المراجعة كتعبير عن التموضع داخل «مطهر» أو بين مطهرين
حسن شامي
موسم المراجعات والمكاشفات مزدهر. حصل ذلك ويحصل في غير بلد في المنطقة وعلى غير صعيد. قد لا يكون غريباً أن يأتي التعبير عن هذه المراجعات، أو حتى الحاجة اليها، حاملاً قدراً لا بأس به من الالتباس. فالمراجعات لا تقفل باب التأويلات المختلفة، إذ أنها تحض عادة على نقل المناظرة من لغة سائدة وتمثيلات شائعة وجاهزة الى لغة تعيد الاعتبار الى المسكوت عنه وتقترح النظر اليه وفيه باعتباره واقعاً لا يحتمل الإنكار أو التمويه. ففي غضون الأيام القليلة الماضية، عرفنا في الأقل ثلاثة «نماذج» عن مكاشفات ومراجعات يستحسن التأمل في دلالة كل منها من دون أحكام جاهزة، وان كان المجال ضيقاً، هنا، للإحاطة بجملة الظروف التي أحاطت بها ومهدت لها.
لدينا، في حالة أولى، تصريحات أدلى بها وجه بارز من وجوه قيادة الحركة الإصلاحية في ايران، وهو محمد علي أبطحي الذي نفى حصول تزوير في الانتخابات الرئاسية الأخيرة واتهم الإصلاحيين بتدبير الاضطرابات. صدور هذه التصريحات أثناء محاكمة علنية لرجل تعرض للاعتقال يلقي، بطبيعة الحال، ظلالاً من الشك على صدقية «قول الحقيقة والاعتراف بالخطأ»، بحسب ما قال في المحكمة ومن ثم في مؤتمر صحافي وظهور تلفزيوني. من الصعب تبديد الشك في صدقية تصريحات أبطحي الذي شغل منصب مدير مكتب الرئيس السابق محمد خاتمي، ما دام الرجل قيد الاعتقال. مع ذلك من الشرعي أن نتساءل إذا كان صحيحاً ان مكاشفة أبطحي مجرد أو محض «اعترافات» انتزعت منه بطريقة معهودة في النظم الشمولية والمحاكمات الستالينية، أو أنها دعوة الى اعادة تموضع لفريق من التيار الإصلاحي الفضفاض المتعدد الأمزجة والحساسيات والحسابات. بعبارة أخرى، ماذا لو كان صحيحاً ما يقوله بعض الإصلاحيين من أن أبطحي «لديه مشروعه الخاص». (الحياة في 5 آب/ أغسطس الجاري).
ما يجيز هذا التساؤل أن «المراجعة» قد تأتي من أقطاب بارزين في التيار الإصلاحي. وقد تكون المراجعة عنواناً لإعادة تموضع داخل خريطة القوى والمراكز المتنافسة داخل النظام، في المعنى العريض لكلمة النظام، وخارجه. فقد صرح المرشح الخاسر مهدي كروبي لصحيفة «الباييس» الإسبانية بأنه سيواصل، هو والمرشح الخاسر الأكبر مير حسين موسوي، الاحتجاج و»لن نتعامل مطلقاً» مع هذه الحكومة. «لن نضرّ بها، لكننا سننتقد ما تفعله». وأضاف كروبي، وهنا بداية المراجعة واعادة التموضع: «نعتبر أنفسنا جزءاً من النظام. خلافنا ينحصر في الانتخابات، لا نشكك في النظام… الحقيقة ان الغالبية لا تقبل أساليب نجاد ولا لغته أو أسلوب حكمه». بعبارة أخرى، وبشيء من الاختزال، يبدو النزاع في ايران نزاعاً داخل السرايا وهو يستند الى مخاوف فريق بارز من أن يؤدي انتصار محمود أحمدي نجاد وشعبويته، الى تهميش مواقعهم ومصالحهم. ولا يعني هذا أن مئات الآلاف الذين نزلوا الى الشارع واشتبكوا أو واجهوا القوى الأمنية هم جموع مخدوعة، بل يعني أن هناك انقساماً ترفده فئات اجتماعية مختلفة تتحصّن بشرعيات متفاوتة، في مقدمها الصراع بين شرعية اجتماعية وبين شرعية معيارية يكفلها حتى اشعار آخر نظام الجمهورية الإسلامية ودستورها. التسوية بين الشرعيتين ممكنة خصوصاً إذا فهم نجاد، ومن خلفه المرشد، رسالة الشارع وتعبيرها عن تململ حقيقي. ويفترض هذا صوغاً للانقسام يتعدى حشر كل طرف للآخر في «مطهر» تختبر فيه النيات وتملى املاء شروط الشرعية الوطنية.
