هل علينا أن نثق بخيارات جنبلاط من دون نقاش؟
منى فياض
صبيحة خطاب جنبلاط (مع حفظ الالقاب طبعاً)، كنت مارة في محلة البربير وسمعت رجلاً يقول للآخر: “قرَطْهم جنبلاط”. وكون الرجل يقول هذا الكلام في ذلك المكان يعني انه يعبر عن رأي رجل الشارع العفوي في مواقف جنبلاط الأخيرة!! فالموقف الأخلاقي كان يفترض التروي أو التدرج على الأقل قبل اتخاذ مثل هذه المواقف الدرامية المتطرفة التي تلت الانتخابات وقبل ان تتشكل الحكومة.
لذا السؤال المحيّر للجميع، هو الـ”لماذا” التي تقف خلف الشكل الحاد والقاطع الذي اتخذه التحول الأخير. طبعاً هناك نوع من الاعتياد على تحولات الزعيم الدرزي وسلوكاته التي صارت تتسم أكثر من أي وقت مضى بالتبدل. ويكفي في كل مرة أن يقول: عفواً! أعتذر… لقد أخطأت لكي يغتفر له أي موقف أو سلوك.
لا بأس بالغلط ولا بأس بالاعتذار عنه أيضاً، لكنْ لكل ذلك حدود منطقية وسياسية ايضا. ثم يجدر بمن يطبقه أن يلحظ أن ما يقبله لنفسه يجب أن يقبله لغيره.
الجميع يعي تماماً وضعية جنبلاط الدقيقة وانه الزعيم المسؤول عن طائفة تعد من “أكثر الأقليات أقلية” في المنطقة اذا أمكن القول. والجميع يقدر شعوره بالخذلان من الحلفاء إثر أحداث 7 أيار وبغض النظر عن تحمله مسؤولية التصعيد تجاه سوريا او “حزب الله” او “الارتماء” تجاه المحافظين الجدد، لكن الأمر لم يخلُ من حسنات “جانبية”، لأنه بيّن فائدة وضرورة عدم اللجوء الى العنف والغرق في حرب أهلية جديدة.
ولا شك أيضاً في ان الأخطاء تراكمت عند فريق 14 آذار بشكل كاد يكون مميتاً وخيضت المعركة من جانب قوى 14 آذارانطلاقا من سلوك حزبي ضيق وحسابات فردية لم تلتزم بالممارسات السياسية المبدئية اوالأخلاقية، ما أدّى إلى غياب الكثير من الممثلين الفعليين الذين يمكنهم العمل على إرساء دولة القانون والمؤسسات لمصلحة الممثلين ذوي الطابع الفئوي أو التقليدي الطائفي. لكن ذلك لا يستدعي التخلي عن اقتناعات وأهداف الجمهور الاستقلالي الذي أنقذ لبنان من تجربة السقوط في نظام أقرب الى التوتاليتارية وإلى “العروبة” التقليدية المعروفة بمزايدتها وبقمعها للحريات…
ومع أن الكثيرين يشعرون بالحاجة الى إيجاد إطار ما يتعدى الانقسام الحاصل بين 8 و14، لضرورة الأمر ولكثرة ما تراكم ويتراكم من أخطاء عند البعض. لكن هل تستدعي هذه الوسطية التخلي عن السيادة او اتفاق الطائف او القرارات الدولية؟ وهل تستدعي التطرف وإعادة إحياء استقطابات بدايات الحرب الاهلية؟ كما ان الوقوف مع القضية الفلسطينية والعروبة والانفتاح على الشيعة وايران وعدم استعدائهم أو مصالحة سوريا لا تستدعي التضحية بـ”لبنان أولاً” ولا باستعداء بعض عناصر الداخل. كما ان الوسطية يمكن ان تمارس من داخل الأطر الموجودة وتبعاً للاستحقاقات المستجدة وليس استباقها بشكل متسرع.
