المثقف، السياسة والطائفية
زياد ماجد
يمكن القول إن ازمات لبنان الحديثة، من ال58 وال69، ثم حربه الأهلية من ال1975 الى 1991، وصولاً الى أزمته الكبرى المستمرة منذ اغتيال الرئيس الحريري عام 2005 وما أعقبها من انتفاضة استقلال أنهت الهيمنة السورية عليه (اللاحقة لاتفاق “الطائف”)، انطلقت على الدوام من خلاف حول موقع البلد في الصراع الإقليمي وأحلافه وتعاطي هذه الأحلاف معه، ثم تموضعت في ساحة التنافر الطائفي الداخلي والتنافس على الأحجام داخل السلطة، ففاقمت كل مرة عجز “الديمقراطية التوافقية” عن إيجاد حل للخلافات داخل المؤسسات الدستورية، دافعة بها الى “الشارع” المعبّأ.
تجاه هذا الوهن الداخلي المزمن، وتجاه هذا الانكشاف الوطني للخارج الساعي الى تجسيد مصالحاته أو صداماته في الساحة اللبنانية، لم يكن المثقفون اللبنانيون بأكثريتهم محايدين. فقد كانوا في معظم المراحل وفي أكثر الأزمات حاضرين كتابة وندوات وبحثاً وأحياناً انتماءً الى تيارات سياسية دفاعاً عن هذا الخيار أو ذاك، مصطفين على ضفتي الصراع مباشرة أو على نحو غير مباشر.
وليس الأمر بالمستغرب، طالما أن أحدى مهام المثقف – بما هو “كائن عضوي” في مجتمعه يحوّل معارفه الى أدوات تفكيك وتشريح للواقع ينتج من خلالها الأفكار ويقرأ الأحداث ويتعاطى معها – هي الالتزام بقضايا والدفاع عن قيم.
ولا شك أن الوضع الراهن باستقطاباته يحرّض المثقف على القول والعمل دفاعاً عن فكرة أو موقف. لكنه أيضاً، وبعد وصول الاصطفاف الشعبي – السياسي والطائفي – الى مرحلة غير مسبوقة من الحدة، يحرّضه ولو من موقع سياسي على لعب دور نقدي من جهة، وعلى محاولة تقديم خطاب ضنين بالسلم الأهلي وبفكرة تحصين المؤسسات السياسية لتحتضن الخلاف والحوار من جهة ثانية.
ذلك أن انفلات الغرائز في الشارع والنزوع الى العنف مقتل للمثقف وخنق للثقافة والفكر والابداع.
على أن ملاحظات عديدة ينبغي تسجيلها عطفاً على ذلك:
– الاولى، أن الخيارين المطروحين للبنان اليوم، رغم كل التبدّلات والهنّات في التحالفات، هما خياران سياسيان بامتياز، بين من يريد الحدود الوطنية مشرّعة على الصراعات، ومن يحاول إبعاد لبنان عن أهوال المنطقة، ولو انتمى أصحاب الخيارين الى قوى ذات طبيعة وعقلية طائفيتين.
– الثانية، أن الحلول المطروحة لإيجاد تسوية بين الخيارين تقوم على إعادة توزيع الأحجام طائفياً داخل السلطة، كي لا يتمكن أي خيار من فرض مسلكه على الخيار الآخر.
– الثالثة، أن القوى الطائفية الكبرى في لبنان هي صاحبة مشروعية شعبية وليست فقط أدوات أو مداخل للعبور الى المحاور الإقليمية.
– الرابعة، ان الخطاب السياسي والطائفي السائد بلغ مرحلة خطيرة من الشحن والتخوين في ظل وجود أسلحة وقوى تعتمد العنف المغطّى بالهالات الدينية.
– الخامسة، ان القوى السياسية – الطائفية (وغير الطائفية) لا تملك مشروعاً ثقافياً ولا تطرح الثقافة كبعد من أبعاد الصراع إلا في بعض البيانات الفضفاضة وبطريقة فولكلورية (“ثقافة الحياة” أو “ثقافة المقاومة”، إلخ…) بعيدة عن المفترض طرحه.
من هنا، تزداد مسؤوليات المثفف وواجباته صعوبة ودقّة. فهو مطالب باستقلالية وبحس نقدي وبتحليل موضوعي وبموقف، وهو مطالب أيضاً بجهد (فردي وجماعي) لإنتاج أفكار وتقديم بدائل عن السائد. كما أنه ملزم بالتعاطي مع الواقع الطائفي بوصفه واقعاً غير مصطنع أو مؤقت، وملزم في الوقت عينه برفض الانصياع للسلوكيات السياسية والاجتماعية الطائفية وللعصبيات والعلاقات “الأولية”.
هل ينجح المثقف في التوفيق بين هذه المهام؟ وهل ينجح في خلق حالة اختراق للاصطفافات الطائفية؟ لا يبدو الأمر مضمون اليوم، ولو أن الكثير من المثقفين هم فعلاً، كأفراد، في مواقع تخترق تلك الاصطفافات. لكن النجاح ليس شرط المحاولة. فالتأسيس لتحصيله يوماً ما، يتمّ من خلال السعي الدائم لبقاء المثقف – بموقع سياسي محسوم أو بغيره – حراً، نقدياً، مسمياً الأمور بمسمّياتها ومقدّماً لأفكار تؤسس لاختلاف ولتغيير ولرحابة أفق. والاهم، أن لا يتذرع “بشتم الطائفية والعصبيات” لينسحب من واجباته ومن وظيفته التغييرية…