العالم العربي: لا شيء تغيّر، كل شيء تغيّر
ترجمة نسرين ناضر
تخيلوا “ريب أبو وينكل” عربياً [في إشارة إلى أسطورة ريب فان وينكل، وهو رجل غفا في مكان ما في شمال نيويورك طوال 20 عاماً تقريباً]، غط في نوم عميق في مطلع ثمانينات القرن العشرين. إذا استيقظ الآن، فسوف يفرك عينيه غير مصدِّق أن الأمور لم تتغيّر كثيراً.
غير أن النائم الذي يصحو من غفوته لن يندهش فقط بمدى ضآلة التغيير في السياسة العربية إنما أيضاً بالتغيير الكبير في المجتمع العربي. وأول صدمة سيتلقاها هي الحجم البشري الهائل. فبحلول السنة المقبلة، يكون عدد سكان المنطقة قد تضاعف في غضون 30 سنة – من أقل من 180 مليون نسمة إلى نحو 360 مليون نسمة. وقد ينذهل أيضاً بأن عدداً كبيراً جداً من هؤلاء السكان هم في سن الشباب: غالبية العرب هم دون الخامسة والعشرين من العمر. لن يُضطر “ريب أبو وينكل” إلى الاستعانة بكتاب إحصاءات ليكتشف الزيادة الكبيرة في أعداد السكان الذين يطغى عليهم العنصر الشاب. فهي واضحة جداً للعيان. والسبب هو أن النمو السكاني السريع تزامن مع تدفق ضخم للسكان من الأرياف إلى المدن، مما أحدث تحوّلاً في المشاهد والأصوات والسوسيولوجيا في كل زاوية من زوايا العالم العربي. ازداد عدد سكان القاهرة من تسعة ملايين نسمة عام 1976 إلى 18 مليوناً عام 2006. والعاصمة السعودية، الرياض، التي بالكاد كانت تُصنَّف في خانة المدن قبل 50 عاماً، كانت تضم مليونَي نسمة بحلول 1990، وتضم الآن خمسة ملايين نسمة. وبحلول عام 2006، كان نحو 87 في المئة من اللبنانيين و83 في المئة من الأردنيين يعيشون في المدن.
إذا ذهبنا أبعد في هذه الأسطورة وتخيّلنا أن “ريب أبو وينكل” هو اختصاصي في العلوم السياسية، فلا بد له من أن يستغرب التناقض بين عقود الجمود السياسي من جهة وعقود التغير الاجتماعي السريع من جهة أخرى. في مرحلة ما، ألن تتحوّل مطالب كل هؤلاء الشبان بالحصول على وظائف وآفاق للمستقبل، إلى جانب تأثير التعليم الشامل والأفكار العالمية والإعلام الحديث، إلى مطالب بالحصول على حق إسماع صوتهم – ثم بالتمتع بالحريات الأوسع الشائعة في باقي العالم؟ حتام ستتمكّن الأنظمة المستندة إلى الحكم الشخصي السلطوي، أو إلى حكم الحزب الواحد، من كبح هذه الموجة المتعاظمة من التطلّعات؟ أصبح توقع الكوارث في العالم العربي أمراً مألوفاً في الغرب. اعتبر كينيث بولاك، وهو محلل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) يعمل الآن في مؤسسة بروكينغز، في كتاب له صدر العام الماضي أن العالم العربي يرزح عميقاً جداً تحت وطأة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية إلى درجة أنه يمكن القول بأن كل البلدان العربية تقريباً هي في وضع “سابق للثورة”. ويحمل كتاب عن مصر صدر حديثاً عنوان “أرض الفراعنة على شفا الثورة”. وقد عنون ديفيد غاردنر، الكاتب في صحيفة “فايننشال تايمز”، كتابه الأخير عن المنطقة “الفرصة الأخيرة”.
الجانب المظلم
من يطّلع على الإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية العالمية المقارَنة لا يجد صعوبة في رسم صورة قاتمة عن الإخفاق العربي بالاستناد إلى نموذج واسع من الأداء المتدنّي في الاستثمار والإنتاجية والتجارة والتعليم والتنمية الاجتماعية وحتى الثقافة. في الآونة الأخيرة، سجّل إجمالي صادرات التصنيع في العالم العربي مستوى أقل منه في الفيليبين (التي يبلغ عدد سكانها أقل من ثلث عدد سكان العالم العربي) أو إسرائيل (التي لا يفوق عدد سكانها كثيراً عدد سكان الرياض). بين عامَي 1980 و2000، سجّلت السعودية ومصر والكويت والإمارات العربية المتحدة وسوريا والأردن مجتمعةً 367 براءة اختراع في الولايات المتحدة. في الفترة نفسها، سجّلت كوريا الجنوبية وحدها 16328 براءة اختراع، وإسرائيل 7652 براءة. عدد الكتب التي تُترجَم سنوياً إلى اللغة العربية في كل العالم العربي هو خمس العدد الذي يترجمه اليونان إلى اليونانية.
