إصلاح ما أفسده السلطان والفقهاء
حسين العودات
الإصلاح والفساد:
نعني بالإصلاح الديني (إصلاح ما تم إفساده من فكر الدين وعقيدته وشريعته وتعاليمه وممارساته منذ فجر الإسلام حتى اليوم) هذا الإفساد الذي ساهم فيه رجال سياسة وفقهاء ومشرعون وأحزاب وحركات دينية وفئات اجتماعية وفرق وطوائف ومذاهب، احتمت بالدين واستظلت بخيمته خلال بحثها عن مصالحها الفردية أو الحزبية أو السياسية أو الإثنية أو غيرها، وتصرفت ومارست وتفقهت وشرعت و(شرعنت) وتجاوزت مهماتها وحقوقها، وتسببت في حروب دينية أو أهلية، وبررت ما لايبرر، (واجتهدت) وتلاعبت بفلسفة الدين وعقيدته أو اختلفت حولها خلافاً تحول إلى صراع ففتن فحروب، كما استخدمت الشريعة وحرّفتها واجتهدت بلا منهجية وقاست (من القياس) وحللت وحرمت ليس كما يقتضي الدين الإسلامي بل كما تقتضي مصالحها، مما راكم فوق صحيح الدين أكداساً من الغث والتزوير والاجتهاد الخاطئ أو المضلل، حتى صار المؤمن الجاد والمسلم الحق مضطراً للبحث الدؤوب والصعب بين هذه الأكداس ليصل إلى جوهر دينه وصحيحه، كي تطمئن نفسه إلى حسن إيمانه وحسن إسلامه، وليلتقط هذا الجوهر بعيداً عن الأهواء، سواء منها أهواء السياسيين أم الفقهاء أم الجهلاء الذين يفتون بالدين وهم لا يعرفون الكثير عن صحيحه سوى ألفاظاً أو قيماً عامة أو شعارات تصلح لتزوير الدين وتضليل المؤمنين والأتباع وضمان المصالح وإرضاء السلطان بعد أن تحول الدين إلى دين السلطان ودين الجاهلين، أكثر مما تصلح لإلقاء الضوء على جوهر الدين وشريعته وأهدافه.
أُغرق الدين بالتحريف والخطأ، وأثقل صحيحه بشرائع وأحكام وتعليمات وأحياناً بعقائد وفلسفات بعيدة عن جوهر الدين وأهدافه، وتحول الدين في حالات عديدة إلى دين يختلف عن الإسلام القرآني الذي عرفه المسلمون في عصر النبوة، وأدى ذلك إلى ممارسات وسلوك وأنماط حياة وتقاليد وقيم مختلفة جداً عما جاء في الإسلام، حتى صار الدين الإسلامي المعاصر ديناً آخر، يحتاج فكره وعقيدته كما تحتاج تعليماته وممارسة أتباعه إلى إصلاح لإزالة ما أصابه من فساد وتشويه، مما أثر سلباً وعميقا على حياة المسلمين ومجتمعاتهم ودولهم وأنظمتهم السياسية وأنماط عيشهم وعلاقتهم بالآخر الداخلي والخارجي.
اختلافات حول فهم النص:
لقد نزل القرآن على النبي منجماً خلال ثلاث وعشرين سنة، وتضمنت نصوصه العقيدة الإسلامية والشريعة والفلسفة الإسلامية والموقف من الكون والحياة وصفات الله، وعلاقة الدين بالأديان الأخرى، كما تضمنت أيضاً إطاراً عاماً لبعض حقوق الإنسان وواجباته تجاه نفسه والآخر من مجتمعه، أي بعض أحكام الشريعة وطرق التعامل، وأتم النبي الشرائع والأحكام والتعليمات بأقوال وممارسات (السنّة)، ثم توفي وانقطعت الصلة بين المؤمنين وبين الله، وبقي القرآن والسنة هما المرجعية الوحيدة لدى المسلمين الذين لم يعودوا يستطيعون التواصل مع خالقهم، وكان عليهم إيجاد الجواب على تساؤلاتهم اللاحقة في نصوص القرآن، سواء كانت منصوصاً عليها بشكل مباشر وصريح، أم من خلال السنة أم تفسير النصوص والاجتهاد والقياس لفهم معناها وقياس الأحداث الطارئة بأحداث سابقة مشابهة جرت أيام النبي وأعطى حكمه فيها أو شرحها (قياس الغائب على الشاهد) وهذا كما يقول محمد عابد الجابري أدخل العقل العربي في دوامة لا تنتهي، وتحول في منظوره التاريخي إلى شكل دائري يتداخل فيه الحاضر بالماضي (الخطاب العربي المعاصر)، واضطروا إلى العودة إلى النص القرآني الصريح أو الشبيه والبحث عن أسباب نزوله ومحاولة فهمه ثم تطبيقه. إن انقطاع الوحي بعد وفاة الرسول ولجوء المسلمين إلى البحث عن أجوبة للحالات الطارئة جعل العقيدة والشريعة محط تجاذب بين الآراء والمصالح والمفاهيم المختلفة وأسيرة ظروف التطور القائمة واحتياجاتها ومفاهيمها إضافة لاضطرارهم خلال محاولات استيعاب الأحداث الجديدة وحاجتها للاجتهاد والقياس، اللجوء إلى المساومة أو التسوية أو البحث عن الأمان أو تفادي الفتنة أو الحفاظ على المصالح أوغير ذلك ولكل من هذه دور في توجيه الاجتهاد.