مع ذلك تجدر الاشارة الى ان الأخطاء لم تأتِ من جميع أركان 14 آذار، ويجب التمييز بين مختلف الاتجاهات، وهناك من نجده مارس أقل نسبة من الأخطاء مع ذلك يقع أكثر اللوم عليه، وأقصد جعجع مثلاً، الذي اتسم سلوكه العلني على الأقل (ونحن لا نعلم ما في القلوب) وتجاه مجمل القضايا بالاتزان وبعدم التطرف منذ خروجه من السجن. ربما اخطأ خلال الحرب وارتكب مع حزبه الكثير من جرائمها ولكنه الوحيد الذي اعتذر عنها بطريقة ما مع انه ليس الوحيد الذي ترأس مثل ذلك الحزب أو انتمى اليه..
والسؤال إذن هل هناك من يحق له الاعتذار ونقبل اعتذاره ونسامحه في انتظار اعتذار مقبل عن أخطاء مقبلة، وهناك من لا نقبل منه ذلك مهما فعل؟ وهناك من يجب أن نسامحه على تحولاته فيما نرفض ذلك للآخرين؟
وبالطبع الانتخابات هي نتاج اصطفافات سياسية تقليدية وسابقة على المنطق الديموقراطي، وخاضعة في جزء كبير منها لسيكولوجية التعصب والحشود. لكن بالاضافة الى عدم تميز أي طرف على هذا الصعيد، هل يعني ذلك الهروب الى الامام عبر العودة الى شعارات فقدت معناها!!
فلماذا يكون شعار “لبنان أولاً” مضاداً للعروبة ولفلسطين؟ ولماذا تأخذنا شعارات السيادة والحرية والاستقلال الى لبنان الانتداب؟
ثم هل يكفي رفع شعار العروبة لكي نطمئن على مستقبل لبنان؟ وأي عروبة هذه المقصودة؟ أتلك التي خبرناها مجرد تعبير خطابي واستخدام لفظي لم يرتبط في أذهاننا سوى بفشل الوحدة بين مصر وسوريا وبهزيمة 1967 وبتحولها مجرد غطاء للقمع ولاستبداد الأنظمة التي تمارس الممانعة اللفظية فيما هي تقدم المهادنات والتنازلات شبه – السرية!!
أوَليست العروبة ايضاً، لأي شاب عربي، مرادفا للفشل والعنف والتعصب وانعدام الشفافية والكسل وانعدام المسؤولية وضعف الانتاجية وانعدام الحريات الفردية والشخصية؟
وعلى المستوى السياسي ألا ترتبط العروبة بالاستبداد والديكتاتورية والتبعية والتسلط والفساد وسيطرة المنطق الميليشيوي والصراعات الدموية العشائرية والقبلية والمذهبية؟
من هنا لا يكفي رفع شعار العروبة بل ينبغي تعريفه ولا اعتقد أن العروبة في الفهم الحديث الذي نريده لها وندافع به عنها، أي مقترنة بسيادة القانون وباحترام المؤسسات الديموقراطية التي تعتمد المساءلة والمحاسبة والشفافية وتحترم حقوق الانسان وحق الانظمة والافراد بالاختلاف، تتناقض مع فكرة لبنان السيد والمستقل والحر أولاً وأخيراً، والصديق مع ذلك للشقيق ولغير الشقيق.
أما “عن ضرورة توسيع رقعة التحالف مع احزاب وحركات وتنظيمات وشخصيات تلتقي في ما بينها موضوعيا وفكريا وسياسيا في ما يتعلق بعروبة لبنان والنظام الطبقي، وفي حماية صفوف الفلاحين والعمال والدفاع عن القضية الفلسطينية وفي ما يتعلق بعلاقات مميزة مع سوريا ومن خلالها مع العالم العربي”، فهو أمر ضروري وملح، لكن عدا عن أن أكثر ما يحتاجه “العمال والفلاحون” هو الاستقرار السياسي وتسهيل تشكيل الحكومة وحلّ مشكلة المحاصصة والفساد، على جميع الصعد؛ فإن هذه “الطبقات” وقبل أن ترمي نفسها في هذا التحالف المقترح ألا يجب أن تثق بقيادتها المقترحة وأن يُفَسر لها أيضاً تعريف معنى طبقي ويساري؟! فإذا كانت مرجعية هذا التحالف اركيولوجية تستعيد تجربة الاتحاد السوفياتي الشمولي وغير الديموقراطي وتجربة الأحزاب الشيوعية المعهودة التي لا تختلف عن التجارب الأصولية الحالية، فلا أعتقد انها تجربة مغرية لأحد أو قابلة لأن تتكرر لأي جمهور سواء أكان درزياً او علمانياً… أولاً لأن التاريخ لا يعيد نفسه الا على شكل مهزلة كما يُردد، وثانياً لأن فشلها لم يترافق مع أي مراجعة نقدية جدية، وثالثاً إن بديهيات الأمور تفترض بمن يقودها أو يقترحها ألا يكون جزءاً عضوياً من النظام السياسي الطائفي والمذهبي ولو “موضوعياً” وليس بخيار فكري واعٍ وإرادي!!
