الليبراليّة : ما لها و ما عليها: نقاش في «حوار» أهل اليسار
اسكندر منصور
-1-
شكل انهيار المشروع الاشتراكي بصيغته السوفياتيّة وفشل الأنظمة القوميّة والاشتراكيّة العربيّة في تحقيق أي من شعاراتها، في الوحدة والحريّة والاشتراكيّة، وجنوحها نحو الديكتاتوريّة والاستبداد، بالإضافة إلى بروز الحركات الإسلاميّة كلاعب فاعل على الساحة العربيّة وغياب كلي لدور فاعل لليسار العربي، كل هذا شكل أرضاً خصبة لعودة الخطاب الليبرالي إلى الساحة الفكريّة العربيّة في أوساط بعض المثقفين، دون أن يستطيع أن يشكل حالة مؤثرة في الوعي العربي الحديث لدى العامة. عاد مصطلح الليبراليّة يبرز، سلبا وإيجاباً، في كثير من المقالات المنشورة في الصفحات الثقافيّة والفكريّة، وخاصة في الحوار الذي دار بين أنصار «إعلان دمشق» وناقديه، دون أن يكون هناك تعريف واحد ومحدد لهذا المصطلح. غياب التعريف/ التحديد يعود إلى تاريخ نشوء وتطوّر مفهوم الليبراليّة التي أصبحت نصاً مفتوحاً للتأويل في تاريخ الفلسفة السياسيّة. في دراسته للفكر العربي في عصر النهضة، حاول المؤرخ المعروف ألبرت حوراني أن يضفي صفة الليبراليّة على الفترة الممتدة بين 1789ـ 1939، مما أثار كثيراً من الأسئلة عن مدى ليبراليّة هذه المرحلة ومدى انتشار وتأثير المفكرين الذين قرأهم حوراني في الوسط الفكري العربي ـ الإسلامي.
برهان غليون بين اليساريّة والليبراليّة
في «الليبراليّة وتجديد ثقافة العرب السياسيّة» (الاتحاد يناير 16، 2008) يتناول برهان غليون النظرة الشائعة الى الليبراليّة التي تتمحور في ثلاثة اتجاهات. أولها أنّ الليبراليّة متمسكة بعلمانيّة مناقضة للفكر الديني وتكنُّ عداءً له؛ وثانياً: أنّ الليبراليّة تحمل برنامجاً اجتماعياً نقيضاً لمصالح الأكثريّة الساحقة من الفئات الشعبيّة ومعبِّراً عن مصالح الأقليّة الطبقيّة المهيمنة على وسائل الإنتاج. وثالثاً: أنّ الليبراليّة لا تشكل نقيضاً لمصالح الاستعمار والإمبرياليّة بل على العكس تصالحت مصالحها مع «الاستعمار والسيطرة والتعلق بأذيال الدول الغربيّة والاستقواء بها أو الانحياز إلى معسكرها».
هذه هي التهمة الشائعة عن الليبراليّة على حد تعبير غليون. أما ما هو حقيقة وخارج التهمة بنظره فهو أنّ الليبراليّة بجوهرها ليست معادية للدين و لا تعبِّر عن تماه بينها وبين البرامج الاجتماعيّة التي تتبناها القوى اليمينيّة المحافظة في الدول الصناعيّة الغربيّة، كما أنها ليست بالضرورة لا تحمل بعداً تحررياً من الهيمنة الإمبرياليّة. انها محاولة لإعادة الاعتبار من جديد لفكر يحمل في جوهره عنوان الحريّة وبعداً تحرريا للفرد من هيمنة الدولة ومؤسّساتها، وكذلك من هيمنة المؤسّسات الاجتماعيّة التي لا تعترف بالإنسان الفرد الطامح نحو الحريّة بكل أشكالها. جوهر هذه القراءة لليبراليّة يقوم على الفصل بين الفلسفة الليبراليّة ودعوتها وقيمها من جهة، والليبراليّة المحقَّقة بكل صيغها، بما فيها الليبراليّة الجديدة «المتوحشة» من جهة أخرى؛ بالإضافة إلى الدعوة لحوار ومصالحة وتعاون بين اليساريّة والليبراليّة على قاعدة أنّ الفكرة اليساريّة لم «تأتِ نقيضاً لقيم الليبراليّة، بل جاءت من داخلها، وباسم تحقيقها الفعلي».