حدثت اختلافات جدية وعميقة بين فئات المسلمين، كان لها تأثير كبير على ثقافتهم وصراعاتهم ومفاهيمهم وقيمهم، وقد تجاوز التأثير المرحلة التي نشأت فيها الخلافات ليستمر بعضه حتى عصرنا الحاضر، ولعل من الأسباب الرئيسية لهذه الاختلافات أن النص القرآني بالرغم من مصدره الإلهي فإنه نزل على بشر وفهمه بشر وطبقه بشر، وبالتالي أصبح نصاً بين يدي البشر، وهذا يعني تعدد جوانب فهم هذا النص، وارتباطها بثقافة القاريء أو المجتهد أو المفسر أو ذاك الذي يسخره لمصالحه المرتبطة بموقعه الاجتماعي والاقتصادي أو امتثالاً لمجاله المعرفي المتغير دائماً وما بني على هذا الواقع من ثقافة وحاجات وتقاليد ومصالح، وقد اختلف المسلمون وما زالوا مختلفين حول هل نزل القرآن على النبي بالمعنى فقط ثم أُلهم صياغته نصاً أم أعطي إلى جبريل معنى وتم إلهامه أيضاً كيف يصوغه نصاً أم أعطي له أو لهما (جبريل والرسول) معنى ونصاً، ثم جرى اختلاف على تاريخية القرآن فهل كان مقرراً أو محفوظاً كاملاً قبل الوحي ثم أنزل منجماً على النبي، أم أنه أنزل منجماً استجابة لمجريات التطور. وأدى الخلاف حول هذين الأمرين إلى حصول خلافات ومذابح بين المسلمين كالخوارج والمعتزلة والمرجئة لا لأسباب فلسفية أو دينية فقط وإنما أيضاً بسبب ما ينجم عن ذلك من أحكام والتزام بأحكام.. الخ وفي الوقت نفسه فإن كل موقف من المواقف السابقة كان يعطي تقويماً لأسباب النزول فبعضها يعطيها أهمية استثنائية بحيث أنها تربط النص القرآني (ومعناه وتعليماته) بالزمان والمكان والظروف، بينما يرى البعض الآخر أنه ليس هناك من أسباب للنزول وإنما (مناسبات للنزول) باعتبار أن النص القرآني أزلي (وموجود باللوح المحفوظ) وبالتالي فهو خارج الزمان والمكان والأحداث الطارئة وسابق للزمان والمكان وفوقهما ولايتأثر بهما باعتباره قيماً مطلقة، وهذا ما أدى أيضاً إلى خلاف دموي بين المسلمين مثل الخلاف حول مرتكب الكبيرة(أمؤمن أم كافر) أو حول القدرية والجبرية وما أشبه ذلك.
