في نقد الحاجة الى تأسيس عقلاني للأخلاق
مازن إبراهيم
الطاعة والمنفعة في مواجهة الارادة الخيّرة
بعيدا من غواية نيتشه واغراء الفلسفة المستقبلية التي حمل تباشيرها واشعرنا من خلالها بخواء ما نؤمن به من قيم اخلاقية تستبد بالعقل والطبيعة، لا يمكننا تصور عالم خال من مفهومي الخير والشر، وتأسيسا عليهما ابداع مفاهيم فلسفة الاخلاق وتجلياتها النظرية وتجسداتها العملية. فالقتل والسرقة والاستبداد وغيرها من افعال وقع عليها حكم التصنيف في باب الشر، لا تحتاج الى عمق استدلال وكبير استقراء لتبيان موقعها في أي منظومة اخلاقية حكمت او تحكم، سابقا وحاضرا، جمعا من البشر. لكن بديهية الخير والشر لا تبدو في راهن واقعنا قانوناً يصح فيه وصف الـ”يونيفرسال”، فالمواقف الميؤوس منها عادةً ما تستدعي افعالا ميؤوساً منها، ولأن واقعنا مصادر لأفعال اليأس فمن البداهة ان ينسحب الامر على جملة القيم الاخلاقية التي تحكم تصرفاتنا.
إذا كان الفكر السياسي قد شكّل العنوان الاول الذي احتل مجمل مساحات التفكر الغربي في النصف الثاني من القرن المنصرم، فإن الضرورة اعادت مسألة الاخلاق، علما وفلسفة، الى التداول، مفرِدةً لها حيزا كبيرا من المناقشة. فتاريخ الاخلاق، الذي قطع دربا شاقة منذ ارسطو واخلاق الفضيلة والسعادة وصولا الى اخلاق الواجب مع كانط، سلك دروبا متعرجة ووعرة اثناء محاولاته تلمس خطواته تأسيسا للاستقلال عن كل ما هو خارجي عنه من لاهوت وميتافيزيقا وطبيعة. لكن نكوصا عن هذا التوجه، تبلور مع سيادة النظرة الغائية التي تستمد جذورها من مماهاة ابيقور بين اللذة والمنفعة الفردية، ورسخ جملة اتجاهات فكرية نادت بالمنفعة ومن ورائها السعادة لترسيم حدود الاخلاق وما يأتي دونها، واعتمدت في سعيها هذا على نتائج الافعال كمقياس للاحكام، فكانت نتيجة ذلك واقعاً مأزوماً يقيم في الحيز المشترك بين السياسة والاخلاق.
من هنا كانت الحاجة ماسة الى تأسيس عقلاني لفلسفة اخلاق تسعى لاسترداد السؤال الاخلاقي من المؤثرات الخارجية وتعيده الى عناصره الداخلية، حيث لا تكون الطبيعة والقواعد والنظم الاجتماعية او حتى العوامل النفسية هي معيار سلوكنا بل المبادئ العقلية الباحثة عن قانون اخلاقي كلي. فالاخلاق لم تعد سعيا الى سعادة، اياً يكن شكلها، ولا سيما ان علم النفس كان قاطعا في هذا المجال عندما اعتبر ان السعادة ليست قيمة حضارية، بمعنى انها تقوم على فعل التقنين لا الاباحة، الحصر لا السعادة. لذلك لا مناص من سعي دؤوب لاعادة تعريف الاخلاق فلسفيا بالعودة الى اخلاق الواجب، المستوحاة من المثلث الاخلاقي الكانطي، المؤسس على العقل والقائم على معاملة الانسانية كغاية لا كوسيلة بحيث يكون الفاعل ذاتا مستقلة والفعل قاعدة صالحة عقليا لأن تكون قاعدة كلية. جملة قواعد ينبغي للسلوك الاخلاقي ان يأخذ بها وفق ما يمليه عليه الواجب ومن ورائه الارادة الخيّرة، بمعزل عما عداهما. وهو ما يؤسس للبحث في شروط قيام اخلاق عامة مشتركة بين البشر، بعيدا من المعتقدات الخارجية لكل فرد ولا ترتكز على حقائق قائمة في ذاتها بمعزل عن المبادئ العقلية السابقة على التجربة.
