سورية.. قضية الطائفية ومشروعات الحلول الطوباوية
زهير سالم
ليس تكراراً العودة إلى الحديث عن القضية الطائفية، في زمن يبدو فيه الداء الطائفي قد استحكم وأنشب أظفاره، في المناخ العام الذي تعيشه أمتنا في جميع الأقطار. كان المنتظر مع تقدم مد الثقافة والتنوير وارتقاء الوعي أن ينحسر مرض تاريخي يرتكز على الجهل، ويتغذى على العصبية العمية المقيتة، ولكن عوامل داخلية وخارجية مباشرة وغير مباشرة جعلت من (الطائفية) بأبعادها عفريت زمننا الذي نعيش.
ومع اعتقادنا أن النزوع الطائفي هو نوع من النزوع الفطري في تعبيراته الأولية البسيطة، إلا أن أزاهير شروره التي استفحلت في بنية مجتمعاتنا أصبحت تستدعي وقفة رشيدة لا تكتفي فقط بإدانته والتنديد به، على أساس أنه صورة فاضحة للعصبية التي أدانتها منذ العصر الأول نصوص الإسلام، حيث وصفت في بعض الحديث بأنها (منتنة) وفي أخرى بأنها (الراية العمية) التي يغضب صاحبها لعصبة أو ينصر عصبة، وجاءت في السياق القرآني الكريم بأنها (الحمية الجاهلية). المطلوب وقفة رشيدة تتجاوز إعلان البراءة والتنديد والإدانة إلى مواجهة المرض، وتجفيف منابعه، وبالتالي محاصرة نتائجه، ومصادرة خططه وبرامجه..
وإذا كنا قد وصفنا النزوع الطائفي الأولي بأنه نوع من النزوع الفطري أن يأنس الإنسان بالأقرب فالأقرب إليه. أسرة وعائلة وعشيرة وأبناء حي أو محلة أو بلدة أو أتباع مذهب أو دين أو شركاء في نسب أو قومية؛ فإن هذا الأنس الذي قد يقود إلى أشكال من التواصل والصلة والبر على صعيد العلاقات الفردية، وتنظيم ذلك أحياناً في إطار التعاون على أشكال أطلق عليها القرآن الكريم عنوان (البر والتقوى)؛ لمما يجب تشجيعه وتغذيته والحض عليه.
بمعنى أن الخوف من العفريت الطائفي لا يجوز أن يجعلنا نرفض اللقاء المجتمعي على أساس أي قاعدة من قواعد اللقاء. مجلس حي، أو صندوق أسرة، أو تعاونية فردية، أو تكافل بين أبناء مدينة، أو أتباع دين أو مذهب أو لقاء على أي قاعدة من قواعد الاشتراك الديني أو العرقي أو المدني.
ربما لنفهم (النزوع الطائفي) بطريقة أفضل علينا أن نعترف أن قواعد الاشتراك التقليدية والتاريخية هي القواعد الدينية والمذهبية والعرقية (الإثنية). وإلى هذا الاتجاه ينصرف الحديث مباشرة عند ذكر الطائفية ومشكلاتها. وبالتالي فإن البعض في سياق الحديث عن الطائفية (بأنها ليست ناتجاً لانعدام القرابة القومية والدينية) قول فيه نظر، لأن القواعد الأساسية للطائفية ذات الجذور التاريخية والتي نتحدث عنها هي قواعد دينية ومذهبية وعرقية. قد يصح أن الطائفية لا تقوم فقط على انعدام القرابة، وإنما تقوم أحياناً على دائرة من الخصوص في عموم.. حالة مثلها الشاعر العربي يوم قال:
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
النزوع الطائفي المرفوض إذاً هو بناء شبكة علاقات خاصة، على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية أو ربما مدنية أحياناً، لإحكام السيطرة على شبكة العلاقات العامة، أو على بنية المجتمعات وتحقيق مساحة أوسع من السلطة أو الثروة أو النفوذ.
