في خطورة التبسيط
زياد ماجد
لم تحجب المراوحة السياسية الداخلية وما يتخلّلها من تصريحات “مثيرة” للنائب وليد جنبلاط (تستدعي نقاشاً مستفيضاً قد يكون الخوض فيه ضرورياً مع تبلور ملامح التموضع الجديد لرئيس الحزب التقدمي) خطورة بعض المواقف الصادرة عن مسؤولين في “حزب الله”.
ومكمن خطورة المواقف هذه هو في تبسيطها لقضايا سياسية لبنانية وإقليمية ودولية شديدة التعقيد في مرحلة حبلى بالاحتمالات.
في الأسطر التالية، تطرّقٌ لثلاث مقولات تكرّرها المواقف المشار إليها.
– “لسنا بحاجة لضمانات لا لسلاحنا ولا للمحكمة الدولية”
تتناول هذه المقولة مسألتين، لكل منهما شقّان داخلي وخارجي.
فالسلاح مشكلة داخلية تعاظمت منذ سنوات وكان 7 أيار أبرز تجلّياتها. وهو كذلك على تماس مع القضايا الخارجية نتيجة القرارين الأمميّين 1559 و1701، ونتيجة العلاقات الإقليمية، وطبعاً نتيجة التهديدات الإسرائيلية واحتمالات حروبها بالمباشر مع إيران أو بالواسطة مع حليف طهران اللبناني.
أما المحكمة، فهي أولاً دولية، ولاتهاماتها انعكاسات على مجمل علاقات المعنيين بها. وهي ثانياً لبنانية لكون ما سيصدر عنها ذا انعكاسات مباشرة على الديناميات الداخلية في لبنان، السياسية والقضائية والمذهبية والأهلية.
فكيف يمكن في حال وُضع “حزب الله” (أو وضع نفسه) في عين العواصف وفي موقع التهديف، إن في قضية السلاح وارتباطاته واحتمالات حروبه أو في شبهات المحكمة واتهاماتها أن تكون الأمور مطمئنة الى هذا الحد، وأن تكون الحاجة للضمانات – الداخلية على الأقل – منتفية؟
يمكن فهم المكابرة أحياناً في الشؤون الصغرى، ويمكن استيعاب الرسائل السياسية لرفع المعنويات أو للردّ على الابتزازات أو للتأكيد على مواقع القوة والشكيمة. لكن ما لا يمكن فهمه أو تبريره هو النظر الى القضايا العظيمة الخطورة بوصفها شؤوناً بسيطة لا حاجة للتحاور أو للتضامن حيالها…
– “تل أبيب مقابل الضاحية والحرب القادمة ستغيّر خارطة المنطقة”
تتوجّه هذه المقولة الى الاسرائيليين والعالم، والى اللبنانيين، وبخاصة القاطنين في الضاحية الجنوبية لبيروت. وتتوجّه أيضاً الى العرب والى السوريين أنفسهم، إذ يصعب اعتبار دمشق خارج خارطة “الشرق الأوسط”… وتهدف الى القول إن معادلة أي حرب مقبلة لن تكون بأقلّ من ضرب تل أبيب، ولن تقف عند الحدود اللبنانية الإسرائيلية، بل ستمسّ كل حدود المنطقة وتوازناتها السياسية.
وهذا يتطلّب ليتحقق، تغيير أنظمة وتعديل معاهدات وحدود، وتبديل تحالفات، أو أقلّه إحداث صدمة إقليمية كبرى تترك تداعيات عميقة في المنطقة.
فهل هذا الأمر ممكن في عالم اليوم وعلاقاته وضوابطها؟ وهل هو متاح لحزب محلي أن يغيّر خرائط إقليمية؟ وهل يتطلّع حلفاء الحزب الخارجيين الى هذا التغيير أساساً أم أن في الكلام ما يوحي برسائل غير مباشرة لهم؟
أما معادلة تل أبيب – الضاحية، فتترك باب التأويلات مفتوحاً على معادلات قرى الجنوب والبقاع ومدنهما، مضافة الى معادلات بيروت ولبنان عامة بناسه وطرقاته ومؤسساته وبناه التحتية والفوقية… وهي، حتى ولو هدفت الى رفع مستوى التحدّي لردع الاسرائيليين، لا تكفي للطمأنه بعد أن شهدنا معادلة حيفا – الضاحية منذ ثلاثة أعوام.
