فاصلة بين زمنين
خيري منصور
يقول المؤرخون، إن الحضارات عندما تبلغ خريفها وتدب الشيخوخة في شرايينها تفرز نماذج بشرية عديمة الانتماء لأي شيء، وهي كما يصفها كولن ويلسون أشبه ببثور متقرحة ومتقيحة على جلد حضارة في طور الاحتضار، لكن ما يتوقف عنده المؤرخون طويلاً هو ظهور نماذج بشرية عند المنعطفات التي تمر بها الأمم،خصوصاً عندما تتحول الهزيمة إلى مناخ نفسي وثقافي، وتجد من يطالب الناس بالتأقلم معها كأمر واقع، بل كقضاء وقدر، هؤلاء فتحوا أسواراً لغزاة، وأفشوا أسراراً لا يفرط فيها في اللحظات الحاسمة غير الدليل الذي خان أهله، بعدما خان نفسه، وغالباً ما يبدأ هؤلاء على استحياء وبأصوات خفيضة يرشح منها الحذر والخجل، لكن ما أن تترسخ الهزائم ويضيق الرجاء ويوشك اليأس أن يتحول إلى وباء نفسي وجائحة سياسية حتى يتحول الخجل إلى جرأة وعناد، وتعلو الأصوات التي كانت للتو مواء أو نباحاً مبحوحاً لتصبح زئيراً كاذباً. وفي حياتنا العربية خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، أتاح التاريخ، وهو في ذروة اندحاره وقيلولته القسرية لتلك النماذج، أن تكون الأعلى صوتاً، فهي طبول مجوفة تحجب أنين النايات وكل ما يصدر عن الجرحى من استغاثات. وقد يبدأ هؤلاء مجرد أفراد متناثرين، لكن سرعان ما يحتشدون كبرادة الحديد إذا رمى الغزاة حجر مغناطيسهم وبدأت عمليات الجذب وهي إما أن تكون مجانية يتطوع بها العاقون لأوطانهم وآبائهم أو مدفوعة الأجر، لكنه يبقى أجراً زهيداً وغير نظيف على الاطلاق بسبب ما يعلق به من صدأ أخلاقي ودم ضحايا صامتين.
لم يحن الوقت بعد لفتح ملفات سود من هذه السلالة، فالناس مستغرقون في شجون يومية صغرى، ويلعب التجهيل وتهريب الواقع دوراً في التأجيل لكن الشعوب أيضاً تحفظ عن ظهر قلب تلك الحكمة العالية عمن يُمْهل ولا يُهْمل، فالمحاسبة تطال أحياناً موتى بعد تحولهم إلى رميم، كما أن العكس صحيح أيضاً وهو إعادة الاعتبار المسلوب لأناس أساء الناس فهمهم في زمانهم، فألحقوا بهم من الأذى الكثير، وقد يحجبهم الدخان والغبار الذي يغطي الآفاق لبعض الوقت، لكن لحظة الإنصاف قادمة ومحتمة لأن الحق قد لا يجد أحياناً ما يكفي من الدمع والدم لكي يعلو ويطفو.
في لحظات الانكسار يصبح الاختبار أشد عسراً لما تبقى من خلايا المناعة في الدورة القومية للأمة، خصوصاً إذا كثر من يخافون ولا يخجلون كما يقول المثل العربي الذي ولد في زمن كان على الأرجح يشبه زماننا هذا، إن لم يكن جذره وأباه.
إن في السياسة أيضاً من يُبتلون ولا يستترون، بل يشهرون خطاياهم وانحرافاتهم كالعورات غير عابئين بأي شيء، ما دام الإنسان الذي يودع الحياء يفعل ما يشاء لأنه منزوع الكوابح، وضميره كما قال أحد شعرائنا كان جمرة ثم رميت إلى الماء فعادت فحمة سوداء.
إننا نقول لهؤلاء الذين أفرطوا في التنازلات والاستخفاف بكل هذا الشقاء، رفقاً بأنفسكم أولاً، ثم رفقاً بأحفادكم الذين تركوا عراة في مهب الطوفان.
إن هذا الوقت الرمادي لن يطول إلى الأبد، ولكل صيام لحظة إفطار قد تكون على بصلة، أو على وردة، أو على حبة تمر حولت كبرياء التاريخ كله إلى نواة لها.
الخليج