هكذا جاءت اليساريّة في نظر غليون لتعيد إلى الفلسفة الليبراليّة أصالتها القائمة على فكرة التحرر والحرية بعدما أطاحها الليبراليّون الجدد. بهذا يعطي غليون دوراً جديداً لليسار وهو حماية تراث الليبرالية مما تعرّض له من «تشويه» و«انحراف» عن المهمة الأصيلة التي أوكلتها إليها القوى الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسيّة الصاعدة تاريخيا في البلدان الصناعيّة. وهكذا تصبح اليساريّة نزعة محافظة همها الحفاظ على «جوهر» الليبراليّة وأصالتها بعدما حرفها الليبراليّون الجدد عن مسارها الأصيل، لأنه على حد تعبير غليون «ليس هناك أي سبب لأن يكون الليبرالي مستلب الإرادة وملتحقا بالاستراتيجيات الغربيّة. فالليبراليّون هم بناة الأسواق القوميّة باعتبارها مفرخة للرأسماليات الوطنيّة. وكان دفاعهم عن السيادة مرتبطاً بإيمانهم بأنّ الدولة لا تخضع لأي مرجعيّة أخرى غير مرجعيّة الإرادة العامة للمواطنين المكونين لها».
لا بد من الإقرار بأنّ المفاهيم لا تولد خارج التاريخ وحركته، وليست بثابتة. إنها حركة دائمة تحدد معانيها حركة التاريخ وشروطه التي، كما علمنا ماركس وكثير من المفكرين، ليست سوى حركة الإنسان في إنتاجه الفكري والمادي وعلاقته مع محيطه والعالم. فمن الليبراليّة الكلاسيكيّة، ليبراليّة جون لوك السياسيّة وليبراليّة آدم سميث الاقتصادية، إلى الليبراليّة الاجتماعيّة، ليبراليّة «نيوديل» التي أثنى عليها الاقتصادي المعروف كينز والتي قدمها وتبناها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت للخروج من أزمة 1929 الاقتصاديّة، حيث سار باتجاه معاكس للرئيس هوفر الذي كان متمسكاً بالليبراليّة الكلاسيكيّة وعنوانها «الاقتصاد الحر» القائم على غياب فعلي وملحوظ للدولة ودورها؛ وأخيراً الليبراليّة الجديدة، المنقضّة على المنجزات الاجتماعية, والتي شكلت انقلاباً بقيادة ريغان وتاتشر للعودة إلى روح «الليبراليّة الأولى» ليبراليّة ما قبل «نيوديل» و«المجتمع العظيم» للرئيس جونسن. إنّ تأويل الخطاب الليبرالي في الظروف والواقع العربيّين يقودنا إلى طرح جملة من الأسئلة.
اولاً: أليس غياب القوى الاجتماعيّة الصاعدة والطامحة إلى الاستقلال وحمل المشروع الليبرالي ميزة المجتمعات العربيّة الراهنة؟ لماذا هناك غياب لهذه القوى الطامحة الى احتلال موقع فاعل و«مستقل» في الاقتصاد الوطني يساهم في تثبيت كيان الدولة الفاعلة إلى جانب الأحزاب والنقابات وكل منظمات المجتمع المدني التي بدونها لا نستطيع أن نتكلم عن الليبراليّة؟ وهل هناك إمكانيّة لبروز هذه القوى والعمل بشكل مستقل غير تابع اقتصادياً وسياسياً في ظل العولمة الراهنة حيث يكونون كما عرّفهم غليون بناة الأسواق القوميّة؟ أين هي الأسواق القوميّة التي بناها الليبراليون ذات القاعدة الاقتصادية الصلبة والقادرة على الاستمرار والمنافسة، خاصة في زمن العولمة؟ هل سياسة «الانفتاح»/ الخصخصة التي انتهجها أنور السادات القائمة على بيع القطاع العام وقاعدته الصناعيّة التي نشأت في زمن جمال عبد الناصر وإحلال قطاع الخدمات الخاص محلها هي طريق الليبراليين نحو بناء «الأسواق القوميّة»؟
ما يقوله غليون صحيح، ولكن في الواقع الأوروبي، حيث أنجزت الليبراليّة مشروعها الاقتصادي والسياسي والحداثي القائم على التحرر من سلطة الكنيسة وهزيمة القوى الإقطاعيّة لمصلحة الرأسماليّة الصاعدة، بمشروعها الحداثي الثوري. أما في الواقع العربي فليس من أثر فاعل ومؤثر لهذه القوى ومشروعها الطامح نحو الحداثة والمتحرر من الثقافة التقليديّة النقيضة للحداثة. إن أي بحث عن دور حقيقي لليبراليّة لا يحتاج فقط إلى ليبراليين بل أيضاً إلى القاعدة الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة التي عليها تقف الليبراليّة شامخة تقارع قوى التقليد والاستبداد.