كان يمكن القول مثلاً إن النتائج السياسية المترتبة عن أي عدوان لن تكون بأفضل لإسرائيل من نتائج حرب تموز 2006 التي لم تحقّق خلالها حكومة أولمرت أهدافها رغم التدمير والقتل الجماعي (وهما في أي حال ليسا بالتفصيل)! لكن استسهال الكلام يدفع الى “بهورات” لفظية لا تفيد أصحابها. فكيف “بأهلهم” وسائر المحيطين بهم؟
– “لا فارق بين أوباما وبوش وغيرهما من الرؤساء الأميركيين”
تتكرّر هذه العبارة منذ فترة، على شكل لازمة للخطابات المتناولة شؤوناً خارجية. وهي لا تعكس جهلاً بالواقع الأميركي فحسب، بل وتعكس أيضاً مناعة تجاه محاولات فهم السياسات الدولية للقوى العظمى بالمتحرّك فيها والثابت.
فأن يكون التماثل هو الحكم المبرم على بوش الإبن وأوباما، وأن يكون صاحب حربَيْ العراق وأفغانستان الرافض لفترة طويلة التدخل في الموضوع الفلسطيني والمحاط بنخبة من الإيديولوجيين الشديدي الولاء لإسرائيل ولمفاهيم التغيير بالقوة للأنظمة والمجتمعات متماهياً مع خصمه الواعد بالانقلاب على ميراثه، الساعي لمصالحة أوروبا والعالم والمركّز على المسائل الاقتصادية والاجتماعية داخل بلاده، والمحاول دفع إسرائيل الى التفاوض الجدّي مع الفلسطينيين، فالأمر يدعو للعجب.
هل هذا يعني أن لا ثوابت في السياسة الأميركية؟ طبعاً لا. وهل هذا يعني أن أميركا ستتراجع عن دعمها لإسرائيل؟ طبعاً لا ثانيةً. لكن الفارق بين الدعم الإيديولوجي غير المحدود، والدعم التقليدي المرفق بضغوط وسعي للتسويات ليس بسيطاً. أما الفارق بين الأحادية القطبية والتعاون الدولي وما يمكن أن يتيحه من فرص نتيجة التنوّع والتعدد فأقلّ بساطة.
على أن العقول التصنيفية والتعميمية عندنا قادرة، إن قُيّض لها بقلة إدراكها للاختراقات الممكن إحداثها في ظل إدارة براغماتية ونظام يتأثّر بالإعلام و”باللوبيينغ”، على دفع الأميركيين الى الانكفاء من جديد عوض الاختلاف مع الإسرائيليين في لحظة تبدو فيها الكيمياء السياسية (والشخصية) بين أوباما – ميتشل ونتنياهو – ليبرمان شبه مفقودة.
فهل هذا ما نريده؟ وهل لا ضرورة لحملات إعلامية ولجهود ديبلوماسية باتجاه الإدارة الأميركية الجديدة وسائر إدارات دول العالم لحثّها على التدخل وممارسة الضغط على الإسرائيليين لإنهاء الاستيطان والانسحاب من الأراضي المحتلة والامتناع عن إقحام المنطقة في حروب جديدة؟
إن واحدة من مآسينا في العلاقة مع العالم، كانت اقتران الضعف العسكري والاقتصادي بالجهل والكسل الديبلوماسيين وبالتسليم على الدوام بتبعات التواطؤ الأميركي الإسرائيلي دون محاولات جدية وعقلانية لمقارعتها.
فإذا بالبعض هذه الأيام يعتقد أنه عدّل الميزان العسكري، وهذا يكفيه.
المشكلة أنه لم يعدّله فعلاً (أو كفاية) من جهة، وأنه أغرق في اعتناق نظرية المؤامرة وتصنيفاتها السهلة من جهة ثانية. فبات حتى في بعض ما قد يكون عدّل أشدّ ضعفاً وقدرة على التأثير الخارجي، تماماً كما صار بسبب التكبّر ورفض الضمانات أكثر عرضة للعزلة وللنبذ الداخلي…