لا تتجاوز نسبة الآيات المحكمات في القرآن (20%) من مجموع آياته، أما أكثرية آيات القرآن فهي آيات متشابهات أي قابلة للتأويل، ومن الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل الوصول إلى تأويل موحد، لأن التأويل يرتبط بالمستوى المعرفي للذي يتصدى للتأويل وبالحال الاقتصادي والاجتماعي له، ومرحلة التطور التي يمر بها المجتمع والمصالح وطبيعة التناقضات الاجتماعية القائمة وغير ذلك، وبالتالي تصبح إمكانية تعدد المفاهيم الدينية والشرائع بل والعقائد قضايا غير استثنائية، مما أدى إلى إفساد جوانب عديدة من العقيدة والشريعة والتعاليم، وكان البعض يصححها باللجوء إلى الاحتجاج بنسخ آيات القرآن والتوسع بذلك (حتى قرروا أن بعض الأحاديث نسخت بعض الآيات في مراحل معينة) وتعددت المفاهيم والشرائع والأحكام والمواقف، وأعطي كل فريق لنفسه الحق بالتأويل والتفسير، وفُتح باب الاجتهاد لتكريس الخلافات، سواء منها الخلافات في العقائد أم في الشرائع أم في الأحكام الفقهية، وهكذا سواء كانت الأسباب سياسية أم اقتصادية أم دينية صرفة، فإن انقسام المسلمين وتذررهم تحقق، ووصل عدد فرقهم إلى اثنتين وسبعين فرقة، وضمن لعبة الاجتهاد نفسها، وجدنا من يقول وعلى لسان الرسول أنها جميعها هالكة وفي النار باستثناء فرقة واحدة.
الاستعانة بالحديث:
عندما لم يكفِ النص القرآني للإجابة على متطلبات التطور، والأحداث المستجدة، تفسيراً وتعليلاً وتشريعاً وحكماً بعد أن جمده الفقهاء، لجأ المسلمون إلى (أحاديث الرسول) مستعينين بها للإجابة على تساؤلاتهم، صحيح أن القرآن قال (وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب) (الحشر/7)ِ ولكن المشكلة هي في الإحاطة بما قاله الرسول وصحته وظروفه وزمانه وأسبابه والمصلحة منه، مما أوقع المسلمين في بحور من التساؤلات والغموض، فلجؤوا إلى وضع الأحاديث ونسبها للرسول، كي تستجيب لرغباتهم، وساعد على ذلك أن الرسول منعهم من تدوين الأحاديث فبقي تناقلها شفهياً قرابة مئة عام، وبالفعل لم يتم البدء بتدوينها إلا في مطلع القرن الثاني الهجري، ولم يكتمل التدوين ويأخذ طابعه المنهجي إلا بدءاً من (143هـ) أي بعد ما يقارب قرناً وربع القرن من هجرة الرسول، وبديهي أن التداول الشفهي للحديث طوال هذه المدة وفي زمن تفاقمت خلافات المسلمين فيه حتى وصلت إلى الحروب الأهلية وذهب ضحيتها عشرات آلاف القتلى (الجمل، صفين، حروب علي مع الخوارج.. الخ)، كل هذا جعل كثيرين يلجأون إلى وضع الحديث لترجيح وجهة نظرهم ودعم موقفهم (وما أكثر الأحاديث الموضوعة)، وكمثال فقط بلغ عدد الأحاديث التي جمعها البخاري في صحيحه أقل من سبعة آلاف حديث بقليل، منها ألفا حديث مكرر، بينما بلغ عدد الأحاديث في مسند أحمد بن حنبل حوالي تسعة وعشرين ألف حديث، ونلاحظ أن الفرق بين ما اطمأن إليه البخاري من الأحاديث الصحيحة وما اطمأن إليه أحمد يزيد على اثنين وعشرين ألف حديث، وقد جاء في تواريخ الحديث أنه (حكم بالقتل على واضع أحاديث وقبيل تنفيذ الحكم قال: لقد زورت عشرة آلاف حديث حللت الحرام وحرّمت الحلال).
بالغ بعض الفقهاء في التأكيد على أهمية الأحاديث والاعتماد عليها والاستفادة من بعضها حتى لو كانت أحاديث آحاد أو أحاديث مشكوكاً بصحتها فذلك أفضل من القياس حسب هذا البعض (أتباع المذهب الحنبلي)، لسن الأحكام الفقهية والقوانين، بل شرّع البعض إمكانية نسخ الآيات القرآنية بالأحاديث، مما وسع دائرة الفقه والتفقه واختراع الأحكام، وأفسد أكثر من جانب من صحيح الدين.