الواجب والارادة الخيرة
تعود الحاجة المستجدة لإعادة تأسيس الاخلاق وفق مبدأ الواجب والارادة الخيّرة، الى عدم صمود الاخلاق المبنية على المنفعة امام جملة امتحانات ادت الى سقوطها اخلاقيا، وابرز تجسدات هذا السقوط موضوعة العنف وتبرير استخدامها من خلال ما يسمّى الحروب العادلة. فمفهوم الحرب العادلة الذي نطق به للمرة الأولى المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس معتبرا ان “كل حرب ضرورية هي حرب عادلة”، ساهم في اضفاء طابع اخلاقي على الحروب والنزعات التوسعية والاستعمارية. فتحت شعار الضرورة والمنفعة، اندرجت في التاريخ، قديمه ومعاصره، محاولات توسع دول وقمع شعوب، وبذلك اضحت المحافظة على النفوذ الحيوي لنظام ما في الاقليم الذي ينوجد فيه او الامساك بالسلطة والذود عن اركانها، عوامل مركزية في صوغ قواعد الاخلاق وتأويلها، ما شرّع الباب امام سياق طويل من الحروب المؤسسة على فكرة الضرورة. فالعدوان على المستوى النظري والعملي، لم يصبح جريمة الا مع نهاية الحرب العالمية الاولى، على ما كتبت حنة ارندت. لكن الحرب العالمية الثانية، وتاليا عليها قسمة العالم معسكرين، اعادتا طرح اشكالية الحروب والابادة الجماعية والاستعمار في وجهة اربكت كل مقاربة اخلاقية في العلاقات الدولية. فتارة تحت شعارات انسانية واجتماعية، وطوراً تحت عنوان نشر الديموقراطية او الثورة، تم التأسيس لتجاوز الاخلاقي في السياسة بما يصل الى حد ارتكاب افعال الابادة البشرية بذريعة وقف الحرب، على ما يذكّرنا به التاريخ غير البعيد لمدينتي هيروشيما وناكازاكي. ففرضت بذلك الضرورة شروطها على الاخلاق، واصبح مبررا دعم انظمة استبدادية لحماية الامن القومي لدولة من الدول او توفير الغطاء لارتكاب فعل لا اخلاقي في حق شعب من شعوب، لرفع الظلم والحيف عن شعب اخر. تضاف الى ذلك استنسابية تطبيق المعايير الاخلاقية في علاقات الدول، ودائما تحت شعار الاخلاق وما ينبع وينتج منها من معايير وقيم، تم تسويق حروب ضد الارهاب تمارس ما تدّعي سعيها للقضاء عليه. ثمة إشكالية اساسية تطرح في هذا السياق ترتبط بمفهوم الحرب العادلة في ذاته ومآلاته المتعددة. فنهاية حرب عادلة قد لا تكون عادلة، والأهم ان حروبا عادلة تخاض بأسلوب يُفقد القضية التي تدافع عنها عدالة تسعى لانتزاع الاعتراف بها، ناهيك بأن كل الحروب تبدو عادلة بالنسبة الى أحد أطرافها على الاقل. فمفهوم الحرب العادلة ساهم في محاولة اضفاء نسبية في التأسيس الاخلاقي للسياسة، فخرجت عقلانية الاخلاق بذلك عن شرطها الاول، اعتبار الانسانية غاية لا وسيلة، وهو ما سيقود الى سقوط اخلاقي عاصرنا آخر تجلياته في المرحلة الافلة لشرطي الاخلاق العالمي جورج بوش، وهذا ما ادى الى تعثر اخلاقي لبعض “الغرب”، لا في علاقاته الداخلية مع مواطنيه او في ما بين دوله، بل مع الاخر البعيد عن المركزية التي اقيم عليها البنيان السياسي الغربي. أضحى الضد يستدعي الضد في المواجهة العالمية للارهاب، بينما نتيجة المعادلة تحيل على شبيه يُعرّّف بشبيهه.
