المجتمع المدني من منظور اليسار الجديد
سربست نبي
ترى النظرية الليبرالية أنّ التهديد الرئيس والمباشر للحياة في المجتمع المدني يأتي من تمادي سلطة الدولة وهيمنتها على الحياة الخاصّة. والليبراليون عموما على قناعة راسخة بأنّ الحياة في المجتمع المدني تساوي الحياة الاقتصادية الحرّة والمفتوحة، من هنا فإنّ هذا التهديد المحتمل يكون عادة ذا فاعلية معطّلة لحياة الإنسان لجهة حقّه في التملّك والعمل بحرية. إنّ الفلسفة الليبرالية تبدأ من القناعة بأنّ الإنسان كائن مالك( لوك، ستيوارت مل، كونستانس)، وتنهي إليها لتفترض أنّ المجتمع المدني والاقتصاد غير قابلين للانفصال بالفعل، ولا تقبل الجدال حول إمكانية إقصاء الاقتصاد عن المجتمع، أو النظر إلى المجتمع المدني، على أنه أكثر من كونه مجتمع حاجات، أو كينونة مختلفة عنه. ولهذا السبب بالذات تجد التقابل الرئيس أو التمييز المعياريّ لا يتعدى حدّي العلاقة؛ مجتمع مدني/ دولة.
تأخذ النظريات الحديثة المخاوف التقليدية الموروثة عن المنظّرين الأوائل، أمثال آدم فيرغسون، وتوم باين، وحتى هيغل وماركس، على محمل الجدّ. فالتهديدات المحتملة للحرية والمساواة في المجتمع المدني لا تنحصر في سلطة الدولة، إذ تشكّل علاقات السوق الرأسمالية بدورها تهديداً حقيقياً ينبغي أخذه في الحسبان، وهو يتّخذ شكل ابتزاز وتوحّش وإفساد للروح الحيّة في المجتمع وتشويه للتواصل.
من هنا كان التحوّل الكبير نحو دراسة المجتمع المدني على أنّه شيء آخر غير الحياة الاقتصادية، التي غدت تهديداً محتملاً الآن، والنظر إليه بصفته مجالاً للتواصل والحياة الثقافية، أيْ بصفته نظاماً من الأفكار والمعايير والتصوّرات الأيديولوجية، التي تتّخذ استقلالاً جزئياً أكثر تعقيداً عن الاقتصاد. وبحيث لم تعد تلك العلاقة السببية الميكانيكية المعهودة بين الحدّين تكتسب أيّة أهمية معرفية هنا، وذلك بمنأى عن النزعة الاقتصادوية الاختزالية، ولعلّ المبشر الحقيقي بهذا الرأي كان المفكّر الماركسيّ الإيطالي أنطونيو غرامشي.
وهكذا تبلور لدى اليسار الجديد New Leftفي العقدين الأخيرين تصوّر جديد للمجتمع المدني بصفته فضاءً لتشكيل الهوية، وإعادة إنتاج الهوية والقيم الثقافية المشتركة، ومجالاً للتواصل والاندماج الاجتماعي. وتنطوي آراء الفيلسوف الألماني المعاصر يورغين هابرماس حول التواصل على أهمية خاصّة. وقد شرع على نحو خاصّ بدراسة الشروط الثقافية التي تتيح إعادة إنتاج المجتمع وتحويله، والبحث في العلاقة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي والطبيعي، أي دراسة الثقافة بصفتها عاملاً أساسياً في التحوّل الاجتماعي. وهنا يؤكّد هابرماس أننا لا نقوم خلال العمل بتحويل العالم الخارجي فحسب، وإنما نعمل على إعادة إنتاج العالم الروحي والثقافي عبر التفاعل والتواصل الرمزي عبر منح الأشياء والكائنات والعلاقات معنى جديداً وتأويلاً مختلفاً. وهذا ما يحدث في المجتمع المدني عبر التواصل والتفاعل، إنّ هدف التواصل في هذا السياق هو إنتاج المعنى وتبادله. والحال أنّ الدولة تتوسّط السلطة كوسيط تعمل من خلاله. ويشير هؤلاء إلى هذا الفارق بين الدولة والمجتمع المدني. فالسلطة هرمية وإلزامية، بينما التواصل مساواتيّ ويتّصف بالإقناع. فضلاً عن أنّ أحدهما غير قابل للحياة دون الآخر. فالسلطة من غير التواصل ستبدو أقرب إلى ما يشبه حالة الطبيعة الذئبية التي وصفها توماس هوبز. وبالمقابل يتعذّر علينا تخيّل التواصل أو المجتمع الحيّ من غير الدولة التي تقدّم الضمانات التي تحمي سلامته، رغم أنّ المجتمع يعدّ مصدراً لشرعية الدولة.[1]
وهكذا يقودنا تمييز المجتمع المدني Civil Society عن عالم الحاجات world of needs الاقتصادي بالإضافة إلى تمييزه عن الدولة إلى تمييز ثلاثة وسائط على التوالي، هي التواصل، المال، السلطة. وهذا التمييز يمنحنا إمكانية ملاحظة كيف أنّ نزعة الهيمنة الاقتصادية تؤدّي إلى السطو المتواصل على مؤسسات المجتمع المدني وتحويلها إلى مجرّد بؤر للنهب الاقتصادي، ومن ثمّ فإنّ الحرية والمساواة تبدوان في خطر دائم ويتمّ تقويض أسسهما.
