“عودة الابن الضالّ” في الثقافة العربيّة
عمر قدور
“عودة الابن الضالّ” هو أيضاً عنوان فيلم للمخرج المصري يوسف شاهين. يبدأ الفيلم بخبر عودة ابن الإقطاعيّ بعد مغادرته إقطاعيّة أبيه إثر خلاف حادّ بين الاثنين؛ الأب ظالم وقاسٍ، والابن ينحاز إلى قضايا المسحوقين في الإقطاعيّة. يستبشر الناس بعودة الابن مع دنوّ أجل الأب، لكنّ الابن يتكشّف عن صورة مغايرة تماماً للصورة التي رحل بها، ويُظهر قسوة تفوق قسوة الأب. كأنّ الموت الفعليّ للأب، في فيلم شاهين، يؤذن بانتهاء المحاولة الرمزيّة لقتله، وبهذا يكون التمرّد الجيليّ صراعاً على السلطة يتقنّع بأيديولوجيّات مختلفة مؤقّتاً، أي إلى حين حسم النزاع، أو تسويته بالتنازلات التي يقدّمها الابن على الأغلب.
* * *
سيناريو آخر “مكرّر ومملّ” من الواقع: أب متزمّت متديّن، ربّما لم يكن الأب هكذا في شبابه، وابن شاب يتململ من القيود المفروضة عليه. يخرج الابن عن إرادة أبيه؛ يسكر، يقيم علاقات غراميّة “غير شرعيّة”، وقد ينتمي إلى تنظيم سياسيّ يتعارض جذريّاً مع ميول الأب، وربّما يتطرّف في أفعاله هذه إلى حدٍّ يضطرّ فيه إلى مغادرة بيت العائلة، على الأرجح بعد شجار ينتهي بطرده من قِبل الأب. يتدخّل أحد من الأقرباء أو الأصدقاء في محاولة لرأب الصدع، فيحاول إقناع الأب بالتسامح مع “طيش” الشباب الذي يمرّ به الابن، ومن جهة أخرى ينصح الابن بـ”التعقّل”، وإذا لم تنفع النصيحة يُستحسن ابتزازه بدموع الأمّ التي لا بدّ أنّها انسكبت كثيراً في هذه الأثناء. المطلوب هو عودة الابن واعتذاره من الأب، مع وعد معلن أو مضمر بالإقلاع عن “الطيش”. لا نتوقّع من الابن التراجع الفوريّ، ولا بأس بالانتظار لسنوات كي نراه بصحبة أبيه يدخلان الجامع، ويصلّيان وراء الإمام الذي صلّى وراءه الجدّ من قبل.
* * *
بين الخمّارة والجامع مساحة يسهل قطعها، مساحة لا تستغرق من الوقت سوى لفظنا لكلمة سحريّة هي: التوبة. التوبة في الإسلام فعل محمود، لأنّ الله يحبّ من عباده الخطّائين التوّابين. أي أنّ الإسلام، في ذروة تسامحه، يجيز للمسلم ارتكاب الأخطاء، على ألا تصل به إلى المعصية، وعلى نيّة التوبة عنها لاحقاً. والحقّ أنّ “ارتكاب الأخطاء” والعودة عنها، من وجهة النظر هذه، ضروريّ كأمثولة ردع مستمرّة، فالمثال الأخلاقيّ لا يستقيم إلا بنقيضه الذي يثبت عجزه على الدوام. في سياق متّصل تمنح المجتمعات التقليديّة فترة سماح لأبنائها، هي فترة المراهقة والشباب الأوّل، حيث تتساهل في خلالها مع نوازع التمرّد لديهم. لكنّ هذا التسامح على الأغلب مشروط زمنياً، أي أنّ ما يُقبَل على مضض في مرحلة محدّدة من العمر يصبح مستهجناً حين تجاوزها. ولا يلزمنا الكثير من التعمّق لنلحظ أنّ التسامح في الحالتين، الدينيّة والاجتماعيّة، وتضافرهما هو بمثابة صمّام أمان يحافظ على رسوخ القيم التقليديّة، ويحيل الممارسات المنافية لها إلى غياب الاتزان العقليّ “الطيش”.
سبق لكاتب هذه السطور أن أشار إلى ظاهرة التوبة، في سياق مقال عن ظاهرة النكوص السياسيّ الجذريّ لدى أدباء سوريّين، إلا أنّ هذه الظاهرة قابلة للتعميم في الثقافة العربيّة، سواء بالمعنى العامّ لكلمة ثقافة أو بالمعنى الخاصّ لها، إذا جاز الفصل بينهما. وإذا كان التغيير حقّاً محفوظاً لكلّ فرد فما يلفت الانتباه في الثقافة العربيّة هو دائريّة التحولات، لا تعرّجها؛ أي العودة إلى نقطة الانطلاق أو إلى ما يقاربها. بهذا المعنى تبدو الثقة ضئيلة بأيّة انطلاقة جديدة، مهما بلغت من العنفوان، لأنّ النهاية المتوقّعة تنذر بالعودة، ولا ريب في أنّ عوامل عدم الثقة هذه تُفقد الانطلاقة سنداً هي بأمسّ الحاجة إليه.
