إبطال مفاعيل الكلام
خيري منصور
عندما تتكرر الكتابة في شأن ما، وتبقى محكومة بالمراوحة بين سؤال خجول وإجابة ناقصة، فإنها تفقد ما تبقى من نفوذ، ويصبح التعامل معها ضرباً من حل الكلمات المتقاطعة لتزجية الوقت لا أكثر ولا أقل، وما كتب خلال الشهور الماضية عن الاقتتال الفلسطيني، وما يوازيه من حوار مرعيّ هو أشبه بحوار بين شجرتين، تتشبث كل منهما بجذورها ولا تقترب من الأخرى انتهى إلى أوراق مغمورة بالحبر، ولا تصلح لأي كتابة أخرى، هذه القطيعة غير مفهومة على الإطلاق بين ما يكتب وما يمارس، فإما أن المعنيين بالأمر لا يقرأون أو أنهم يقرأون بعين واحدة، والأخرى مغمضة إن لم تكن عوراء.
إن ما ينتاب العربي الآن حد أبعد من القشعريرة سواء كانت تعبيراً عن الاشمئزاز أو عن الشعور بالخذلان الأشد من صدمة كهربائية، فما حدث هو من الناحية السايكولوجية إرهاق عاطفي أدى إلى حالة من الضجر والإقلاع عن الرصد والمتابعة، ما دامت الأحداث تتكرر على الوتيرة ذاتها، وما دام النفق لا يفضي إلى أي ضوء أو حتى ثقب في نهايته.
وأصبح لزاماً علينا أن نبحث عن أسباب أخرى لهذا التآكل الوطني غير الأسباب المعلنة والتي يجري تسويقها عبر “ميديا” لا تخلو من تواطؤ، لأنها تحتاج إلى علف على مدار الساعة، بل اللحظة، ولا تطيق البطالة دقيقة واحدة عن نشر الغسيل على حبالها حتى لو كان ملابس داخلية مبقعة بالدم، وقد بحت الأصوات وكلّت الأصابع من الكتابة، ولكن الصرخات كلها ترتطم بحائط سميك من اللامبالاة، وإدمان حك الجرح كي لا يلتئم وهذه حسب التعبيرات النفسية نوع من الماسوشية، التي يتلذذ ضحيتها بتعذيب الذات وحين لا يجد ما يعذبه يخترعه، حتى لو كان هو نفسه من يتولى هذه المهمة.
لكأن الكلام يمضي في جهة مضادة للوعي السائد والطلاق بائن بين ما يقال وما يُفعل، لهذا يصاب المشتغلون في حقل الألغام هذا بإحباط دوري، لأنهم يشبهون من يكتب رسائل، ثم تعاد إليه تحت شعار معروف هو لم نعثر على المرسل إليه.
لقد آن لنا جميعاً أن نخرج من هذا المدار الرتيب ونسأل أنفسنا أولاً، ما جدوى ما يكتب إذا كان هناك إصرار على مواصلة الخطأ لدى من أخذتهم العزة بالإثم.
إننا أحياناً نصبح بنصف لسان ونقول إن الأرض لا تدور كما فعل غاليليو هرباً من محاكم التفتيش، ثم نقول لأنفسنا سراً ولكنها تدور ولا ندري أين هو ذلك الحاسوب الأمين والذكي المؤهل لإحصاء خسائرنا في هذه الحقبة، فهي ليست اقتصادية أو حتى عسكرية وسياسية بقدر ما هي أخلاقية وتربوية، فثمة أجيال محكوم عليها أن ترضع مع الحليب كل هذه الشوائب بحيث يتسلل الفيروس الذي أفسد البالغين إلى مهدد الأطفال والمدارس تمهيداً لمرحلة قادمة نتأكد فيها أن أبناءنا وأحفادنا سيضرسون كل هذا الحصرم الحامض الذي أكلناه.
إن كل أمثولات التاريخ ذات الصلة بالضحية التي تفرغ غضبها في ضحية تتمدد بجوارها بدلاً من إفراغ هذه الشحنة في الغزاة، تتراجع أمام ما يجري في واقعنا العربي.
فالكيان الصهيوني لم يعد بحاجة إلى شراء الوقت لأنه يحصل عليه بالمجان، ولعل من نجوا من وباء الزهايمر السياسي الذي عصف بأمة يتذكرون ذلك الرهان الصهيوني القديم والمتجدد على تشظية الوطن العربي. وابتكار قضايا بديلة تشغله وتستغرقه كي يبقى بعيداً ومغترباً عن قضاياه، ولو كان شكسبير يعرف العربية لشطر مفردة الكلمات التي وردت على لسان هاملت إلى نصفين.. هما الكل.. مات.