يذكرنا دور الأحاديث قياساً إلى الآيات، بدور الفقه قياساً إلى الشريعة، فالشريعة من صحيح الدين، والأحكام الفقهية اجتهاد فقهاء ضمن كل المؤثرات المحيطة، ومن المفروض أن يكون اجتهاد الفقهاء في حدود القضايا التنفيذية لأن القضايا التشريعية من حقوق الله، ولكن، وفي إطار ما مر معنا، فمن يستطيع الجزم بأن الفقهاء لم يشرّعوا، ولم يعتدوا على حقوق الله، متسلحين بالاجتهاد والقياس والإجماع، وقبل ذلك معتمدين على الأحاديث الموضوعة؟.
وفي ضوء هذه الظروف والمفاهيم والممارسات، والغموض في جوانب عديدة من العقيدة والشريعة، واستسهال الفقهاء ممارسة التشريع، وتسخير الساسة رجال الدين لخدمتهم، والتواطؤ الذي حصل بين الطرفين، والجهل والتخلف والخلط بين التقاليد والعادات وبين التشريع وتعاليم الإسلام، والتداخل بين نظرة المجتمع ومتطلباته ونظرة الدين وأحكامه، تكدست ـ في ضوء هذا ـ أكوام من القيم والأحكام فرضت أنماطاً من السلوك، وتم تحريف صحيح الدين وتشويه الوعي، وكانت الخلاصة أن الخطاب الديني، وصحيح الدين، دفعا ثمناً غالياً بسبب أخطاء الفقهاء والحكام ورغباتهم الجامحة في الهيمنة على الدين والتفرد في شرحه وتفسيره، حتى كادوا أن يحولوه إلى دين آخر قليل الشبه بالدين الإسلامي وعقيدته وفلسفته وتعالميه، وفرضوا أحكاماً على المجتمعات أدت ـ ليس فقط لإفساد الخطاب الديني ـ بل أيضاً لتخلف هذه المجتمعات، وعزل الدين عن الحياة والتطور واستعداء الآخر عليه.
الإباحة والمنع:
إن كل شيء مباح حسب تعاليم الإسلام باستثناء ما منعه نص صريح، فالإباحة هي الأصل والأساس والمنع هو الاستثناء، إلا أن الفقهاء ـ ولأسباب عديدة ـ قلبوا الأمر فأصبح كل شيء ممنوعاً إلا ماجاء فيه نص يبيحه (يحلله)، وفي الوقت الذي منع فيه الإسلام (تحليل) الحرام إلا بحالات استثنائية جداً (الضرورة ومصالح الأمة)، لم يمنع تحريم الحلال لأهداف تخص المجتمع ومصالح أيضاً، وقد تلاعب الفقهاء كثيراً بقضيتي الإباحة والمنع وتوصلوا أخيراً إلى مخالفة مواقف الشريعة، فمثلاً حلل الله صيد البر والبحر، ولكن يمكن أن يُمنع استهلاكه إذا اقتضت الضرورة ذلك، أي يمكن تضييق دائرة المباح، وهذا ما يوافق عليه الفقهاء، إلا أنهم يستشيطون غيظاً ويتهمونك بالزندقة وربما بالكفر إذا ضيقت على تعدد الزوجات (وهو المباح) وأبقيت الدائرة مغلقة على واحدة، مع أن الأمر متشابه مع المثل السابق، والمرجعية واحدة والحكم الشرعي واحد سواء بالتضييق هناك أم بالتضييق على تعدد الزوجات هنا. وسنجد إمكانيات هائلة تتيح للمجتمع (حسب الشريعة) منع الحلال، كاعتبار حقوق المرأة الواردة في القرآن مثلاً هي الحد الأدنى. لقد اجتهد عمر بن الخطاب فخالف الحدود ومنع المسموح وحرم الحلال في أكثر من مجال، فأوقف تنفيذ حد السرقة وقطع يد السارق أيام (الرمادة) ولم يعاقب العبيد على سرقتهم بل عاقب مالكهم الذي لم يؤمّن لهم ما يمنعهم من السرقة، وأوقف حصص المؤلفة قلوبهم عندما رأى أن الإسلام لم يعد ضعيفاً، ورأى رأياً في الخراج وغنائم الحرب يختلف عما اعتاد عليه المسلمون وما نص عليه القرآن، وشدد على شروط شهود الزنا بما يجعل من الصعب جداً توفر هذه الشروط لمعاقبة الزاني أو الزانية وغيرها من الاجتهادات، وعليه فليس ما يمنع شرعاً زيادة حقوق المرأة على أن لا نحلل الحرام في كل الحالات، وبالمناسبة تكثر الأحكام الفقهية الجائرة خاصة في قضايا المرأة كالولاية والوصاية وتولي القضاء.. وغيرها.