الحوار بين اليساريّة والليبراليّة
وقفت الليبراليّة عند حدود الحريّة الفردية عاجزة عن تقديم الحلول (ومسِّببة) للأزمات الاقتصادية والاجتماعيّة في العالم الليبرالي/الرأسمالي، فجاءت الماركسيّة من داخلها وكنقيض، بمعنى البديل، لها لمتابعة مسيرة الإنسانيّة نحو الحريّة بكل أبعادها السياسيّة والاجتماعيّة دون الفصل بينهما. فبعد أن حُدّدت وتحدّدت الليبراليّة كحاملة لواء «اقتصاد السوق»، جاء اليسار الماركسي ليطرح الديموقراطيّة كبعد سياسي عوضا عن مفهوم الحريّة الفرديّة، التي بنظره، اقتصرت الليبراليّة على رفع لوائه. كون اليساريّة جاءت لمتابعة ما عجزت عنه الليبراليّة، لا يعني أنّ الحوار والالتقاء بين التيارين غير مثمر وغير ضروري في بعض المجتمعات العربيّة. فبالنسبة لدعاة الحوار وأنصاره، هناك أرضيّة مشتركة بين اليساريين والليبراليين، وخاصة في البعد السياسي. فاليساري كما الليبرالي الحقيقي يطمع إلى نظام سياسي يقوم على الفصل بين السلطات التشريعيّة والتنفيذية والقضائيّة؛ واليساري أيضاً كما الليبرالي الحقيقي يطمح إلى نظام سياسي يقوم على تداول السلطة السياسيّة نتيجة عمليّة انتخابيّة تفرز أقليّة وأكثريّة؛ واليساري كما الليبرالي الأصيل يعمل من أجل تعزيز هيئات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات خارج هيمنة الدولة.
هذه نقاط مهمة في الواقع العربي، حيث إنّ وجود الأحزاب السياسيّة والهيئات النقابيّة والاجتماعيّة ووجود إعلام حر وممارسة انتخابيّة نزيهة من الأمور الغائبة والمحظورة في غالبيّة الدول العربيّة، رئاسيّة كانت أم ملكيّة؛ كما أنها يجب أن تكون من أولويات المعارضة في كل من هذه الدول. فمن هذا المنظار فقط، السياسي لا الاقتصادي، تتقاطع الليبراليّة وبرنامجها السياسي مع اليساريّة دون أن تنحرف هذه الأخيرة عن أهدافها في الديموقراطيّة والاشتراكيّة أو ترفع لواء اقتصاد السوق الذي بقي حصراً ماركة ليبراليّة بامتياز.
