المقاومة والنظام
سليمان تقي الدين
ليس هناك من تحية أفضل توجَّه للمقاومة في الذكرى الثالثة لحرب تموز مثل معالجة إشكالية علاقتها بالنظام اللبناني.
المقاومة الإسلامية ممثلة بـ«حزب الله» تشكّلت مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولاً إلى بيروت في العام 1982، وكانت فرعاً من مقاومات أخرى بدأها اليسار والقوى القومية منذ 1968 ثم عبر «الحركة الوطنية» و«جبهة المقاومة الوطنية» التي انطلقت في العام 1982 أيضاً.
بدأت أحزاب الحركة الوطنية التعامل مع السلاح من خلال الانخراط في دعم المقاومة الفلسطينية والدفاع عن الجنوب، وكذلك فعلت حركة «أمل» (أفواج المقاومة اللبنانية) التي انبثقت عن «حركة المحرومين» بقيادة الإمام موسى الصدر.
البرنامج الأول والإطار التنظيمي الأول الذي شكّلته القوى الوطنية اللبنانية كان «الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية» (1973). وحول القضية الوطنية اللبنانية ـ الدفاع عن الجنوب والمقاومة الفلسطينية ـ تلاقت كل القوى والأحزاب لمواجهة المشروع التصفوي للقضية الفلسطينية الذي بدأ في الأردن في «أيلول الأسود» من العام 1970 ثم أخذت ملامح استكماله في لبنان عبر هجمات الجيش اللبناني على المخيمات في أيار 1973. في تلك اللحظة اتخذت القوى الوطنية اللبنانية قرارها بالتسلح والمشاركة في الدفاع عن الثورة الفلسطينية بوجه المشروع الفاشي الطائفي الانعزالي بنسختيه الرسمية (السلطة) والشعبية (حزب الكتائب اللبنانية واليمين اللبناني). بين العامين 1972 و1975 لم يكن للقوى الوطنية اللبنانية أولوية غير أولوية حماية القضية الفلسطينية وهي إذ خاضت معارك اجتماعية ومطلبية متفرقة (عمال غندور ـ مزارعو التبغ ـ فلاحو عكار ـ وطلاب الجامعة والثانويات إلخ) لم تكن تدمجها في المهمة الأولى. بل لقد انشقت جماعات من كل أحزاب اليسار لتلتحق مباشرة بالمنظمات الفلسطينية لأنها كانت تعتبر المسألة الفلسطينية هي المسألة الوحيدة التي تستحق النضال.
لم تطرح القوى الوطنية مشروعها للإصلاح السياسي إلا في آب 1975، أي بعد اندلاع الحرب الأهلية بصورة فعلية في 13 نيسان 1975. لم يكن هذا البرنامج يهدف إلى استخدام السلاح الفلسطيني للتغيير. لم «تركب الحركة الوطنية سفينة الحرب الأهلية للتغيير»، بل هي اعتبرت أن النظام السياسي والاقتصادي (الطائفي الرأسمالي الطفيلي التابع) هو مصدر الأزمات لفشله في بناء دولة وطنية تدافع عن أرضها في وجه العدوان الإسرائيلي، ولتسبّبه في تقسيم اللبنانيين طائفياً بما يولد الحروب الأهلية.
ولقد ثبت بالتجربة أن هذا النظام الطائفي يطحن كل الإنجازات الوطنية وهو يعيد إنتاج الانقسام الأهلي والتبعية ولا يمكن أن تتحقق في ظله أية إنجازات وطنية ما لم يتجاوز صيغته الطائفية وبنيته الاقتصادية الاجتماعية الطفيلية. ورغم كل التضحيات في مسيرة العمل الوطني على مدى نصف قرن يعيد هذا النظام تفجير الأزمات وإغراق كل الإنجازات في وحول الطائفية.
خرج اللبنانيون من الحرب الأهلية من خلال «اتفاق الطائف» الذي تبنّى إصلاحات الحركة الوطنية، لكن الطائف لم يُطبق. استأنفت المقاومة الإسلامية نضالها حتى التحرير في 25 أيار من العام 2000، فقام النظام بتجويف هذا الانتصار ووضعه خارج المعادلة اللبنانية. بل هو أعاد إنتاج قوى وضعت في رأس جدول أعمالها إلغاء قوة المقاومة وشطب تضحيات الشعب اللبناني لإدراج لبنان في التبعية للغرب ومن خلال ذلك الرضوخ للهيمنة الإسرائيلية. وقد كانت حرب تموز ترجمة لهذه الأهداف. انتصرت المقاومة في هذه الحرب، لأنها منعت تحقيق الأهداف الإسرائيلية وأحدثت معادلة إقليمية جديدة، لكنها عجزت عن استثمار نصرها هذا لبنانياً في بناء مناخ وطني صحي أو تكوين توازن جديد في النظام السياسي يحمي وجودها ودورها. وقد اضطرت هذه المقاومة أن تستخدم سلاحها في الداخل لإسقاط مشروع الالتفاف عليها وعزلها. لكن تسوية «الدوحة» الطائفية شكّلت مدخلاً لمحاصرتها في بيئتها المذهبية وعادت إشكالية علاقتها بالسلطة بعد الانتخابات إلى ما سبق من محاولات التحجيم وعدم استيعاب وزنها السياسي الوطني في النظام السياسي.
إن تضحيات اللبنانيين الهائلة في سبيل بناء نظام وطني عربي فشلت حتى الآن، بل صار هذا النظام يوسّع قاعدة القوى التي تسعى إلى إلحاق لبنان بشبكة العلاقات الإقليمية والدولية التي تجدد تبعيته على كل صعيد.
إن أزمة علاقة المقاومة بالنظام لا يمكن أن تحلها تحالفات ظرفية أو توازنات سلطوية عرضة لكل مراجعة حسب التحولات السياسية. ولا يمكن للنضال الوطني أن يطرد الاحتلال ويقبل بتشريع أبواب البلاد أمام خيارات سياسية لا وطنية. تحتاج المقاومة بما هي ضمانة للدفاع عن لبنان إلى بيئة وطنية، شعبية ورسمية، لكي تحافظ على دورها وإنجازاتها.
إن السلاح لا يحمي السلاح إلا في ظروف طارئة واستثنائية، كما أن السلاح ليس هدفاً بذاته، بل هو وسيلة لتثبيت هوية لبنان وموقعه. فلا يمكن التعامل مع الداخل من دون برنامج سياسي وطني يستهدف تطوير النظام بدلاً من الركون إلى تناقضاته الطائفية. وليس مطلوباً هنا غير التشبث بتطبيق الدستور والإصلاحات التي تتجاوز النظام الطائفي في بنيته السياسية والاجتماعية، حتى لا يُضطر اللبنانيون مع كل تبدل في المناخ الإقليمي أن يخوضوا المعارك القاسية للحفاظ على الخيارات الوطنية والعربية.
السفير