وجد هابرماس إمكانية إيجابية في استخدام المؤسسات الليبرالية الديمقراطية لخدمة التحرّر، وقد راهن في هذا السياق على المجال العامّ ،Common Sphere بصفته امتداداً للمجتمع المدني، وبمثابته حقل لاختبار الأفكار والآراء والقيم والأيديولوجيات وتواصلها بحيث يغدو الرأي العامّ المنبثق عن هذا التفاعل قوّة سياسية مؤثرة وفاعلة. فالرأي عامّ هنا، كما يلاحظ، بثلاثة معان: إنّه يدور حول أمور عامّة، وانبثق في الميدان العامّ، وصيغ من قبل العموم، أي مواطنين تفاعلوا في المجال العامّ. بهذا المعنى يغدو النقاش النقديّ العامّ في العلن اختباراً للعقلانية والحقّ كما يقال، إذ يخضع سلوك الدولة وممارسات سلطتها لقوّة النقد العامّ من قبل المواطنين الذين يشكلون مصدّات اجتماعية وعقلانية رادعة لسطوتها، تتمثّل في وجود رأي عامّ مدقّق ومستنير يراقب سلوكها وينتقده ويوجّهه.
ولا يتردّد أصحاب النظرية النقدية هؤلاء من إظهار مخاوفهم من إمكانية استغلال الرأس المال للمجال العامّ وتحويله أيضاً إلى سلعة عبر وسائل الإعلان والنفوذ المتنامي لمصالح السوق، ويبحثون بالمقابل عن إمكانية تحويل المجال العامّ إلى نطاق مستقلّ للسّجال النقديّ والنقاش بمعزل عن التأثير المشوّه للسلطة والمال؟ وفي هذا السياق يشدّدون على أهمّية الحقوق المدنية عبر ضمانات شرعية ودستورية. ويلاحظ هابرماس أنّ الضمانات الدستورية وحدها عاجزة عن صون المجال العامّ من تلك التشويهات، ما لم يكن هنالك مجتمع مدنيّ فعّال.
إنّ ضمان استقلال المجال العامّ يبدو مشروطاً، من وجهة النظر هذه، باستقلالية الحياة الخاصّة للفرد، وضمان الحقوق الفردية التي من دونها تغدو الديمقراطية عرضة للشكّ. وهذه الحقوق تعني أساساً حرية القول والقدرة على التعبير والنقد والتأثير والمشاركة في الشأن العامّ بفعالية. من هنا يخلص هذا الاتّجاه إلى اعتبار الصوت- وليس التصويت مثلما اتّكأت عليه ديمقراطية القرن التاسع عشر- هي الوسيلة الأنجع لديمقراطية اليوم، أي توسيع نطاق القول بحيث يشمل الجميع، وخاصّة المهمشين، ويتناول كلّ شيء. وهذا هو المجتمع المدنيّ المدقرط. وهذا الأمر هو الذي يجعل الديمقراطية الحقيقية ممكنة، كما أنّ هذه الديمقراطية بالذات هي التي تمكّن من تحويل الاستبداد والهيمنة إلى نوع من الحكم اللامركزي.
[1] – لمزيد من التفصيل ينظر في:Chambers( S)،<>See :Chambers- Kymlicka(Ede.)،Alternative Conception of Civil Society
، Princeton University Press2002.
موقع الآوان