بالإجمال لقد بالغ الفقهاء في أداء مهمتهم وسطوا على الشريعة في حالات عديدة، وتلمسوا أسباباً ملفقة ليبرروا أحكامهم الفقهية، وأورد مثلاً صارخاً في هذا المجال هو ما يتعلق بطعام أهل الكتاب (وشرعية) تناوله من قبل المسلمين، فقد جاء قي القرآن (الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلّ لّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لّهُمْ) (المائدة/5). وهذا نص واضح الدلالة قاطع الحكم بأن طعام أهل الكتاب (اليهود والنصارى) حل للمسلمين، إلا أن هذا لم يعجب الفقهاء كما يبدو، فحرفوه وخالفوا النص القرآني دون أن يرمش لهم جفن، واخترعوا ما سموه (اللحم الحلال) أي الذي يُقرأ القرآن أو (يكبّر) عليه عند الذبح، مع أنه حلال شرعاً حتى لو ذبحه أهل الكتاب وطبخوه، ولعل الأمثلة كثيرة جداً، وخاصة في الأحكام المتعلقة بالسياسة والتقاليد والعادات والأحوال الشخصية، فكأنهم اخترعوا ديناً غير الإسلام صنّعوه كما يشتهون.
المصلحون الحذرون:
شكل الفقهاء بأنفسهم أو بتحالفهم مع السلطان قوة قاهرة، مستغلين الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي مرت على الأمة، والغزو الخارجي، والصراعات الداخلية ووجود ثغرات منهجية في فهم العقيدة والشريعة، وتباعد الزمن بين حاضرهم وبين عهد الرسول والخلفاء، وتأخر التدوين قرناً وربع القرن عن بدء النزول، والانشطارات المذهبية والطائفية في المجتمع الإسلامي وخاصة بعد الفتوحات وتوسع الدولة وغيرها، وقد هيمنت هذه القوة (السياسوفقهية) على العقيدة والشريعة والمجتمع، وأخذت تشكل ديناً جديداً وأحكاماً جديدة، ومنعوا في الواقع أي محاولة لإصلاح ما أفسدوه والعودة بالدين إلى صحيحه، وولغوا في التشبث بموقفهم، ودافعوا (بشجاعة) عن مصالحهم، وأفشلوا محاولات التجديد والتحديث والتطوير ومساعدة الشريعة على احتواء معطيات التطور وشروطه، وأخافوا المتنورين أو التحديثين أو النهضويين الذين شعروا بضرورة إزاحة أكداس الفساد التي تراكمت فوق صحيح الدين وهددوهم باتهامهم بالكفر والزندقة، وخاف هؤلاء فعلاً، حتى أن الإمام محمد عبده وهو مفتي مصر ومن أوائل المنورين ومن أهمهم، لم يستطع أن يدخل معركة الإصلاح الديني إلا من باب ضيق وهو باب الفتاوى (والاقتصار عليها) والمطالبة بالتيسير دون التعمق في إصلاح ما فسد، واقتصر إصلاحه على جواز ارتداء الملابس الأوروبية، والتضييق على تعدد الزوجات، وإيداع الأموال في المصارف وأخذ الفائدة، وأكل طعام الكتابيين، وتولي المرأة المناصب، وإعطائها حق العصمة، ومع أن هذه الفتاوى جميعاً هي من صحيح الدين ولا تحتاج إلى عناء كبير لإثبات ذلك، فقد لاقت نقداً وعنتاً ومطالبة بعزل الإمام محمد عبده والتشكيك بأهليته. فإذا كان هذا ما واجهه الإمام من أجل فتاوى إصلاحية في مجال الفقه فماذا كان سيحل به لو اجتهد في الشريعة والعقيدة والفكر بل ماذا كان سيحل بمن ليس إماماً إذا قام بمثل هذه المحاولة.
هكذا، نلاحظ أن الفساد حل بالفكر الديني والخطاب الديني بأيادي من يدعون أنهم رجال الدين وحماته وأهله، حيث خلقوا فجوة حقيقية وكبيرة بين الدين والمجتمع وبين الشريعة وحاجات الناس، ووضعوا العقبات أمام تطور العقيدة والشريعة وقدرتهما على استيعاب مستجدات الكون والحياة، وجسر الفجوة التي أوجدوها والتي أصبحت عبئاً على الدين وعلى المجتمعات وعلى التطور.
