الأزمة الإيرانية الداخلية… والمؤسسة الدينية؟
د. وحيد عبد المجيد
المؤسسة الدينية في إيران ليست بعيدة عن أزمة الانتخابات الرئاسية. فهذه أزمة نظام سياسي طبعته هي بطابعها منذ أن هيمن رجالها على مواقع صنع القرار واستأصلوا حلفاءهم الليبراليين واليساريين الذين صنعوا أهم مقدمات ثورة 1979 ومهدوا الطريق لعودة الخميني.
ولذلك كان طبيعياً أن تجد المؤسسة الدينية نفسها في قلب الأزمة، رغم أنها ليست طرفاً مباشراً فيها. فقد أصابها الخلاف على نتائج الانتخابات الرئاسية بشرخ كبير. وإذا كانت المؤشرات الدالة على هذا الشرخ ليست كثيرة، فهي تكفي لتبينه. فالصمت الذي ران على معظم علماء الحوزة، التي كان الخميني قد أسماها “حوزة ناطقة”، لا يخفي أنه الأهم منذ ثورة 1979.
فالصمت، في مثل هذه الظروف، حمَّال أوجه. وأحد أوجهه الراجحة أنه ليس علامة رضا، خصوصاً حين يمتد إلى الامتناع عن تهنئة الرئيس المعلن فوزه أحمدي نجاد. فلم يكن معظم أعضاء البرلمان (مجلس الشورى) فقط هم الذين امتنعوا عن توجيه التهنئة له وحضور اللقاء معه عقب تثبيت فوزه. فقليل هم علماء الدين الذين وجهوا رسائل تهنئة إلى نجاد. وإذا كان بعضهم، سواء في الحوزة العلمية الرئيسة في قم أو في حوزات أخرى في طهران ومشهد وشيراز وغيرها، هنأوا المرشد الأعلى فقد انصبت تهنئتهم على المشاركة الشعبية الواسعة في الانتخابات، وليس على نتائجها.
أما الذين نطقوا واتخذوا موقفاً محدداً، فقد اختلفوا بين مؤيد لفوز نجاد ومبتهج به أو متشكك في سلامة العملية الانتخابية وغير مرتاح لنتائجها. وإذا كان بين الصامتين بعض أكبر علماء الدين الإيرانيين، فقد جهر كبار آخرون باعتراضهم على سلامة الانتخابات أو بدعوتهم إلى فحص شكاوى المعترضين وتوفير العدالة على هذا الصعيد.
فلم يكن آية الله منتظري نائب المرشد الأعلى السابق، الذي أزيح من موقعه هذا عشية رحيل الخميني، هو الكبير الوحيد الذي اعترض وساند المرشحين الإصلاحيين، موسوي وكروبي. فهو لم يأت بجديد عندما اتخذ هذا الموقف وجهر به أكثر من مرة. كان موقفه متوقعاً تماماً بخلاف كبار آخرين على رأسهم آية الله يوسف صانعي الذي ساند خامنيء منذ عام 1989. فقد أعلن صانعي أن الكثير من الإيرانيين ليسوا مقتنعين بصحة فوز نجاد بسبب ما أسماه الغموض الذي اكتنف الانتخابات.
وهناك أيضا آية الله عبد الكريم أردبيلي الذي تولى منصب المدعي العام عقب ثورة 1979، وآية الله يوسف سياني، وآية الله جوادي أملي. أما آية الله ناصر مكارم شيرازي فقد عبرت رسالته إلى المرشد العام عن عدم ارتياح ضمني.
وفي المراتب الوسطى والصغيرة لرجال الدين، تبنت “الجمعية الإيرانية للمدرسين والباحثين في مدرسة قم الدينية” موقفاً معترضاً على تثبيت نتائج الانتخابات، وشككت في حياد مجلس صيانة الدستور وبالتالي صلاحيته للحكم بصحة هذه النتائج. كما انتقدت “الرد بالعنف على الصوت المسالم للشعب.
وفي المقابل، وتجسيداً لانقسام لم يظهر في حجمه الكامل بعد، جزم بعض كبار العلماء بصحة فوز نجاد وساندوا موقف المرشد. وكان طبيعياً أن يتبنى آية الله محمد مصباح يزدي هذا الموقف باعتباره المرشد الروحي للرئيس المعلن فوزه، وأن يسعى إلى حشد طلابه وغيرهم وراء هذا الموقف مستنداً الى نفوذه القوي في ثلاث مؤسسات تعليمية مهمة في حوزة قم. وكان طبيعياً، كذلك، أن يتبنى الموقف نفسه آية الله أحمد جنتي رئيس مجلس صيانة الدستور، الذي أشرف على الانتخابات وأعلن فوز نجاد فيها. وضمن هذا الاتجاه أيضاً يأتي كل من آية الله محمود هاشمي شهرودي رئيس السلطة القضائية، وآية الله أحمد خاتمي، وآية الله حسين فريضة مداري، وآية الله حسين نوري حمداني الذي كان قد دعا في مطلع العقد الجاري إلى تطهير الجامعات من الأساتذة الذين وصفهم بأنهم ملحدون ومناوئون للإسلام.
وهكذا، لم تنج المؤسسة الدينية من الانقسام الذي ضرب النظام السياسي الإيراني واضطر المرشد الأعلى إلى الإقرار به أخيراً خلال كلمة وجهها عبر التليفزيون يوم الخامس من يوليو الجاري. وربما يجوز ربط حديثه الإيجابي عن الإصلاحيين في تلك الكلمة بحرصه على ترميم الشرخ الذي حدث في المؤسسة الدينية، إذ دعا إلى “عدم التعامل مع الأصدقاء كما لو أنهم أعداء بسبب ارتكابهم بعض الأخطاء”.
