تهافت الداخل في إيران يقوّض دورها الإقليمي
ميشيل كيلو
بعد كل حديث عن إيران، يبقى السؤال: ماذا سيبقى من زعامتها ودورها الإقليمي؟
بعد الانتخابات الرئاسية وما أعقبها من مظاهرات، بدا كأن هناك مشكلة في النظام الإيراني. أما اليوم، وبعد أقل من شهر على نشوب الأزمة، فهناك إجماع شبه تام على أن نظام إيران صار هو المشكلة، لأنه يعاني معضلات متنوعة متشعبة لا يعرف كيف يتخلص منها، ولا يملك القدرة على التحكم فيها وإدارتها، ويفتقر إلى الوسائل الضرورية لعلاجها، لأسباب منها:
* الخلافات المستشرية داخل الطبقة السياسية- الدينية- العسكرية الحاكمة، التي تكثر فيها اجتهادات مستمدة من مصادر شرعية متنوعة بدورها إلى حد حيّر من يتابعونها، وبلبل حتى المؤمنين من مواطني إيران بقدرة رجال الدين على إدارة شؤون بلادهم. في زمن الأزمة يمثل تعدد الاجتهادات علامة سيئة، فهو يعني تفتت الشرعية وتقسيم ولاء الشعب على مراكز الاجتهاد، المتوطنة داخل السلطة وخارجها، والمنتشرة، في معية أتباعها من رجال الدين، انتشاراً واسعاً جداً فوق كامل رقعة المجتمع والدولة، الأمر الذي يؤدي إلى انفراد خلافاتها بدورها فوقهما، ووصولها إلى كل بيت وقرية، خاصة بعدما ظهر الولي الفقيه كطرف في نزاع على السلطة بين تيارين في الطبقة السياسية، وتحول إلى طرف من أطراف الاجتهاد، لكنه افتقر، للمرة الأولى منذ توليه منصبه، إلى الإجماع اللازم على شرعيته، التي لطالما استمدت قوتها من انبثاق الشرعيات الجزئية والمحلية منها أو من اتصالها معها؛ ومن امتلاك كل رجل دين محلي جزءاً كبيراً أو صغيراً منها في الأحوال العادية، يجعله ضرباً من نائب محلي للولي الفقيه، ويكسبه دوراً محلياً ينبث على مستوى القاع المجتمعي كله. عندما تتخطى الخلافات، في وضع كهذا، عتبة معينة، فإنها تتحول إلى انقسام عمودي يشطر المجتمع والسلطة والدولة. فهل تخطت خلافات النخب الإيرانية هذه العتبة؟ ثمة دلائل كثيرة ترجح أن هذا ربما يكون حدث أو في طريقه إلى الحدوث، منها التصريحات العدائية المتبادلة بين المحافظين والإصلاحيين، المشحونة أكثر فأكثر بالتوتر والاتهام، والتي تتطاير بوتيرة متسارعة من هذه الجهة ضد تلك وبالعكس، ويسهم فيها رجال دين من مختلف التيارات، ورجال سياسة وعسكر ومثقفون… ويظهر منها مدى الانقسام الحاصل داخل كل تيار، بما في ذلك التيار المحافظ، الذي يدعم نجاد اليوم ويشتمه بأقذع الألفاظ غداً، ويصدر طرف منه بياناً يبيح القمع، فيصدر طرف آخر رأياً يحظره ويحرمه، ويختلف ممثلوه في هذا الأمر أو ذاك، ثم يتفقون فجأة على إدانة ما يسمونه غطرسة نجاد وميله إلى التبجح وتحديه للمرشد، الذي أمره بالتخلي عن نائبه، لكن نجاد تجاهل الأمر، وحين تخلى عن نائبه عينه مديراً لمكتبه ومستشاراً أول له، وهو أمر أظهر إلى أي حد تدنت مكانة المرشد، وأكد أن مطالبة كروبي بتنحيته لم تكن نزوة أملاها الغضب والاستياء، وأن سعي رفسنجاني لسحب ثقة مجلس الخبراء منه ليس بالضرورة مخاطرة لا تحمد عقباها سيكون ثمنها باهظاً بالنسبة له، كما تقول بعض الأوساط المحافظة.