-2-
أسئلة كثيرة تطرح على اليساري:
ما الذي يمنع اليساري والذين يقولون في كثير من البلدان العربيّة بحريّة الرأي والأحزاب ووجود منظمات مدنيّة ونقابيّة مستقلة فاعلة خارج إطار الدولة وإن كانوا يقولون باقتصاد السوق من الالتقاء؟
طبعاً هناك وجهة نظر تقول بعدم فائدة هذا التعاون/ الحوار. وهذا ما بدا من خلال النقاش الدائر بين أنصار «إعلان دمشق» وناقديهم. فمثلاً سلامة كيلة في نقده لإعلان دمشق وأنصاره يؤكد على ليبراليّة القوى «المهيمنة» … «في إطار الليبراليّة المتوحشة»، حيث إنّ «السياسات الاقتصادية يجب أن تقوم على الحريّة واقتصاد السوق والتخلي عن دور الدولة». (الأخبار 24 نيسان 2008) فبنظره أنّ غياب القضية الاجتماعية والتمسك بالحريّة المجردة عن مفهوم العدالة لا يؤسسان لبديل مستقبلي لنظام الاستبداد. هذا النقد لتيارات «إعلان دمشق» قاد بعض اليساريين أيضاً لطرح مقولة «حرق المراحل» ومحاولة استيعاب الليبراليّة «في الوعي كمقدمة لوعي مرحلي تاريخاني (كما كان يسميه عبد الله العروي) من دون أن تكون مرحلة ضرورية في التطور الواقعي. أي دون المرور بالرأسماليّة». (الأخبار 24 نيسان 2008). إن حساب حقل حرق المراحل لا ينطبق على بيدر التجارب الاشتراكيّة المنهارة حيث كان عمر التجربة التي قادها لينين في «السياسة الاقتصاديّة الجديدة» قصيراً والتي قضى عليها ستالين بخططه الخمسّية فمهّد الطريق لنشوء رأسمالية الدولة. هذا الموضوع ـ حرق المراحل ـ يستحق درسا ونقاشا واسعين لأنه لا يزال مفهوماً نظرياً لم تبرهنه التجارب الملموسة منها، خاصة التجربة السوفياتيّة وباقي الدول الاشتراكيّة السابقة. فتجربة اليسار الماركسي في الدول الاشتراكيّة سابقا لم تقدم لنا سابقة في الممارسة الديموقراطيّة يستطيع اليسار العربي أن ينتمي إليها نظرياً. فالعودة إلى الكتابات الماركسيّة الكلاسيكية كما جاء في بعض كتابات بعض الماركسيين العرب المنشورة على صفحات الجرائد، من أجل إعلان حرب بين اليسار والقائلين بالليبراليّة في المجتمعات العربيّة دون التوقّف قليلاً في تجربة وممارسة الدول الاشتراكيّة السابقة، حيث غابت عنها الممارسة الديموقراطيّة في حين ازدهرت هذه الأخيرة بعد الحرب العالميّة الثانيّة في الدول الأوروبيّة الغربيّة مع دور فاعل لليسار الماركسي الأوروبي في تعزيز هذه الديموقراطيّة، غير كافية لإعلان دفن جدوى الحوار بين اليساريين والليبراليين في الواقع العربي، تارة باسم حصر الليبراليّة ببعدها الاقتصادي فقط ـ اقتصاد السوق ـ وتجريدها من تجربتها السياسيّة الغنيّة، خاصة التجربة الأوروبيّة المستمرّة.
لكن هذا الالتقاء والحوار وفي ظروف بعض المجتمعات العربيّة يصبح بحاجة إلى نظر ويطرح بعض الأسئلة. ماذا يعني الحوار بين اليساري والليبرالي في لبنان؟ من هم الليبراليون في لبنان؟ إن حصر الليبراليّة باقتصاد السوق يجعل من كل زعماء الطوائف ليبراليين، كونهم من دعاة اقتصاد السوق. فبالرغم من أن أكثر الزعماء يتفقون حول اقتصاد السوق فهم عاجزون عن أن ينجزوا ما أنجزته الليبراليّة في المجتمعات الأوروبيّة. أي بناء دولة حديثة ذات نظام سياسي عابر للطوائف علماني ديموقراطي يقوم على تداول السلطة من خلال وجود أكثريّة وأقليّة نتيجة نظام انتخابي عصري. إذاً السؤال: لماذا ليبراليّة اقتصاد السوق في لبنان عاجزة عن كسر الحواجز الطائفيّة وبناء دولتها الحديثة؟