العودة للأصول:
مثلما تقتضي الحاجة لإصلاح ما تم إفساده من فكر وممارسة عملية للدين الإسلامي من خلال تطاول الفقهاء على النصوص القرآنية، وعلى صحيح الدين والعقيدة والشريعة، فإن الإصلاح الديني يقتضي العودة (للأصول) والانطلاق بشجاعة لتحقيق الإصلاح، الذي بدونه ستبقى العقيدة والشريعة مدفونة تحت أكداس الأحكام الفقهية والتحريم والتحليل والمنع والسماح والإباحة الكيفية، التي فاضت بها قرائح من نصبوا أنفسهم قيمين على الدين متحالفين مع الساسة، وساهموا في إغراق مجتمعاتهم بشروط التخلف، وفرضوا على هذه المجتمعات العزلة والانغلاق، وساهموا في طردها خارج معطيات العصر وشروطه.
ماهي هذه الأصول التي لابد من العودة إليها لتحقيق الإصلاح الديني؟
جاء في القرآن (وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)(الكهف/29). كما جاء أيضاً: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)( (البقرة/ 256). وكذلك (فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ . لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ . إِلاّ مَن تَوَلّىَ وَكَفَرَ . فَيْعَذّبُهُ اللّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ) (الغاشية 21/24).
تدل هذه الآيات دلالة قاطعة على احترام الإسلام لحرية الاعتقاد حتى أنه يبيح الكفر في المجتمع، ألا نفهم من الآية (وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)(الكهف/29). أن الكفر مباح، على أن الله سيحاسب الكافر يوم القيامة، ولايحاسبه أبناء دينه أو مجتمعه أو السلطان أو أولي الأمر، ولعل احترام حرية الاعتقاد هذا يمكن إسقاطه تلقائياً على حرية الاجتهاد والحرية السياسية والاجتماعية وغيرها في إطار الثوابت التي نصت عليها العقيدة والشريعة، واستطراداً احترام التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية والفقهية التي أنكرها الفقهاء ورفضتها الفرق الدينية الإسلامية القديمة والحديثة، فقط لأنها تتعارض مع مصالحها.
ينبغي الاعتراف بتعدد فهم آيات القرآن المتشابهات وتفسيرها بقدر تعدد المفسرين والمجتهدين، ذلك لأن هذه الآيات وهي معظم آيات القرآن جعلته حمال أوجه كما قال علي بن أبي طالب، الذي طلب من عبد الله بن عباس (حبر الأمة) أن لا يحاور الخوارج مستنداً إلى نصوص القرآن فهو (حمال أوجه) والاكتفاء بمحاورتهم بالسنة لأنها ليست محط تعدد التفاسير والاجتهادات، وبهذا المجال ينبغي الاعتراف بتاريخية النص القرآني، وأنه جاء استجابة لضرورات التطور وحاجة المسلمين، ولذلك ينبغي إبعاد فرضية أن القرآن نزل بمعزل عن واقع الأحداث والتطور، والاعتراف بأهمية أسباب النزول، التي تبين خصوصية السبب في نزول الآية، وتربط التشريع بإطاره التاريخي وينبغي عدم الإصرار على عموم اللفظ على حساب خصوصية السبب، لأن فهم النص القرآني يقتضي فهم أسباب نزوله، وظروف وزمان ومكان هذا النزول، وإن لم نفعل ذلك فإننا نترك الباب مفتوحاً للاجتهادات المعتمدة على المطلق من جهة وللانتقائية سواء في اختيار الآيات التي نعتبرها مرجعية له أم في شرح هذه الآيات من جهة أخرى (وهذا ما يصر عليه الفقهاء)، وعلى ذلك ينبغي إعادة قراءة النص القرآني في ضوء هذا وفي ضوء التجربة التاريخية للمسلمين.