إن استخدامنا للفظ (بناء) شبكة علاقات لا يستدعي بالضرورة أن يتم التأسيس العملي لمثل هذه الشبكة، في تجسد مجلس إدارة الشركة، وإنما يتم توظيف النزوع الطائفي بطريقة من طرق التأثير والتوجيه أو امتلاك زمام مرجعية توظيف وجود (ما) قائم على أساس من الأسس المذكورة (الدينية) أو (المذهبية) أو (العرقية) لتحقيق الأهداف الطائفية وفي إطار من المنافع المتبادلة أحياناً.
ربما من الضروري التذكير في هذا السياق، وهي حقيقة يتجاهلها الكثيرون، بأن توظيف الترابط الطائفي سهل وميسور في الأطر الأقلوية الضيقة، ليس فقط لأسباب تتعلق بسهولة السيطرة على (الكم المحدود) وتوجيهه واستغلاله؛ وإنما لما يعيشه هذا الكم من شعور بالتميز بمفهوميه السلبي والإيجابي، الخوف تارة والاستعلاء أخرى. بمعنى آخر إنه من التجاوز على الحقيقة أن يصنف السواد العام في إطار تفكير طائفي جاذب أو نابذ، لأن الوصف الطائفي لا ينطبق بشروطه الموضوعية على وجود سائد في أي مجتمع من المجتمعات.
إذا حددنا النزوع الطائفي المقيت بأنه التسلل عبر شبكة علاقات تاريخية أو محدثة وعلى أسس دينية أو مذهبية أو عرقية للسيطرة على المجتمع أو لتحصيل حيز أكبر من السلطة والثروة والنفوذ، لا بد لنا أن نعترف بمواجه اجتماعي آخر تسعى هذه الطائفة أو الشبكة الخاصة من العلاقات أن تسيطر عليه. المواجه الآخر هو المتضرر الأول من النزوع الطائفي الأول، المستجيب لفعله من جنسه سواء كان عند السواد العام، أو عند الأقليات الأخرى.
الحل الذي يقترحه علينا البعض هو أن نحل هذا الآخر المواجه أو نلاشيه لكي وحسب وهم طوباوي نصادر (الموضوع) الذي سيحاول النزوع الطائفي أن يسيطر عليه!!
إن مواجهة النزوع الطائفي المرضي في تصورنا إنما يقوم أولاً على تجفيف منابعه، وتجفيف منابعه لا يكون بإسقاط الهويات أو نزعها أو تغييبها، وإنما وضع قاعدة السواء العام في توزيع: السلطة والثروة والفرصة..
إن مفهوم المواطنة، أخذ وعطاء، تتجلى في مقولة عمر رضي الله عنه لشيخ مسن يهودي ما أنصفناك يا هذا، أكلنا شبيبتك وتركناك عند شيبتك.
ليس سوء ربما في ذات العبرانيين هو الذي أشاع في العالم في مراحل وبيئات متعددة تلك الموجات المختلفة من العداء أو الرفض الذي اصطلح على تسميته (بالعداء للسامية)، والذي تم توظيفه في إطار خدمة المشروع الصهيوني إلى أبعد حدود. وإنما الذي أثار هذا العداء على تعدد اختلاف الأزمنة والأمكنة هو نجاح تلك (الأقلية) في إثارة حفيظة الأكثرية أو في إمساكها بزمام مصالحها، أو في العبث بجراحها في المواطن الضنكة من لحظات التاريخ..
من العجب أنه عندما يتحدث أي دارس أو محلل عن مجسدات (الأكثرية) و(الأقلية) يتبارى المهذَّبون والمهذِّبون، بفتح الذال وكسرها، إلى الخطابة الطوباوية التي تبشر بمجتمع متساوٍ على أساس مدني محض متخيل أو متصور. حالة يراد منها تذويب هوية السواد العام وإضاعة حقوقه، والعدوان عليها.
ثم إذا كان الحديث عن (أقلية) ما تحت أي عنوان شرعت تلك الألسن بالإفاضة بالدروس التي تركز على المعطيات ذات الطبيعة الخصوصية، السياسية والثقافية والاقتصادية وضرورة صيانتها واحترامها والحفاظ عليها، بمعنى الاعتراف بالأقلية عند الحديث عن الفصل وإنكار تعبيرها عند الحديث عن الوصل!! يقول المثل العامي (احترنا يا أقرع..).