والأكيد أن الانقسام الذي أصاب النظام الإيراني في مجمله لابد أن يثير قلق خامنئي. لكن الأرجح أن الأكثر إقلاقاً فيه هو هذا الشرخ في المؤسسة الدينية باعتبارها المصدر الأول لشرعية النظام وسنده الأساسي في الشارع. لذلك فأكثر ما يمكن أن يزعج قيادة النظام الإيراني ويمثل خطراً عليه أن يستمر الشرخ في المؤسسة الدينية بغض النظر عن حجمه الراهن. وليس من الحكمة، والحال هكذا، ترك الشرخ يزداد ويصبح مصدر تهديد حتى إذا لم يكن وارداً أن تتحول المؤسسة الدينية ضد النظام بخلاف ما حدث قبل ثورة 1979 حين وقف علماء الدين في قم وقفتهم المشهودة احتجاجاً على تعرض الخميني لتجريح شديد في صحيفة “اطلاعات” المسائية في يناير 1978، أي قبل عام واحد على مغادرة الشاه طهران إلى المنفى ثم عودة الخميني واستيلاء أنصاره على السلطة.
كان تحرك المؤسسة الدينية حينئذ، نقطة تحول تاريخية ليس متوقعاً أن يحدث مثلها تحت أي ظرف. لكن هذا ليس هو الخطر الوحيد الذي يمكن أن يواجه النظام الإيراني. فلا يقل أهمية عنه أن يؤدي الشرخ في المؤسسة الدينية، إذا استمر وازداد، إلى إضعاف هذه المؤسسة خصوصاً بعد أن أصبح الخلاف في داخلها متعلقاً في أحد جوانبه بالموقف تجاه المرشد الأعلى شخصياً. ورغم أن خامنئي خرج منتصراً من أزمة نتائج الانتخابات الرئاسية، فقد دفع ثمناً باهظاً لأنه لم يعد مرشداً للجميع وإنما بات أقرب إلى زعيم تيار.
والسؤال المحوري، هنا، هو عما إذا كان الشرخ الذي أصاب المؤسسة الدينية مؤثراً إلى الحد الذي يؤدي إلى تهميشها لمصلحة المؤسسة العسكرية- الأمنية بعد أن برز دورها قوياً ومهيمناً في الأزمة التي لم تنته بعد. وتتوقف الإجابة، في أحد جوانبها، على مدى احتفاظ المؤسسة العسكرية الأمنية بوحدتها وعدم تعرضها إلى شرخ غير مرئي. فبخلاف الوضع في المؤسسة الدينية، تحول تقاليد المؤسسة العسكرية -الأمنية دون معرفة ما يحدث فيها حين يتعلق الأمر بخلاف ما. فليس سهلا التأكد من ذلك، مثلما يصعب الجزم بعدم حدوث أي خلاف اعتماداً على مؤشر وحيد هو أن أحداً من هذه المؤسسة لم يعترض علناً على نتائج الانتخابات أو أعمال القمع التي تعرض لها المحتجون.
لذلك، وبمنأى عن احتمال حدوث خلاف في المؤسسة العسكرية -الأمنية من عدمه، ربما يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات لمستقبل المؤسسة الدينية. أولها إصلاح الشرخ الذي حدث فيها. ويتوقف هذا السيناريو على مدى قدرة خامنئي على احتواء الأزمة، ومدى استعداده لإلزام الرئيس نجاد بمد جسور مع خصومه الإصلاحيين واتخاذ إجراءات انفتاحية تحقق شيئاً مما دعا إليه موسوي وكروبي خلال الحملة الانتخابية، وربما دمج عدد من أنصارهما في الحكومة.
وثانيها أن يبقى الشرخ الذي أصاب المؤسسة الدينية في حدوده الراهنة ولا يتوسع في حال عدم إصلاحه، بحيث تبقى قادرة على بناء توافق لا بديل عنه لاستمرار دورها إذا غاب خامنئي قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية القادمة أو اضطر إلى التقاعد لظروف صحية تتعلق بمرضه الذي لا تتوفر معلومات كافية حوله.
أما السيناريو الثالث فهو أن يزداد الشرخ الذي أصاب المؤسسة الدينية على نحو يجعلها عاجزة عن التوافق على القضايا الكبرى، الأمر الذي يفتح الباب أمام مزيد من التوسع في نفوذ المؤسسة العسكرية -الأمنية. وينطوي هذا السيناريو على خطر يهدد النظام السياسي الإيراني برمته، وليس فقط دور المؤسسة الدينية، وقد يؤدي إلى تآكل تدريجي في شرعيته وانكشافه أمام أعداد متزايدة من الإيرانيين الذين سيستعيد بعضهم في هذه الحال صورة النظام الشاهنشاهي حين بات عارياً إلا من مساندة حرسه الإمبراطوري، وجهاز شرطته السياسية (السافاك)، وقواته المسلحة. وقد يتذكر بعضهم قول مهدي بازركان، أول رئيس حكومة في عهد الثورة، حين اضطر إلى الاستقالة إن الخميني ما هو إلا “الشاه معمماً”. ولم يصدقه في ذلك الوقت إلا الليبراليون واليساريون الذين أُنهيت مهمتهم عقب نجاح الثورة وإمساك آيات الله وغيرهم من رجال المؤسسة الدينية بالسلطة التي يُثار السؤال الآن عن موقعهم فيها خلال السنوات المقبلة.
جريدة الاتحاد