الدين ودهاليز السياسة:
كان من الأسباب الرئيسية للإفساد إدخال الدين في دهاليز السياسية والصراعات السياسية التي بدأت منذ اليوم الأول لوفاة الرسول، وتسببت فيما بعد بالحروب الأهلية الدينية كما سببت (فقدان مئات آلاف الضحايا) وحرّضت على وضع الأحاديث والتلاعب بالعقيدة والشريعة، حتى وصلت بعض الفرق الإسلامية المعاصرة للقول بالحاكمية (الحاكمية لله) و(الإمام المعصوم والولي الفقيه) وتكفير الدولة والمجتمع والأفراد الذين لا يقولون بقولهم.
عندما قال الخوارج أن لاحكم إلا لله، قال علي بن أبي طالب إنها كلمة حق يراد بها باطل، حقاً أن (لاحكم إلا لله) مما يعني أنه هو الذي خلق الكون والطبيعة وخلق قوانينهما ونواميسهما، وقدر مصيرهما ومصير الإنسان، ولكن الخوارج كما رأى علي، يخفون الهدف الحقيقي من طرح هذا الشعار، فهم يريدون في الواقع تطبيق القول (لا إمرة إلا لله) والإمرة هنا هي السلطة والحكومة والقرار الدنيوي، وهذا حق للبشر فهو ليس حاكمية إلهية وإنما إمرة بشرية.. وعلى أية حال فلإن الإسلام دين فقط وليس دولة ارتبك صحابة الرسول فور وفاته، واختلفوا حول ماذا سيعملون بعده، فحصل ما حصل في السقيفة التي كانت صراعاً بين قريش والأنصار، وخرجت باجتهاد فرضه القرشيون (الخلافة في قريش)، وحصل تلاسن وشتائم بين المجتمعين. وبقي أمر الخلافة مجال خلاف واجتهاد، إلى أن عمّدها معاوية وراثية (وملك عضوض) ومنذ ذلك الوقت وظف السلطان الفقيه لديه، وطالب بوضع الدين في خدمة السلطة، وهذا ما تحقق فعلاً وبمختلف الأساليب، ثم قونن علي بن محمد الماوردي أمر (الأحكام السلطانية) في كتابه الذي ألفه في القرن الخامس الهجري، بما يرضي الخليفة الذي كلفه بتأليفه فضمن السلطة له ولأحفاده من بعده، وأصبح كتاب الماوردي شرعة وقانوناً. (ومن الطريف أن الماوردي قرر أن القرشية هي شرط لازم ومن صفات الإمام الأساسية وبحكم شرعي)، فأي شريعة أو حكم أو فقه هذا الذي يشترط القرشية لتولي الإمامة؟ من الجلي أنه فقه موضوع. وكان الإمام أبو حنيفة قد رفض هذا المبدأ قبل ذلك ويقال أن رفضه جاء أيضاً بناء على مصلحته باعتباره غير عربي، ولئلا يُحرم المسلمون غير العرب من تولي الإمامة والخلافة. ولذلك فإن معظم المسلمين السنة غير العرب صاروا من أتباع المذهب الحنفي بمن فيهم الأتراك وسلطنتهم العثمانية التي تبنت الفقه الحنفي الذي مازال معمولاً به وأساساً لكثير من القوانين في بلاد الشام.
إن إدخال الدين في دهاليز السياسية هو إفساد له، ولم يكن له مبرر سوى اللهث وراء المصالح من قبل السياسيين والفقهاء، فلا شأن للدين بالسياسة ولا بأصول الحكم وبنية الدولة، ونوع النظام السياسي، ومن الملفت أن الفقهاء والحركات الإسلامية المعاصرة تصر على أن الإسلام دين ودولة رغم أنه ليس كذلك، كما أن (حراس الدين هؤلاء) يؤكدون أن العلمانية كفر وأن العلمانيين كافرون، لأنها وأنهم ينادون بفصل الدين عن الدولة، ولاشك عندي أنهم يقولون ذلك لأنهم لا يفهمون من العلمانية شيئاً، وهم كعادتهم يرفضون كل ما لايفهمونه، ويستسهلون التكفير والاتهام بالزندقة والإخراج من الدين.
وفي الخلاصة لم تتح نظرية تسييس الدين للمجتمعات العربية والإسلامية قبول مفاهيم الدولة الحديثة وخاصة مفاهيم السيادة للشعب والحريات والمساواة وتكافؤ الفرص والديموقراطية والتعددية وفصل السلطات والانطلاق من المواطن الفرد الحر وغيرها. وساهمت في إبقاء هذه المجتمعات خارج التاريخ.
مجلة الآداب اللبنانية