مقدمات لفهم العلاقات العربية الكوردية
سربست نبي
تتحقق العلاقة بين أمتين من الأمم على مستويات شتى. وهي تتأثر بشروط متنوعة، منها ماهي راهنة، ومنها ماهي تاريخية لاتزال فاعلة في الحاضر إلى حدّ ما. وعلى تلك الشروط تتوقف مستقبل العلاقة وطبيعتها ومستوى تطورها اللاحق. وعلى النقيض من الأمم المتباعدة، فإن علاقات الأمم المتجاورة، تبدو أكثر تعقيداً وتشابكاً وتركيباً، إذ تلعب فيها العوامل الجغرافية والديموغرافية دوراً حاسماً في تقرير مصائرها.
إن مقدمات العلاقة العربية- الكوردية ليست مستقلة بأي حال من الأحوال عن التاريخ المشترك والجغرافية السياسية. فالعرب والكورد محكومون بالتاريخ والجغرافية بدرجة كبيرة، ومرغمون على التعايش في حدود التاريخ الراهن على الأقل. ويمكن دراسة تلك العلاقات وفهم طبيعتها انطلاقاً من هذه المقدمات بالذات، وملاحظة تطورها، والتكهن إلى حدّ كبير بمستقبلها.
المستوى الجيوسياسي: شاءت إرادة تاريخية متغطرسة واعتباطية إلى حدّ كبير، خارجية ومفارقة، إقحام القوميتين في مجال جيوسياسي مشترك في الربع الأول من القرن العشرين، انشطر فيما بعد إلى كيانين سياسيين مستقلين، هما سوريا والعراق. في واقع الأمر لم تكن الأدوار بين القوميتين متكافئة في أيّ وقت من الأوقات، ولهذا افتقرت العلاقة بينهما إلى التوازن المطلوب ضمن إطار( الدولتين). وفيما عدا مراحل قصيرة من تطورهما فأن العزلة السياسية والإقصاء والتهميش كان يشكل خلاصة الدور الكردي في الحياة العامة.
كان من الطبيعي أن يكون هذا هو شأن الكردي في دول قومية جزئية( قطرية) عدّت من ذاتها عتبة تاريخية، مؤقتة وعارضة، للوصول إلى الدولة القومية الشاملة والمنشودة، واختزلت في ذاتها هذه الشرعية السياسية والتاريخية، بصفتها الممثلة للمشروع القومي الوحدوي. ومن ثم يعدّ الاعتراف بأية تعددية ممكنة أو محتملة، من وجهة نظرها، خطيئة أيديولوجية لايمكن التهاون إزاءها. ومن هنا أخذت تنظر نظرة ارتياب وحذر إلى مواطنيها من المختلفين قومياً، واعتبرت طموحهم إلى المساواة السياسية ضرباً من الهرطقة والجحود الوطني.
أعرضت الدولة القومية العربية النظر عن الاحتمالات الواقعية والتاريخية للتنوع القومي لديها، بل وعمدت إلى إسكات صوت الآخر/ المختلف وقمعه، واندفعت إلى تحقيق ذلك بخطاب أيديولوجي وتعبئة اجتماعية، بعدّها الآخر( الكوردي في هذه الحالة) عقبة جيوسياسية أمام اكتمال هويتها ومشروعها القومي. فهي لا تشعر بالطمأنينة بوصفها دولة قومية ما لم تعمد إلى هذا التصرف بصورة دائمة مستعيرة صوت الأمة ولغتها، ومتحدثة باسم شرعيتها التاريخية.
وبالنتيجة قادت ممارسات الدولة القومية إلى تجاهل مشكلات الإنسان والمواطن وحقوقهما، وإلى تغييب الديمقراطية السياسية كمشروع لها. وبدت المساواة في المواطنة نافلة أمام مطالبها الأيديولوجية القومية المطلقة، ولايزال هذا هو التحدي الحقيقي أمام نشوء الدولة الوطنية الحقيقية.
المستوى التاريخي: ليس ثمة تاريخ خاص ومستقل لأيّ من الأمتين بمعزل عن الآخر منذ هيمنة الإسلام على ميسوبتاميا وبلاد الشام. وفي حدود هذا التاريخ صار العربي يواجه تاريخه القومي كأنه تاريخ غير عربي في آن، إنه كوردي وفارسي و. و. بمقدار ماهو عربي. وبالمقابل فإن الكوردي، وفي حدود كونه كوردياً، صار يتناول تاريخه الخاص في سياق التاريخ العربي وتاريخ الآخر بوجه عام.
إذن، ليس هنالك تاريخ قومي خالص ومنفصل عن الآخر، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات ومستوى التفاعل المتبادل بين الطرفين. وهذه العتبة التاريخية والمنهجية هي التي ينبغي الانطلاق منها لدى دراسة التاريخ القومي لدى كل جماعة. أي ينبغي دراسة التاريخ الخاص ومعالجته دائماً في علاقته بالتاريخ العام، دون الإطاحة بخصوصية التطور التاريخي المشخص لمصلحة العام المجرد.