* اتساع دائرة الأزمة اتساعاً متسارعاً، رغم مرور قرابة شهر على انفجارها، وعمل جميع أوساط الحكم على معالجتها، كل بطريقته: هنا بالعصا والتهديد، وهناك بالموعظة الحسنة. وقد صحب هذا الاتساع تصاعد شديد في لهجة وخطاب طرفي الصراع: المحافظ والإصلاحي، وداخل مكوناتهما المتباينة وفي ما بينها، مما حوّل الخلاف على الانتخابات إلى تطاحن كلامي يعبر عن انفلات الحقد والكراهية، وجعل كل طرف يعامل الطرف الآخر كعدو يستحق الإقصاء والعقاب والقتل، كأن المختلفين فقدوا انتماءهم المشترك إلى سلطة واحدة وسلك واحد، وتحولوا إلى أعداء يتربص بعضهم ببعض، على غرار ما يحدث في الفترات السابقة مباشرة للحروب الأهلية، حين تزيح لغة التصعيد والتوتير لغة العقل والمنطق، وتسعى إلى شيطنة الآخر والقضاء المعنوي عليه، تمهيداً لسحقه جسدياً ومادياً، مع أنه كان يوصف إلى ما قبل سويعات بالأخ والصديق ورفيق الدرب والقضية. هذا التطور يذهب بسرعة نحو اللاعودة، ويقيم متاريس كلامية قد تنقلب بسرعة إلى متاريس من حجارة ورصاص، ويجر إلى المعمعة أعداداً متزايدة من المواطنين، تتم تعبئتهم لما هو أكثر بكثير من إصلاح أخطاء انتخابية.
أما نتائج هذه الأزمة، فهي تبرز في ما يأتي:
* حجم الهوة القائمة بين الإيرانيين: داخل مجتمع ودولة إيران. كرر أحمدي نجاد غير مرة أن إيران هي أقوى دولة في العالم. وأن شعبها يحتل المرتبة الأولى في السعادة بين شعوب العالم. كم كان الرئيس مخطئا؟ بعد الاحتجاجات، تبين أن “أقوى دولة في العالم” مجوفة من الداخل، وأن أسعد شعب في الدنيا يعيش على فوهة بركان، وإلا ما معنى بروز الانقسام الخطير، الذي جعل جماهير المجتمع الحديث من شباب ونساء تنحاز إلى الإصلاحيين، علما أن صحة خيارات وسياسات الحكومات والسلطات في أي بلد تقاس بمواقفها؟ وما معنى أن تؤيد نجاد قطاعات المجتمع المتأخرة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، التي يسهل التلاعب بعواطفها ويمكن أن تنسى بسرعة حقوقها، إذا أثيرت مشاعرها القومية أو الدينية؟ وكيف يمكن ردم هوة أدت إلى تشكل مجتمعين تفصلهما قيم متباينة، وتوجهات متعارضة، وأنماط ولاء متناقضة، يتبع أحدهما المحافظين من أنصار ولاية الفقيه، والآخر الإصلاحيين، الراغبين أساساً في الخروج من النظام، والذين فقدوا، بعد تجربة خاتمي الرئاسية، الرغبة في إصلاحه أو بقائه؟
تعيش إيران اليوم كابوس انكشاف هشاشتها، الذي يرجح أن يكلفها غالياً، بعد أن بين ضعف نظامها، الذي أعلن طيلة عقدين ونيف أنه مستقر وموحد ومستعد لحماية الآخرين. وزعم دوماً، على لسان نجاد بالذات، أنه يملك القوة اللازمة لذلك، وأنه تحول إلى موقع إقليمي حاكم لا يستطيع أحد في العالم فعل أي شيء في المنطقة من دون موافقته، وإن هو تجاهل مصالحه. اليوم، لم تعد إيران قوة موحدة داخلياً وفي مواجهة الخارج. ويرجح