الحالة الثانية للمكاشفة تتعلق بالمؤتمر العام السادس لحركة «فتح» الذي عقد قبل أربعة أيام في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية والذي لم تكن نتائجه قد ظهرت لدى كتابة هذه السطور. الخطاب الشامل الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس لافتتاح المؤتمر زعم قدراً من المراجعة أو المكاشفة التي رأى فيها البعض مصارحة في توصيف الواقع الفلسطيني وآمال شعبه أو ما تبقى منها. ووجه المكاشفة لا يكمن في الإقرار بحصول أخطاء، ولا في مد اليد الى حركة «حماس»، ولا في ترسيخ الاعتقاد بأن «خيارات شعبنا صعبة»، ولا في التضخيم البلاغي الذي يجعل من عقد المؤتمر «بحد ذاته معجزة، ويشكل عقده على أرض الوطن معجزة ثانية». بل هو يكمن في حديثه عن أنه لا يزال هناك بصيص أمل، على رغم عبثية المفاوضات. وبصيص الأمل هذا يعود الى أن الولايات المتحدة، وللمرة الأولى، تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مصلحة أميركية، كما ان «إقامة دولة فلسطينية مستقلة باتت مصلحة دولية، وإسرائيل هي التي تقف عائقاً أمام ذلك». بحسب الرئيس أبو مازن أنه، بكلامه هذا، يحشر الإسرائيليين في الزاوية. ويغيب عن باله أن ما يحسبه رمزياً معجزة، يمكن أن يعده وزير الدفاع ايهود باراك كرامة من «كرامات» الدولة العبرية. فهذا الأخير، وخلافاً لوزير الإعلام الذي اعتبر كلمة محمود عباس «إعلان حرب» على إسرائيل، رأى ان إسرائيل لا تتدخل في القضايا الداخلية للفلسطينيين، كما «أتحنا لمن استطاع الوصول أن يصل الى المؤتمر من أجل أن تحظى قرارات المؤتمر بأوسع شرعية ممكنة»، إذ ان القرارات التي ستصدر «ستؤشّر الى مدى نضج الجانب الفلسطيني في شأن مواصلة المفاوضات مع إسرائيل».
يمكن القول ان صراحة أبو مازن تجعل الرهان الوطني الفلسطيني تركيباً بين مطهرين: واحداً أميركياً وآخر إسرائيلياً، وبصيص الأمل الفلسطيني مرهون كله في نجاح الإدارة الأميركية الحالية في تسليط مطهرها، الغامض الملامح، على الحكومة الإسرائيلية التي تبقي السلطة الفلسطينية في «مطهر» شروطها وتطلباتها واختبارها التربوي الى درجة النضج والاعتدال عند ضحاياها. وهذه ليست مراجعة ما دامت منتهية قبل أن تبدأ.
الحالة الثالثة تتعلق باستدارة الزعيم اللبناني وليد جنبلاط وقلبه الطاولة وخريطة الاصطفافات في لبنان، بعد إعلانه عن انتهاء علاقته بقوى 14 آذار واقترابه من الخط التوافقي الذي يعبر عنه رئيس الجمهورية ميشال سليمان. ثمة من يرى في القنبلة التي فجرها جنبلاط امتثالاً لدفتر شروط سورية تسبق المصالحة الإقليمية والمصالحة الداخلية اللبنانية، والقبول بمواصفات مطهر إقليمي يحدّد المقبولين والمرفوضين. على أن تصريحات جنبلاط المسبوقة برسائل تمهيدية قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، أطلقت وستطلق أكثر وأكثر حركة مراجعة نقدية في صفوف فئات كانت تنضوي في 14آذار. وهذه المراجعة مطلوبة، في ما يتعدى تقلبات المزاج الجنبلاطي المشهود له بالحنكة والاحتراف، بعد أن مات الاصطفاف مسرحاً للصراع بين «مطهرين» يزعم كل واحد منهما حيازة الشرعية الوطنية كلها.
الحياة