في محاولته لإعادة الاعتبار إلى الليبراليّة بعد «تشويها»، يعترف غليون بأنه فقط «في البلدان الفقيرة والضعيفة وحدها تبدو السياسات الليبراليّة مدانة بالتبعية، لحاجتها إلى الاستعانة بالخارج وأحيانا بالحماية الأجنبية للتعويض عن ضعف قاعدتها الاقتصادية والاجتماعية. لكن ليست هذه جزءاً من الفلسفة الليبراليّة ولا امتداداً ضرورياً لها. فالليبراليّة غير الليبراليين ولا ينبغي خفضها إلى مستوى ممارستهم التاريخيّة، تماماً كما أنه لا ينبغي توحيد الفكرة القوميّة آليا مع ممارسات من يتبنون قيمها ومبادئها. وهو ما ينطبق أيضا على الفكرة الاشتراكيّة والإسلاميّة» (الاتحاد 16/يناير 2008)
هنا يحيلنا غليون إلى الكتب والنصوص لمعرفة المعنى الحقيقي لكل من الليبراليّة و القوميّة والاشتراكيّة و الإسلام. كل ما هو خارج النص ليس بأصيل بل هو واقع مشوه لا يعكس مغزى النص وحقيقة مقاصده. من وجهة نظر غليون فلا يجوز أن نحكم على الليبراليّة من خلال ممارسة الليبراليين؛ أو الاشتراكيّة من خلال ممارسة الاشتراكيين؛ أو القوميّة من خلال ممارسة القوميين على حد قول غليون. هكذا يبقى الفكر منزّهاً عن الواقع وخارج التاريخ وممارسته. أول خطوة لتنزيه الفكر الاشتراكي أو القومي أو اليساري أو الليبرالي عن ممارسة الاشتراكيين و القوميين واليساريين والليبراليين لا تتم في الفصل بين الفكر والممارسة كما يفعل غليون بل بإعادة تأويل النصوص وكتابتها على ضوء التجارب الجديدة.
الليبراليّة وخيانة الأصالة
لم تكن الليبراليّة دائماً أمينة لقيمها. فالمنظمات الاقتصادية والسياسيّة والاجتماعيّة: كالأحزاب السياسيّة والنقابات والمؤسسات التعليميّة والإعلاميّة تتمتع بفسحة كبيرة من الحرية والنشاط في ظل الدولة الليبراليّة لا تتمتع بها في ظل الدولة السلطويّة/الديكتاتوريّة بكل أشكالها، أكانت رئاسيّة بقيادة الحزب الواحد أو ملكيّة في ظل العائلة الحاكمة. هذا ما أفادتنا به التجارب الملموسة، إن كان في التجربة الديموقراطيّة الأوروبيّة بعد الحرب العالميّة الثانيّة مقارنة مع التجارب في الدول الاشتراكيّة السابقة أو في بلدان كمصر والعراق وسوريا والجزائر والسعوديّة وأخواتها. أما هذا الواقع، واقع الحريات الفرديّة والسياسيّة والنقابيّة، فلم يكن دائماً مصاناً ومضموناً في ظل الحكم الليبرالي. فخلال الحروب يصبح دور الدولة هو المهيمن والمقرر على حساب المنظمات المدنيّة كالأحزاب والنقابات والمؤسسات الإعلاميّة. فعلى سبيل المثال: في بداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركيّة تقلّصت فسحة الحريّة الفرديّة والسياسيّة في الولايات المتحدة الأميركيّة التي لم تكن أصلاً ممنوحة لكل المواطنين (الأميركيون من أصل أفريقي لم يكونوا قد حصلوا بعد على حقوقهم السياسيّة) على حساب الحريّة الفردية وحريّة الرأي وحريّة الممارسة السياسيّة، حيث صعدت المكارثيّة خلال الخمسينيات من القرن الماضي كتعبير فاضح لخيانة الليبراليّة لأهم مقوماتها السياسيّة. كما أنه خلال حرب فيتنام كانت الحركة المناهضة للحرب موضع الشبهات ليس فقط من قبل مؤسّسات الدولة الأمنيّة بل تعدى ذلك لوسائل الإعلام ودوائر الأبحاث في المؤسّسات الأكاديميّة. وعلى أثر حوادث الحادي عشر من أيلول 2001 والهجمات الإرهابيّة على مركز برجي التجارة في نيويورك، بدأت حملة واسعة ليس فقط للحد من الحريّة الفرديّة والسياسيّة للعرب والمسلمين الأميركيين بل حصلت تغيّرات دائمة في القوانين وافق عليها الكونغرس الأميركي لتصبح قوانين دائمة تطال الحريات الفرديّة للمواطنين الأميركيين وأصحاب الإقامات الدائمة وحتى المواطنين في الولايات المتحدة الأميركيّة.