السياسة والاخلاق والواقع العربي
اما بالنسبة الى واقعنا، فإن الاشكالية اكثر تعقيدا، فثمة شيء في مقاربتنا للسياسة لا ينتمي الى السياسة، وثمة شيء في اخلاقنا السائدة لا ينتمي الى الاخلاق. هكذا هي حالنا، لا فعل السياسة سياسي ولا حكم الاخلاق اخلاقي، طالما ان ارتكاز الحكم قام دائما على بعد ايديولوجي نهل تارة من افكار قومية تلامس حدود الشوفينية، وتارة اخرى تحاكي الغيب في التعامل مع اشكاليتي السياسة والاخلاق. فإذا كانت السياسة محكومة بأساطير الماضي واشباح الحاضر، فإن الاخلاق الناظمة لعمل السياسة لا يمكن ان تتحرر من مقاربة كهذه. فصراع الالهة انعكس صراع اخلاق متضادة ومتعددة تعدد الرؤى الايديولوجية التي تسوسنا لا منذ النهضة المؤودة حتى يومنا هذا بل تعود الى تاريخ يضرب عميقا في الجذور الثقافية للمنطقة. صحيح ان مفهوم القتل، على سبيل المثال، واحد، وعاقبته الاخلاقية واحدة، لكن الادراج ضمن هذا الوصف يختلف بين ثقافة واخرى. فالقتل باسم الاله يصبح مبررا في اخلاق تمجد “الشهادة” وتقدم النقل على العقل، وتلغي الكتب لحساب الكتاب، وتحتقر الرغبة واللذة باسم ما هو متعالٍ، ممجِّدةً الروح ومُحطّةً من شـأن الجسد. فما يحكمنا هي اخلاق الطاعة على ما يذهب اليه الجابري: الطاعة للانتماءات الاولية، القبلية والعشائرية والطائفية، أي الانتماءات القبل دولتية والمتجلية لا في السياسة فحسب بل في شتى الميادين، من اجتماع وثقافة ولاوعي جمعي. لكن اخلاق الطاعة هي أحد ركني ثنائية ساهمت في تشكل معايير الاخلاق العامة التي تحكمنا، فهذه الاخيرة نهلت من رافد ثان، وسواء أكان الأمر على نحو واع أم لا واع، فإن ما جرى التماثل معه بالإضافة الى اخلاق الطاعة هي نسخة مبتسرة من أخلاق المنفعة تقطع مع المحدث من هذه النفعية التي انتقلت غربيا من اطار المنفعة الفردية الى منفعة عامة من خلال مساهمات جون ستيوارت ميل وبنتام. لكن ما جرى التماثل معه في قواعدنا السلوكية هو نمط من انماط المنفعة التي لا ترى ضرورة في الالزام والواجب بقدر ما تسعى الى تحقيق المنفعة الفردية. وبذلك تم الجمع بين مستويين، الاول يرتبط بالموروث السياسي للعهود الاسلامية الاولى والمتعلق فقهيا بإشكالية عدم جواز الخروج على فاعل الكبيرة وتقديم الطاعة له، والمستوى الثاني يرتبط بأخلاق المنفعة في نسختها الفردية. لكن هذا الحضور الضمني للاخلاق سواء ارتبطت بالطاعة او المنفعة الفردية يبقى متنافضا مع اي تأسيس عقلاني للاخلاق في ميدان الاجتماع والثقافة والسياسة. فالعقلانية المرتبطة بالارادة الخيّرة وفق المنطوق الكانطي، لا يمكن ان تعامل الانسانية الا كغاية لا كوسيلة، وهذا ما يغيب عن مجتمعاتنا وكيفية تعبيرها عن نفسها سياسيا. ولأن التعبير الابرز عن الحالة السياسية العربية ارتبط منذ عقود برطانة خطاب يردَّد عن القضية الفلسطينية، فلا مناص من انسحاب غياب الاخلاق العقلانية على مقاربتنا العربية لهذه القضية وغيرها مما يحمل صفة المصيري من شؤوننا.
فأي خطاب هذا الذي دأب القوميون والاسلاميون على ترديده في ما يخص فلسطين شعبا ووطنا؟ الركن الاساس في خطاب القوميين قام على ثلاثية الوحدة والتحرر والثأر، مع ما يحمل الركن الثالث من دلالة على مستوى الخطاب الاخلاقي لتيار لامس في خطابه حدود الشوفينية، فارتكز بذلك على الموروث الاخلاقي للبداوة والمرتبط بالكرامة والذود عنها عبر ممارسة بدائية تقوم على تغليب القانون القبلي على ما عداه. وعلى الرغم من التغير الذي اصاب هذا الخطاب مع المرحلة الناصرية، فإن الاخلاق التي ارتكز عليها اللاوعي الجمعي العربي عزز الرابط بين الثأر من جهة والموروث الديني من جهة ثانية. لذلك كان من السهل على حركات الاسلام السياسي ان ترث لواء القضية الفلسطينية وان تحمّل خطابها احكاماً اخلاقية تعيد الصراع الى لحظة ترتبط بتناقض اخلاق دينية مع ما تراه لا دينية في اخلاق الاخر.