يجب التعامل بحذر مع مقارنات من هذا النوع. فبالنسبة إلى ملايين العرب، تحسّنت ظروف العيش ولم تتدهور في العقود الأخيرة. بالفعل، التحدّي الاقتصادي الأكبر الذي يواجهه العرب – الزيادة الهائلة في عدد السكان – هو وليد التقدّمات الكبيرة التي أُحرِزت في التلقيح والتغذية وصحة الأطفال. في دراسة عن الاقتصادات العربية نشرها معهد بيترسون للاقتصاد الدولي عام 2007، أورد ماركوس نولاند وهوارد باك أنه في المؤشرات الاجتماعية الأساسية مثل الإلمام بالقراءة والكتابة والفقر والتعليم، يضاهي أداء البلدان العربية أداء معظم البلدان الأخرى ذات المداخيل المماثلة أو يتفوّق عليها. وداخل العالم العربي، هناك أوجه تفاوت كبيرة بين المناطق تحدّ من قيمة التعميم. عام 2002، ذكرت مجلة “الإيكونوميست” في تقرير خاص عن دول الخليج أن الملَكيات الصحراوية الست ضاعفت نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة ثلاث مرات منذ عام 1970 لتصل إلى 75 في المئة، وأضافت 20 عاماً إلى متوسط العمر، وأنشأت بنى تحتية عالمية الطراز عبر إنفاق تريليونَي دولار عليها. يجب منح هذه الجهود حقها.
يهدّد الانكماش الاقتصادي العالمي الآن بعض هذه المكاسب. سوف تكون لانفجار فقاعة المُلكية والسياحة في الخليج تداعيات في مختلف أنحاء المنطقة. فمعظم العمّال المهاجرين في دول الخليج هم من آسيا، غير أن عدداً كبيراً قدِم أيضاً من البلدان العربية الأفقر. وهؤلاء العمّال العرب – إلى جانب العرب الذين يعملون في أوروبا – يخسرون الآن وظائفهم ويعودون إلى ديارهم، وهكذا تُحرَم العائلات واقتصادات بلدان المنشأ من تحويلات مالية مهمة جداً لها. بحسب البنك الدولي، تشكّل التحويلات المالية نحو خمس إجمالي الناتج المحلي في لبنان والأردن. وسوف تتأثّر مصر أيضاً: يعيش عدد غير معروف من المصريين، إنما بضعة ملايين على الأقل، في الخارج ويعمل هناك، وعدد كبير منهم موجود في الخليج. غير أن الانكماش الحالي ليس مصدر القلق الاقتصادي الأساسي بالنسبة إلى العرب. فالبلدان العربية أقل هشاشة من أجزاء أخرى من العالم. لا يزال منتجو الطاقة يملكون السيولة غير المتوقعة التي جمعوها قبل انهيار أسعار النفط – والأسعار ترتفع من جديد الآن. وبفضل إنشاء صناديق ثروات سيادية ذات إدارة جيدة، تعامل كثر مع أصولهم المالية بحذر أكبر بكثير في هذه الدورة منه خلال مراحل الازدهار السابقة. أما بالنسبة إلى العالم العربي الأوسع، فإن ما يُعتبَر عنصراً سلبياً في الأزمنة الجيدة – ضعف اندماج اقتصاداتها ومؤسساتها المالية في الاقتصاد العالمي – يوفّر حالياً ملاذاً من العاصفة.
نسبة شبان مرتفعة
لا شك في أن الصعوبة الأكبر التي يواجهها العرب – والبند الأساسي في قائمة المحَن الاقتصادية والاجتماعية الذي يُقدَّم دليلاً على أن اضطرابات تلوح في الأفق – هو الديموغرافيا. يُتوقَّع أن ينمو سكان العالم العربي بنسبة نحو 40 في المئة في العقدين المقبلين، أي نحو 150 مليون نسمة، وهذا يساوي عدد سكّان مصر مضاعفاً مرتين. غير أن البلدان العربية تملك أدنى نسبة توظيف في العالم وواحدة من أعلى نسب البطالة في صفوف الشباب، فواحد من أصل كل خمسة شبان تقريباً عاطل عن العمل. العمر المتوسط في البلدان العربية الثلاثة التي تملك العدد الأكبر من السكان – مصر والجزائر والمغرب – هو 24 و26 و26 على التوالي. حتى قبل الهبوط في أسعار الطاقة والانكماش في الاقتصاد العالمي، كانت آفاق استحداث وظائف كافية لكل هؤلاء العمّال الشبان بينما ينضمون إلى سوق العمل، تبدو ضئيلة جداً.