المثقف الليبراليّ والإعلام
يدّعي المثقف الليبرالي بأنه مثقف مستقل لا ينتمي إلى مؤسسات إعلاميّة مملوكة ومموَّلة من أفراد ينتمون إما مباشرة إلى العائلات المالكة أو إلى من هم في مراكز السلطة والقرار ومن يدور في فلكهم، أو لا يشكل جزءاً منها. هل يستطيع الكاتب أو المثقف أن يكون فعلا ليبرالياً ضمن هذه المؤسَّسات؟ هل يصح أن ننعته بالليبراليّة؟ ما مدى فسحة الحريّة التي يتمتع بها الكاتب العامل ضمن هذه المؤسسات؟ هنا لا أتكلم عن المساهمين الموسميين من الكتَّاب بل عن المحررين الدائمين في هذه المؤسّسات الإعلاميّة، مرئيّة كانت أم مكتوبة وخاصة عن محرِّري الصفحات الثقافيّة والفكريّة أو ما يعرف بالفكر اليومي. فالمؤسّسات الإعلاميّة المستقلة عن الرأسمال النفطي شبه مفقودة ونادرة؟ لقد تعدى الدور المؤثر للمال النفطي في وسائل الإعلام حدود الدول المنتجة للنفط ليطال المشرق والمهجر، وخاصة وسائل الإعلام المرئيّة الأكثر بروزاً وانتشاراً. وإذا كان السوق من مقوِّمات الليبراليّة ودعائمها فعلينا أن نفتش على وسائل الإعلام التي تؤمنّ حياتها واستمراريتها من السوق، أو بكلمة أخرى من القارئ. لأنّ المؤسّسة الإعلاميّة المستقلة، صحيفة كانت أم تلفزيوناً، لكي تكون حقاً مستقلة ومنبراً حراً لكتّاب أحرار يجب أن تؤمن استمراريتها من مصدرين لا ثالث لهما: من اشتراكات القرّاء ومن الإعلانات. فالتمويل الخاص والنفطي يجعلان الصحيفة وكتّابها خارج حدود المساءلة والمحاسبة من القارئ، مما يفقدها بُعد العلاقة والتأثير المتبادل بين الكاتب والصحيفة من جهة، والقارئ من جهة أخرى، أو المشاهد في حالة الوسائل المرئيّة. فالتمويل النفطي «يحرِّر» وسائل الإعلام من مسؤوليتها تجاه القارئ والمشاهد ويُخرِجهما من دائرة الاهتمام والتأثير، بذلك تتحول وسائل الإعلام إلى وسائل أو بوق إيديولوجي من أجل تأمين استمراريّة إنتاج الثقافة المهيمنة وعدم إعطاء الفرصة للثقافة المعارضة والبديلة من الوصول بحريّة إلى القارئ. وهنا تفقد الليبراليّة أهم مقوماتها: السوق الحرة والمنافسة. حينئذ يجوز القول إنّ الذين يقولون بالليبراليّة من المثقفين العضويين الذين يعملون في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة المملوكة والممولة من خارج السوق والمستهلك لا تنطبق عليهم قيم الفلسفة الليبراليّة بكل أبعادها. فكون الكاتب ينتقد الأنظمة القمعية (وهذا ضروري وإيجابي) كسوريا والعراق سابقاً وإيران أو ينتقد منظّمات ذات إيديولوجيّة دينيّة كحماس أو حزب الله، فهذا لا يضعه في صفوف المثقفين الليبراليّين بكل ما تعنيه الليبراليّة السياسيّة؛ وخصوصاً إذا كان من الذين يلوذون الصمت عن غياب أبسط مقوِّمات الحياة السياسيّة والاجتماعيّة بكل أبعادها في بعض البلدان النفطيّة. فنقدهم هو نتيجة تعارض هذه الدول والتيارات وإن بدرجات متفاوتة وربما مؤقتاً للسياسة الأميركية وحلفائها من العرب وليس نتيجة إيمان راسخ بقيم الفلسفة الليبراليّة.
[ كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركية
السفير