لذلك فإن استعادة البعد الاخلاقي في هذا الصراع تعني استرداده الى الحيز الذي يتجاوز محمولاته القومية والدينية التي اثقلته طويلا، وهو بذلك يعود الى المكان الذي غادره طويلا، الى المربّع المرتبط بحق الشعوب في التحرر وتقرير المصير، فتخرج بذلك القضية الفلسطينية من جلباب القومية والاصولية، وصراع الاخلاق الدينية المتضادة في ما بينها، كي تدخل من بوابة الاخلاق الى الدولة. ولا يكون هذا الامر الا عبر إفراد حيز اخلاقي في مقاربة قضية المقاومة كفعل يسعى الى قيام دولة مع ما يعني ذلك من تحرير شعب تائه بين سلطات الاحتلال وسلطات الامر الواقع وسلطات الفصل العنصري العربية التي اسكنت اللاجئين وراء اسوار مخيمات لعلها بحجب رؤيتهم عن انظارها تحجب وجودهم نفسه.
المقاومة فعل اخلاقي. نعم، ولكن دون تحقق الاخلاقي شروطٌ اولها احياء السياسة بما هي تقاطع بين المقاومة والهدف من ورائها، اي قيام مشروع تحرري وطني اجتماعي يرتكز على اسس عقلانية تسعى الى بناء دولة حديثة، ثانيها اعتراف متبادل بإنسانية الاخر، بذاكرته المرتبطة لدى الفلسطيني بالنكبة والنزوح وتاريخ مديد على هذه الارض، ولدى الاسرائيلي باللحظة التأسيسية لقيام كيانه والمرتبطة لا بالذاكرة التوراتية بل بذاكرة المحرقة. فترهات نفي المحرقة تنفي الاخلاقي فينا، وتنفي مطالبتنا الاخر بالاعتراف بمحرقتنا. ففلسطين لا تختزل بقضية دينية وقومية من جهة او بقضية لاجئين وارض سليبة من جهة اخرى. هي ابعد من ذلك. هي معركة اعتراف اخلاقي بالفلسطيني كإنسان يملك تاريخا وذاكرة وحاضرا بما يخوّله ان يؤسس عليها مستقبله، اي وجوده اولا، وعدالة قضيته ثانيا، ودولته اخيرا. فالشرط الاول هو الاعتراف بوجود الفلسطيني كذاكرة وتاريخ وقضية اخلاقية، وهذا الاعتراف لا يُطالَبُ به الاسرائيلون والغربيون فقط بل الدول العربية ايضا التي لا ترى مجمل انظمتها في القضية الفلسطينية سوى ورقة مساومة وتفاوض تُخرجها من ادراجها كلما لاحت في الافق مواعيد إبرام الصفقات الاقليمية والدولية.
أخلاق “يونيفرسال”
اذا كانت اشكاليات الفلسفة لا تتبلور الا مع سكون الليل، فإن سؤال الاخلاق لا يمكن ان يطرح الا في صخب النهار، حين يتبدى عقم ما يحكمنا من قيم وانحطاط سياسة تسوس الناس الى مصائر ملحمية. لذلك يقفز سؤال الاخلاق وشروط تأسيسها الى صدارة الاشكاليات. لكن هل اذنت الساعة، وهل ولى اوان الحديث عن تأسيس الاخلاقي فينا، ام لم يحن موعده بعد؟ ربما الاثنان معا. لكن قبوعنا تائهين بين اخلاق الغيب واخلاق الحاضر يقتضي، لا بل يفرض، طرح اشكالية اخلاق تقوم على العقل كمصدر لكل قيمة حياتية. اخلاق تحمل صفة الـ”يونيفرسال”، عساها تفلح في ان تكف عنا صراع الالهة، وتنجح في كتابة معادلة جديدة عنوانها: تأسيسٌ عقلاني للأخلاق يستعيد الانساني فينا ¶