الحداثة كضحية متوقعة لتفاقم مشكلة البطالة
محمد الحدّاد
يتوقع أن لا يثير تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 أكثر مما أثارته التقارير السابقة، أي تعليقات متضاربة عند صدوره… ثم يطويه النسيان. وهناك أمر آخر يلاحظ في مصائر التقارير الإنمائية هو أنه يؤخذ منها جانبها السياسي وتعتبر القضايا الاقتصادية شبه ثانوية، رغم أننا نعيش عصر العولمة الذي أصبحت السياسة فيه مجرد واجهة دعائية للمشاريع والأطماع الاقتصادية الكبرى. وأضيف ملاحظة ثالثة قبل الدخول في جوهر الموضوع: إن مواصلة الحديث عن «تنمية عربية» في المطلق لم يعد له معنى. ينبغي التفكير في دراسـة حالات نموذجية كي تكون النتائج مفيدة ودقيقة، لأن أوضاع التنمية شديدة الاختلاف والتفاوت بين الأقطار العربية، ولا أتحدث فقط عن المعطيات والأرقام ولكن أيضاً التوجهات والخيارات والتوقعات المستقبلية.
ما لفت انتباهي في التقرير الأخير الصادر ببيروت منذ أيام هو قضية البطالة وتهديداتها المستقبلية. إن المتانة النسبية للعلاقات الأسرية قد امتصت على مدى قرون أزمات البطالة، وبفضل التكافل الأسري كان العاطل من العمل في مجتمعاتنا لا يعيش حالة الضياع التي يعرفها مثيله في المجتمعات الغربية المصنعة. ولا أدري إلي أي مدى يمكن الوثوق بالكثير من الأرقام التي تضمنها التقرير حول أعداد العاطلين من العمل من العرب، لأن أرقام بعض البلدان لم تتغير منذ عقود. وثمة أصلاً مشكلة مفهومية في تعريف العاطل من العمل في مجتمعات لا تعدّ العمل حقاً لكل قطاعاتها أو يرى البعض فيها أن التسجيل على قوائم طالبي العمل يعتبر عيباً وفضيحة.
والبطالة هي بلا شك إحدى مشاكل العصر الكبرى، عادت بقوة مع العصر الثاني للعولمة الذي بدأ في تسعينات القرن المنصرم، وستحتدّ بسبب السياسات الاقتصادية الليبرالية وتحويل المؤسسات إلى البلدان التي تقدم العمالة الأكثر رخصاً والتخلي عن الدور التعديلي الذي كانت تضطلع به الدول في المجال الاقتصادي، كل ذلك سيؤدي إلى تراجع فرص العمل و تراجع مستوى عيش الأغلبية من الناس وقبول هؤلاء ما لم يكن مقبولاً كي لا يخسروا وظائفهم.
وإذا كانت المشكلة بهذه الصفة ذات طابع عالمي إلا أنها في المجتمعات العربية ستكون أكثر حدّة لعدّة أسباب: أولها أن الاتجاه العالمي الآن يسير نحو «تحرير» المجتمعات من التدخل الاقتصادي للدولة كي ينمو القطاع الخاص ويوفر مواطن العمل البديلة، لكن في المجتمعات النامية يقع فرض سياسة تقليص تدخل الدولة دون أن يكون القطاع الخاص قادراً على النمو بالقدر الذي يجعله يعوض الخسائر في فرص العمل، لأنّ جزءاً كبيراً من هذه الفرص كان زائداً على الحاجة الاقتصادية خاضعاً لمبدأ توفير السلم الاجتماعي بتوفير فرص العمل بقطع النظر عن الجدوى الاقتصادية. وثانيها أن سياسة امتصاص جزء من البطالة عبر الهجرة العربية إلى البلدان الغنية، أو هجرة العمالة العربية إلى البلدان العربية الغنية، قد بدأت تتقلص منذ سنوات، فكل البلدان أصبحت تعاني من البطالة وتمنح الأولوية لمواطنيها أو الذين بادروا بالهجرة إليها منذ عقود. وثالثها أن الارتفاع العالمي للأسعار والانفتاح الطوعي أو القسري على الاقتصاد العالمي سيجعل الأسرة أقل قدرة على المساهمة في التخفيف من وطأة البطالة، ويكفي أن نلاحظ في هذا المجال أنّ بعض الحاجــات الضرورية، مثل السكن، أصبحت معقدة جدّا ولا يمكن توفيرها بمجرد الإعانة الأسرية.
إذا كانت فرص الحلّ الاقتصادي لقضية البطالة محدودة وفرص تفاقم المشكلة مؤكدة فإن ذلك يعني أننا مقدمون على أزمة كبرى. ويتوقع البعض أن تأخذ هذه الأزمة شكل انفجار اجتماعي، لكني أميل إلى توقع آخر أدعوه بالامتصاص الثقافي لأزمة البطالة. تقول القاعدة: إذا لم تجر الأمور في مستوى توقعاتك فاخفض من توقعاتك كي تكون في مستوى الأمور، والمجتمعات أيضاً يمكن أن تسير على هذه القاعدة: إذا لم يتيسر تحقيق 50 مليون فرصة عمل التي يقول أصحاب التقرير إنها ضرورية لتعديل العرض والطلب على سوق الشغل إلى حدود عام 2020، فيمكن أن يتنامى الطلب بحرمان فئات اجتماعية من حق العمل، وأولها المرأة طبعاً التي لم تحصل إلا حديثاً على هذا الحقّ، ويكفي تحقيق بعض الانتكاسات الثقافية لتصبح العودة إلى أوضاع سابقة مقبولة. بل تصبح مطلوبة أيضاً بمقتضى إعادة تفعيل الرؤية العميقة التي تعتبر البيت هو المكان الطبيعي للمرأة، كما كان يقول معارضو تحررها قبل عقود. وسيضاف هذا العنف الثقافي إلى ما أبرزه التقرير من أشكال العنف المسلطة على المرأة، مثل الضرب والاغتصاب.
وفي الوضع الحالي، لن يكون هذا المنحى غريباً، بل سيضع لبنة أخرى في حركة التراجع عما حققته مجتمعاتنا من مكتسبات حداثية، وسيكون المتضرر المشروع الحداثي كله الذي لا يمكن أن يستقيم من دون مبدأ المساواة التامة بين الجنسين.
الحياة