وليس السبب غياب المحاولات. فالحكومات العربية تعي تماماً أن النفط والمُلكية والسياحة تشكّل الحوافز الأساسية وراء جزء كبير من النمو في اقتصاداتها. إنها تعرف وتردّد دائماً أن عليها معالجة هذه الاختلالات في التوازن. في حزيران من العام الماضي، نشرت قطر “رؤية” اقتصادية مبهمة لسنة 2030. وفي مطلع العام الجاري، حذت أبو ظبي حذوها بوضع رؤيتها الخاصة لسنة 2030. تعبّر الاستراتيجيات الكبرى المماثلة عن كل التطلّعات العصرية إلى تحسين المهارات وتحرير سوق العمل وتقليص دور الحكومة واعتماد التنويع استباقاً لليوم الذي سينفد فيه النفط والغاز في نهاية المطاف. غير أن الحكومات تردّد هذا الكلام منذ عقود، ومما لا شك فيه أن النتائج متفاوتة.
استثمرت السعودية بكثافة في عمليات بيع الطاقة ونقلها، فأنشأت مدناً صناعية كبرى. وقبل الانهيار الأخير، بدا أن دبي التي تملك كمية قليلة نسبياً من النفط والغاز، قد أصبحت بيزنس ناجحاً، ومركزاً للتسوّق والسياحة مشابهاً لسنغافورة أو هونغ كونغ. وابتكرت الكويت فكرة حماية مستقبلها الاقتصادي عبر الاستثمار في المدى الطويل في اقتصادات الآخرين. يلفت سفين بهرندت من مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت إلى أن صناديق الثروات السيادية الضخمة التي تزداد تطوراً في دول الخليج حوّلت البلدان العربية لأول مرة قوة كبيرة في الاقتصاد العالمي انطلاقاً من موقع المستثمر الاستراتيجي لا مجرد المموِّن النفطي. وبدأت بعض البلدان التي تفتقر إلى النفط إنما القريبة من الأسواق الأوروبية والتأثير الأوروبي، مثل المغرب وفي صورة خاصة تونس، تبني اقتصادات منوَّعة.
غير أن الإصلاح الاقتصادي، الصعب في أي مكان، هو ذو صعوبة خاصة بالنسبة إلى الاقتصادات الريعية والأنظمة السلطوية في العالم العربي. يشير سفيان العيسى من البنك الدولي إلى أن الدول النفطية وغير النفطية على السواء تعتمد بصورة غير متكافئة على جمع الريع – إن لم يكن من النفط ففي شكل آخر مثل التحويلات المالية أو المساعدات أو القروض الخارجية. ويعتبر أن هذا الريع يُستعمَل للتخفيف موقتاً من وطأة الضغوط الاقتصادية والحفاظ على امتيازات النخبة وشراء الولاء المستمر للدولة. في الوقت نفسه، يواجه الإصلاح عراقيل بسبب نقاط الضعف المزمنة في البيروقراطية الحكومية والأنظمة القضائية المشوبة بالعيوب وغياب الشفافية السياسية أو المساءلة، والمصالح المتجذّرة لمن يفيدون من الترتيبات القائمة.
أسعار النفط المرتفعة نعمة ونقمة
يعني ذلك أنه عندما يزيد الريع، يتضاءل الحافز لمعالجة المشكلات الاقتصادية الأساسية. ويتذمّر أحمد هيكل من مجموعة “سيتاديل كابيتال” الاستثمارية التي تتخذ من مصر مقراً لها، من أنه عندما تكون أسعار النفط مرتفعة، تصبح الحكومات أقل حماسة لتشجيع الاستثمارات الخاصة. في دراسة لمركز كارنيغي للشرق الأوسط، يلفت الخبير الاقتصادي ابرهيم سيف إلى أن الطفرة الطويلة في الأسعار النفطية التي بدأت عام 2002 قضت على جزء كبير من النيات الحسنة لدول الخليج.
فقبل ذلك الوقت، كانت هذه الدول تنظر في زيادة الضرائب وفتح الاقتصاد أكثر على المنافسة من أجل معالجة العجوزات المتزايدة في الموازنات. غير أن أسعار النفط المرتفعة سمحت لها من جديد بأن تتهرّب من الإصلاح. ساهمت العائدات النفطية عام 2006 بحصة أكبر (86 في المئة) في الإيرادات الحكومية في بلدان مجلس التعاون الخليجي منها عام 2002 (77 في المئة)، وبلغت الضرائب الداخلية في المعدّل أقل من خمسة في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
من المستبعد إذاً أن يسمح ارتفاع آخر في أسعار النفط حتى للبلدان العربية التي تتمتع بنعمة امتلاك المواد الهيدروكربونية التي قد تتحوّل نقمة أحياناً، بأن تخلق اقتصادات متوازنة قادرة على تأمين عمل كافٍ لسكّانها الذين ينمون بسرعة. إذا لم تحدث معجزة ما، يواجه جزء كبير من العرب الذين يقفون الآن على عتبة سن الرشد، أزمنة صعبة وفترات طويلة من البطالة، في مجتمعات سدّت بصورة منهجية السبل السلمية والمؤسسية التي تقود إلى التغيير السياسي. لهذا يستنتج محللون كثر أن شيئاً ما سينهار بالتأكيد. هل ستستمر جماهير العرب في عض شفاهها والاستسلام؟ أم أن هناك خطراً بحصول انفجار؟
الإيكونوميست
النهار