بيد أنه من الواضح والمألوف جداً أن كتابة التاريخ لدى الآخر، العروبي هنا، غدا كتابة ذاتية خالصة، لا تجد أية أهمية أو دور للمختلف عنها ثقافياً. كتابة تنحاز بقوة إلى إبراز التمثيلات والأوهام الأيديولوجية التي تعزز على نحو مبالغ الدور الذاتي وتكرّس من شأنه الحضاري. وتفتقر الثقافة العروبية الراهنة بعمق إلى اليقين الموضوعي بقدرة الآخر على التأسيس والإسهام الحضاري، ويتعذر عليها القبول بتصور قوامه تنوع الذوات الفاعلة في التاريخ، وبسبب ذلك تعمد باستمرار إلى إقصاء دور الآخر وتغيبه لدى كتابة التاريخ، بحيث استحال هذا التاريخ لديها إلى تاريخ قومي صرف.
المستوى الثقافي: ينطوي هذا المستوى من العلاقة على تكثيف شديد لدرجة التفاعل بين الهويتين يتعذر التفصيل فيها بعبارات عامة وموجزة. فهو يشتمل على مجمل الثروة الرمزية المشتركة، والمعايير ومنظومة القيم والأحكام، والأنساق، والتصورات المتبادلة الناشئة عن التفاعل في المراحل التاريخية المختلفة.
و يتطور المستوى الثقافي من العلاقة، بهذه الصفة، بتطور المستويين السابقين ولا ينفصل عنهما بأي حال من الأحوال. ويمثل المسرح الحقيقي للتنازع والصدام، والهيمنة، والحوار، والتواصل كله، ونطاق لتأكيد الذات في علاقته مع الآخر بصفته هوية مستقلة.
يشكل الإسلام والعقائد الإسلامية المقدمة التاريخية الكبرى لهذا التواصل. وقد تعاظم دور الإسلام بصفته العقيدية الشاملة في سياق التطور التاريخي. وكان من شأن الهيمنة الشاملة على مجالات الحياة كلها، أن خلق نوعاً من الوحدة والاستمرارية في الرؤى وفي طرائق التفكير، والمثل ومنظومة القيم الأخلاقية، والتقاليد وغيرها لدى الشعوب المسلمة.
ومع هذا لم تمنع السيادة اللاهوتية الشاملة للخطاب الإسلامي على المجالات الفكرية والاجتماعية من تطور الخصوصيات القومية والهويات الثقافية المستقلة وتفاعلها. والحال أن هذا التطور تعزز أكثر في الأزمنة الحديثة بنشوء الهويات الخاصة والثقافات القومية، التي تمحورت أكثر على الوعي بالمصالح الدنيوية المباشرة للجماعة القومية.
هنا يغدو الحديث عن العلاقات العربية الكوردية ثقافياً محكوماً بالاعتبارات السياسية المباشرة وممارسات السلطة المهيمنة. وكل حديث عن العلاقة ثقافياً إنما يعكس شكل التعامل السياسي مع الآخر. ولا يعود مجدياً النظر إلى الثقافة على نحو مجرد، بوصفها محض ثقافة، وقد غدت جزءاً فاعلاً ورئيساً من تركيب الخطاب القومي بأنساقه السياسية والاجتماعية وغيرها.
كرّست الثقافة العروبية الحديثة العلاقة مع الكوردي وشأنه من منظور فوقي واستعلائي، لاترى فيه، في أحسن الأحوال، سوى تابع مخلص. واختزلت ثقافته إلى مجرد هوامش أو تذييل على الثقافة الأصل ( المركزية) العربية.
وبالمقابل تعيّن على الكوردي إثبات الذات ثقافياً والبرهان على جدارته في علاقة ندّية وتواصلية مع الآخر، قائمة على الحوار والاعتراف المتبادل. إن إثبات الذات نقديّاً يتم هنا بطريقة سالبة، أي عبر دحض مقولات الآخر وتصوراته الزائفة عن الذات الجمعية، ومن خلال نفي مفاهيمه الأيديولوجية وأقانيمه التي تطغى على قاعدة تغييب وإقصاء حقيقته الوجودية والإنسانية عموماً. إنها بمثابة قراءة لثقافة الآخر من موقع الأنا، ومن موقع إعادة إنتاج الذات ثقافياً وسياسياً بإزاء خطاب الآخر، وهي قراءة لا تنفيه أو تلغيه، وإنما بخلاف طريقته المعتادة، تؤسس لعلاقة تواصلية جدلية معه، هي في طبيعتها علاقة ندّية تقوم على المماثلة في الجدارة الإنسانية وفي الهوية، وفي الكفاءة العقلية والأخلاقية.
بعبارات تالية، كان على الثقافة أن تنزع في مواجهة الثقافة التي تبرر الهيمنة والإقصاء، إلى إثبات قدرتها على طرح خطاب موازٍ أو مضاد، ليس من موقع إلغاء الآخر أو تغييبه، ولكن من موقع إثبات الأنا، التي ترفض التصورات الزائفة عنها إذ تبرر العلاقة غير المتكافئة بينها وبين الثقافة السائدة. وهذا الموقف يمكن أن نعدّه إشهاراً لحضور الذات على مسرح التاريخ، وتأكيد بمواجهة تغييب الآخر لها أو تهميشها. إنه نوع من ممارسة الحرية والسلطة على تخوم السلطة الواقعية للسياسة، التي تدفع بها إلى الهامش، إنها سلطة الثقافة التي تنزع إلى فرض ذاتها في مقدمة المشهد.