ولا بد لنا في هذا السياق أن نؤكد على أكثر من حقيقة.
الأولى: إن التبشير المثالي بمجتمع مثالي تتماهى مكوناته لم يتحقق حتى الآن على الصعيد العملي في أكثر دول العالم ليبرالية وديموقراطية و حتى بعد أن أصبح السيد باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
إن المساواة الثابتة في الحقوق والواجبات تتحقق في طار دولة للمواطنة ينتظر منها أن تتجاوز الافتئات على حقوق المواطنين أو بغي بعضهم على بعض تحت أي لافتة أو عنوان.
إن حق الأقليات بالاحتفاظ بحقوقها وصيانة خصوصياتها لا تلغي أبداً حق السواد العام في إشهار هويته والاعتزاز بها، والدفاع عنها.
إن مفهوم الأقلية لا يقوم بالأصل عن البحث في جذور الاختلاف العرقي أو اللغوي أو الديني أو المذهبي فقط.. إنه ذو علاقة مباشرة بالكتلة والحجم أيضاً. بمعنى أن وصف مجتمع ما بأنه مجتمع تعددي أو وصف بلد ما بأنه وطن فسيفسائي كمدخل للتشكيك في مكانة السواد العام فيه يعتمد إيهاما غير حميد ترفضه قواعد السياسة وعلوم الاجتماع.
ودون أن نقصد غمط حق أي فرد، أصبحنا لا نستغرب أن يطلع علينا مع كل صباح من يزعم أنه ممثل عرق أو قوم أو ثقافة أو دين أو مذهب عبر أصحابها على هذه الأرض وحسب قول أبي العلاء المعري: أثافي قوم منسيين طبخوا طعاما منسيا!!!
إن الحركة الإيجابية القاصدة للتاريخ هي التي تتوخى أن تبحث عما يجمع لا عما يفرق، عن المظلة الجامعة، والهوية الموحدة. ولن يجحد أحد ميل أبناء الأقليات على اختلاف مرتكزات وجودها إلى تضخيم ذاتها ومشكلاتها ومظالمها ومتطلباتها.
وربما لو أجرينا استطلاعاً للرأي على أبناء عشرة عناوين لأقليات لا تكمل في مجموعها العشرة في المائة من السواد العام وسألناهم عن نسبهم العددية في مجتمع مثل مجتمعنا لأعطونا أرقاماً تذهب بالجسد العام كله!!! دع عنك أسهم ما يمكن أن يسمى الأقليات الأخرى.
إننا في سياق الحديث عن وطننا سورية ينبغي أن يكون واضحاً أن سورية في استعلان هويتها وخلوصها لا تمثل الحالة (العراقية) مذهبياً ولا قومياً، ولا تمثل الحالة اللبنانية (دينيا) أو (مذهبيا). نعم سورية ليست بلد أقليات إنه بلد يشكل العرب فيه 90% من مجموع سكانه، ويشكل المسلمون فيه 90% من مجموع سكانه، والعشرة بالمائة التي تفارق المظلة الدينية تنتمي إلى المظلة القومية، وتلك التي تفارق المظلة القومية تنتمي إلى المظلة الدينية. وتحت مظلة الإسلام يلتقي المنتمون إليه بجميع مذاهبهم. أما ما يخرج عن هاتين المظلتين فهو أقل من أن يشار إليه، دون غمط لحق أحد أو تجاوز عليه.
وفي ظلال هذه الحقائق ينبغي أن يكون مستقراً وثابتاً أن سورية وطن واحد، وأرض واحدة، وشعب واحد، وهذه الأرض هي جزء من العالم العربي الكبير، وهذا الشعب هو جزء من الأمة العربية والأمة الإسلامية الواحدة وما عدا هذه الحقائق فهو من الزبد الذي يذهب جفاء. حقائق لا يغتالنا أحد عنها..
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية
أخبار الشرق – 15 تموز/ يوليو 2009