بوسعنا تذكّر أسماء كثيرة، في الحقل الثقافيّ العربيّ، تنتمي إلى ظاهرة “عودة الابن الضالّ”، ولعلّ أكبر موجة هي التي ترافقت مع انهيار المنظومة الاشتراكيّة، إذ شهدت تلك الفترة انتقالات فكريّة دراماتيكيّة لمثقفين يساريّين، فمنهم من تحوّل إلى الليبراليّة الجديدة، ومنهم من عاد إلى أصوليّة فكريّة. ولا يكفي في هذا الصدد أن نعزو التغيّر إلى ظروف خارجيّة أو موجة عالميّة، أو أن نردّ الأمر إلى استبدال حاضنة بحاضنة أخرى، لأنّ قسماً كبيراً من التغيّرات طال المكتسبات الفكريّة الجوهريّة التي لا يفترض بها الانهيار مع ظرف سياسيّ محدّد. وإذا سلّمنا بأنّ التخلّي عن اليساريّة هو شأن محض سياسيّ فهذا لا ينطبق على التخلّي عن منجزات الحداثة، وإن أتى أحياناً مقنَّعاً بمقولات مجتزأة تدّعي الانتماء إلى ما بعد الحداثة ونقض المركزيّة الأوربيّة.
لم يبتعد رأس الهرم في بعض الأنظمة العربيّة عن العدوى، وباستعراض سريع لسيرة الرؤساء الذين تولّوا السلطة مع نهاية ستّينيّات القرن الماضي وبداية سبعينيّاته نجد بداية حكمهم اتسمت بالانفتاح على مظاهر الحداثة، وبالوعد بالتغيير والتخلّص من الرواسب التقليديّة، بينما نجد في أواخر حكمهم صورة “الرئيس المؤمن” الذي ينافس في تقليديّته خصوم الأمس. والمشكلة في ظلّ الديكتاتوريّات العربيّة أنّ التغيير لا يطال شخص الحاكم كفرد، بل ينعكس مزاج الحاكم على حاشيته، وعلى أداء المؤسّسات العامّة، الإعلاميّة منها خاصّة، ويصبح لزاماً على الشعب كلّه أن يتمثّل “حكمة” القائد، وتكتمل النهاية “السعيدة” بأنّ نسبة مؤثّرة من هذا الشعب تحتفي بالقائد “الضالّ” الذي عاد إلى “القيم الأصيلة” أخيراً. لقد بلغ ذلك بأحدهم “الرئيس المصريّ السابق محمد أنور السادات” أن يعتكف أيّاماً للعبادة، ثم يطلع بأفكار من وحي تلك الخلوة كان أشهرها ما سُمّي آنذاك بقانون العيب!. أمّا الرئيس “المؤمن” صدّام حسين فقد نصّب نفسه قائداً إسلاميّاً وعروبيّاً في أواخر عهده، وقد لا يكون من المصادفة أن تفوق نسبة المصلّين المنتظمين في الفترة ذاتها الـ80% من العراقيّين.
ربّما يصحّ القول، نسبيّاً، إنّ التراجعات مهما بلغ حجمها لا تلغي واقعة التمرّد، ويتجلّى هذا خاصّة في المجال الأدبيّ، فعلى سبيل المثال ما يزال يُنظر إلى نازك الملائكة كرائدة من روّاد الشعر الحديث، على الرغم من تراجعها الشخصيّ عن هذا الشعر وتصريحاتها المتأخّرة المضادّة لحركة الحداثة في الشعر. مع ذلك، وفي مجال الشعر أيضاً، تبرز المفارقة في أنّ التعايش لم يستتب بين الأصوليّة الشعريّة والحداثة الشعريّة بعد مرور أكثر من نصف قرن، إذ بقيت الأولى متشبّثة بـ”تكفيرها” للثانية، وملوّحة بسيف المتنبي أو “امرؤ القيس”. لم “يمت” المتنبي، أو يأخذ مكانه في ذمّة التاريخ، حتّى الآن، ويراد له أن يبقى أباً، وكأنّ سلالة الشعر على مدار مئات السنين لم تفلح في قتله، أو في اصطناع آباء جدد!.
ليس من المتوقّع بالتأكيد أن يبقى المرء على حاله، ومن الطبيعيّ أن تختلف الاستجابات الانفعاليّة بين مراحل مختلفة من العمر، وبالمقارنة العابرة مع المجتمعات الحرّة؛ نلحظ أيضاً حدوث انزياحات بين مرحلة وأخرى، لكن تقلّ الانقلابات التي تصيب الفرد، وتدفعه إلى التخلّي النهائيّ عن التراكم الذي أنجزه من قبل. وعلى العموم لا تشكّل هذه القلّة، عندما توجد، نسبة فاعلة تدفع بمجتمعاتها إلى النكوص الجذريّ عن مكتسبات الحداثة. إنّ ثقافة التوبة، إذا جاز التعبير، تنبع من مسلّمات راسخة، وتتناقض جذريّاً مع نزعتي التجريب والشكّ المرافقتين للحداثة، لذا تصبح الأخيرة مشروع “هجرة” إلى الخارج، ويبقى الأصل هو الداخل الذي يرجع إليه المهاجر.
عندما تبلغ ظاهرة، كظاهرة “عودة الابن الضالّ”، أن تصبح نمطاً ثقافيّاً/اجتماعيّاً معتاداً فهي تتحوّل إلى مدخل إضافيّ لمناقشة الأسئلة الثقافيّة الأوسع. وقد نقرأ بدلالتها أيضاً، لا بدلالتها فقط، بعض الأسئلة المزمنة، بدءاً من أسئلة النهضة العربيّة التي ما فتئت تتكرّر بالصياغة ذاتها طوال قرن. وفق هذا المنظور؛ سيكون مفهوماً بقاء الأسلاف بلحمهم ودمهم في الساحة، بينما تصعب مهمّة القادم الجديد، إذ لا يتعيّن عليه قتل أبيه فقط، بل قتل أسلافه الذين ما يزالون أحياء جميعاً!.
موقع الآوان