في قلب التخلف العام
علي محمد فخرو
في مقال لافت للنظر كتب الصحافي البريطاني روبرت فيسك في جريدة “الإندبندنت” اللندنية عن موضوع التخلف المتجذر في الأرض العربية. وكانت نبرة الحزن والأسى واليأس واضحة، معبرة عن حب في قلب هذا الرجل لساكني الوطن العربي الكبير وعن شعور بالخيبة من بقاء مجتمعاته آسنة لا تتغير ولا تتبدل، ولقد أورد الكاتب أمثلة امتدت من قذارة شوارع مدن وقرى بلداننا التي تعبر عن قلة اهتمام الفرد بما هو خارج بيته، وبالتالي ضعف التزامه الاجتماعي تجاه الآخرين إلى قضايا مفصلية كبرى من مثل التعثر الأزلي في موضوع الديمقراطية أو موضوع الفساد المالي والذممي في مؤسسات الدولة أو موضوع الاستباحة الامبريالية الخارجية التي مارسها ولايزال يمارسها الغرب عبر كل الأرض العربية.
روبرت فيسك عندما يكتب يكون صادقاً مع نفسه ومعنا، ومواقفه المتعاطفة معنا في الصراع العربي- الصهيوني وفي الاقتحام الامبريالي للعراق معروفة ومبثوثة في كل مقالاته وكتبه، ولذلك فعندما يصرخ متوجعاً لحالنا ومن أجلنا فإن الواجب هو الالتفات إليه.
في اعتقادي أن السيد فيسك طرح سؤالاً محورياً ومحيراً له ولنا: كيف يمكن لفوائض مالية عربية هائلة أن تكون غير قادرة على بناء إنسان عربي أفضل وأرقى من الإنسان الموجود حالياً في أرض العرب؟ لماذا لم تستطع هذه الأموال محو الأمية في المجتمع العربي؟
لماذا لم تنتج الجامعات العربية بشراً مبدعين ومنتجين وقادرين على تغيير مجتمعاتهم نحو الأفضل؟ لماذا لم تستطع كل تلك الثروة بناء اقتصاد تنموي إنتاجي غير طفيلي وغير ريعي متخلف؟ ويستشهد روبرت فيسك تقارير برنامج الأمم المتحدة للتنمية عبر السنوات الخمس الماضية التي تشير إلى فواجع كارثية في كل مجالات الحياة العربية.
لكن في اعتقادي أن الكاتب لم يستطع طرح المسائل الثقافية- الفكرية بسبب كونه غير ملم بلغتنا وغير مكتوٍ بلهيب نار بعض معضلاتنا الثقافية. وفي قلب كل موضوع الثقافة مسألة المسائل المتمثلة في موضوع الفقه الإسلامي. فمنذ السقوط المفجع للوزن العربي في الخلافة الإسلامية وازدياد الأخطار الخارجية عمد الفقهاء المسلمون، خوفاً من الفتنة وضعف الداخل بصورة أكبر، إلى قلب المدرسة الفقهية بكل فرقها وأطيافها، إلى مدرسة تقليدية جامدة، مدرسة تكثر الحديث في الجوانب النظرية لتتحاشى إعطاء الإجابات المتعلقة بالحياة العملية وعلى الأخص في حقول السياسة والحكم والاجتماع والاقتصاد. لقد وضعت لنفسها ولغيرها حدوداً صارمة واعتبرتها خطوطاً حمراً لا يجوز تجاوزها.
اليوم، والأوطان العربية والإسلامية تواجه الاستباحة الخارجية بصورة شاملة، فإن المدارس الفقهية كلها، السنية والشيعية، وغيرها، تمارس نفس الخوف ونفس الانغلاق والجمود الذي مورس في الماضي، وهذا بدوره يؤثر في الحياة العربية برمتها، فالجمود الفقهي لا يمكن إلا أن يعكس نفسه، بسبب قوة وتجذر الدين في وجدان العربي وعقله، على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية العربية. فقضايا مثل الديمقراطية والخروج على الحكم الظالم ومكانة المرأة في المجتمع والمستجدات اليومية التي تطرحها الحضارة الحديثة، وغيرها كثير، مرتبط أشد الارتباط بفهمنا للفقه وأحكامه وبمن يقوم بالعملية الفقهية ومدى استقلاليتهم الفكرية والمادية، وبالتالي بمدى التغيير الجذري الذي يمكن إحداثه في ساحة الفقه، فكراً ومنهاجاً وتنظيماً وحرية في التعامل وتقليلاً من الحصر والتضييق المتزمت.
بفقه لا يريد أن تكون له مواقف عملية واضحة في القضايا التي تمس حياة البشر في الصميم، ولا يريد أن يواجه الظلم والطغيان والاستبداد السياسي، ولا يريد أن يبدع أدوات تطويره الذاتي خوفاً من اتهامه بالبدعة والضلالة، سيصعب على المجتمعات العربية، مثل ما يقول روبرت فيسك أن تخرج من تخلفها التاريخي.
الخليج