وسوف أكون أكثر صراحة: هل سوف تنجذب الفئات الشابة أو الكوادر غير الطائفية وغير اليمينية أوالتنظيمات والتكوينات المشار اليها للالتحاق والتحالف مع الزعيم التقليدي والطائفي “موضوعياً” الذي يرئس “الحزب التقدمي الاشتراكي” حقاً، لكن الدرزي ايضاً؟ سواء رضي الزعيم بهذا التوصيف أو رفضه فكرياً!!
وأمر آخر أيضاً يزيد في صعوبة المهمة، وهي الطريقة نفسها لاقتراحه للتغيير، هل يجدها ديموقراطية؟ هل يجدها تأخذ الرأي العام على محمل الجد؟ هو نفسه المراد إنقاذه فلا تُحتَرم خياراته بل تُفرض عليه “الخيارات” من فوق. وهذا سلوك زعامة تقليدية، سلوك بيك اعتاد أن يأمر فيُطاع!! أين اليسارية والتقدم أو الديموقراطية في كل هذه المقاربة؟
ذلك انه يوجد في لبنان الآن رأي عام، ولو انه يعبر عن جزء من الشعب اللبناني، فالجزء الآخر لا يزال غير متبلور كرأي عام ويتصرف كتابع مطيع أكثر منه كمرشد لقيادته. وما يقوم به جنبلاط يخذل الجزء الحقيقي والفاعل من الرأي العام الذي انتخبه على غير ما يذهب إليه أخيراً. وهذا مناقض لمبدأ الاصلاح والديموقراطية. صحيح أن على القائد مخالفة الجمهور او الشعب عندما يشعر بخطورة الوضع، لكن الزعيم هنا يخلط بين جمهورين، الجمهور الدرزي الذي ربما له العذر في أن يشعر تجاهه بمسؤولية مبررة ويريد أخذه الى مكان آخر. ولكن هذا لا ينطبق على الجمهور الآخر الذي يتعامل معه بالطريقة نفسها.
هذا من ناحية، لكن من ناحية أخرى أجد أن هذا الموقف يعبر عن اعتقاد داخلي عميق بالتملّك، فهو أكثر من ساهم في إيجاد ودفع ثورة الاستقلال وتجمّع 14 آذار ويشعر تالياً، انطلاقاً من ممارسته التقليدية للزعامة ولموقعه، انه يحق له أن يتخلى عما ساهم أساساً في إيجاده!
لكن المشكلة ان ما نساهم في إيجاده أو خلقه، سواء أكان كائناً حياً او إبداعاً فكرياً أو سياسياً او أي شيء آخر، لا يعود ملكنا ويخرج عن سيطرتنا!! وأهداف 14 آذار والجمهور الأمين عليها ليس ملكية خاصة لأحد وسوف يُدَافع عنها من قبل أصحابها الحقيقيين لأنها تعبر عن خيارات مستقبلية وديموقراطية متقدمة.
يحق لجنبلاط القيام بالخيار الذي يريد، لكن في المقابل يحق للرأي العام التخوف والحذر من هذا الالتفاف المتسرع بكل المقاييس حتى المتعلقة بمصلحة صاحبها نفسه، ما دام لا يعرف خلفيته الحقيقية ولا دوافعه العميقة الا اذا وثق ان جنبلاط يعلم بالغيب!! لكن التاريخ القريب والبعيد لا يبرر هذا الاعتقاد.
(استاذة جامعية)
النهار