنتمين إلى تيارات اليمين المتطرف في البلدان الأوروبية، فيجد ان هذه النسبة لا تتجاوز ال5 في المئة في المانيا، وعشرة في بلجيكا، وخمسة عشر في فرنسا. وسبعة عشر في هولندا، واقل من ذلك في البلدان الاسكندنافية كالسويد والنروج والدانمارك، ويعزو اسباب ازدياد قوة وعدد افراد هذه التيارات، في السنوات الأخيرة، لإزدياد الأزمات الاقتصادية وفشل السياسات الأوروبية التقليدية في تقديم الحلول المناسبة لها. كما يقول بان ازدياد الجاليات المهاجرة إلى بلدان القارة الأوروبية وعجز الحكام عن إيجاد الطرق والوسائل القادرة على استيعاب هؤلاء القادمين وخصوصا بعد تفجيرات الحادي عشر من ايلول في الولايات المتحدة، انعش هذه التيارات.
يضع الباحثون تاريخاً لإنطلاق التيارات اليمينية المتطرفة، على الساحة الاوروبية، ضمن ثلاث موجات: ابتدأت الاولى مبكرا جدا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ما بين عامي 1946 و1949، وأُعتبرت استمراراً للتيارات النازية والفاشية وعبرّت عن ذلك الاحزاب السياسية في كل من المانيا وايطاليا؛ وظهرت الثانية ما بين عامي 1950 و1970 وضمت اليمين الفرنسي بقيادة بيار بوجار، واليمين الالماني المتطرف الذي حاز إثنين في المئة من اصوات الناخبين عام 1965. لقد وُصفت هذه الاحزاب بالتقليدية وبدت بعيدة عن النازية والفاشية؛ اما الثالثة فقد ظهرت بعد العام 1970 في البلدان الاسكندنافية، ففي العام 1973 حصل اليمين المتطرف في الدانمارك على نسبة 16 في المئة من الاصوات المقترعة في تلك السنة.
المستقبل