ألا يحتاج أحد في الغد القريب إلى موافقتها على حاضر ومستقبل المنطقة، وألا يقايض أحد قنبلتها الذرية بدور إقليمي حاكم يشمل مناطق واسعة من بلاد العرب وإفريقيا وأعماق آسيا، فهي أضعف وأعجز من أن تلعب دوراً إقليمياً انفرادياً أو مسيطراً، أقله قبل ترتيب بيتها الداخلي وإعادة النظر جديا في خياراتها وممارساتها الداخلية، وقبل أن تبلور أنماطاً مغايرة من الحكم، يصعب أن تبتكر وتطبق بين ليلة وضحاها، وسيلزم لبلورتها وتطبيقها وقت غير قصير. لم تنجح الاحتجاجات في إزاحة نجاد، لكنها نجحت في تقويض جزء كبير من “إنجازات” سنوات رئاسته الأربع الماضية، وخاصة منها ما يردده حول قوة إيران وقدرتها على لعب دور إقليمي واسع لا يجوز أن يشاركها فيه أحد، من العرب أو الترك، يفرض بحد ذاته على العرب والعالم الانصياع لها، وإلا انتزعت بالقوة ما لا تناله بالتراضي والتفاهم. كانت إيران تبدو كتلة متماسكة تستطيع فرض خياراتها الخارجية. واليوم، يتبين أن وضعها الداخلي أشد تهافتاً وضعفاً من أن تستطيع ترجمة تطلعاتها وخططها الإقليمية إلى واقع، وأن قيادتها صارت مجبرة على الانكفاء نحو الداخل، على بلدها ومشكلاته الكثيرة والمتفجرة، التي ثبت أقله إلى الآن عجزها عن إدارتها أو السيطرة عليها، بل وحصرها ومنع تفاقمها وثلم خطورتها، رغم ما تحمله من أخطار جدية عليها.
إذا كانت إيران لن تجري مراجعة لسياساتها الإقليمية، فإن حلفاءها الإقليميين من دول وأحزاب سيفعلون ذلك، بعدما انكشف المستور، كما يقال. يذكر حال إيران اليوم بحال السوفييت بعد أزمتهم الداخلية، فقد سارع حلفاؤهم إلى الغرب، ليعلنوا توبتهم أمامه وانحيازهم إليه. هذه التجربة مرشحة لأن تتكرر اليوم. ومع أن بعض الحلفاء لن يتخلوا عن مركزهم الإيراني، فإن بعضهم الآخر سيسارع إلى تغيير مواقفه، بالسعي إلى تفاهم مع الغرب عامة وأمريكا خاصة، عسى أن يضمن استمرار نظامه. هذا الانفكاك الإقليمي عن إيران، سيلعب دوراً غير قليل في تفاقم أزمتها وإضعافها، وقد يعزز تيار الواقعية في نخبها، ويرغمها على التواضع، بعدما أخرجها نجاد ومرشده من الواقع وتوهما أنها حقا أقوى دولة في العالم.
أبرزت الأحداث دور العسكر وبينت أنهم أكثر أطراف الصراع تشدداً، في أجواء تصاعد الخلافات وتحولها إلى تناقضات ضمن الطبقة السياسية وتياراتها، من غير المستبعد أبدا أن يعوض المحافظون نقص شرعيتهم من خلال الاتكال أكثر على دور العسكر، وهو ما سيفتح أبواباً واسعة أمام احتمالات داخلية وخارجية متنوعة، وخطيرة.
إلى أن تنتهي الأزمة على خير، كما نأمل ونتمنى، يجب أن يدرك العرب أنه لا إنقاذ لإيران بغير إصلاح وإصلاحيين، وعليهم أن يفهموا أن إنقاذها قد يسهم في إخراجهم من موتهم الشتوي الطويل، ما دامت إيران الإصلاح ستحترمهم، وستقلع عن تفتيتهم: بالمذهبية يوما، والتهديد بالسلاح كل يوم.
الخليج